التَحَدِّي الكبير المُقبِل للشرق الأوسط: الأمن النووي

أعلنت بلدانٌ عدّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن خططها لتبنّي الطاقة النووية كجزءٍ من تنويع الطاقة في المستقبل. وتُعدّ الإمارات العربية المتحدة في الطليعة بين قريناتها لجهة بناء أولى محطات الطاقة النووية العربية، لتصبح الدولة الأولى منذ سبعة وعشرين عاماً التي تبني أول مفاعل نووي. وفيما تسعى هذه البلدان إلى تلبية حاجاتها المتزايدة من الطاقة، فهي مضطرّة لأن تزن بين فوائد الطاقة النووية وتكاليفها والتهديدات الأمنية العميقة التي تشكلها هذه الطاقة ولو كانت سلمية.

حادثة فوكوشيما: غيّرت آراء دول عدة بالنسبة إلى الأمن النووي

بقلم بلال صعب ونيلسو غورين*

من بين كل الكوارث والنكبات التي حلَّت في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتسبّبت بمجازر وقتلٍ جماعي وتدميرٍ وتهديم في السنوات الأخيرة – بما فيها الحرب الأهلية، والإرهاب، والتطهير العرقي، والكوليرا، والمجاعة – لا يوجد واحدة بينها يُمكنها أن تُهدّد حياة الإنسان أكثر من خطر الطاقة النووية.
لا، نحن لا نتحدث هنا عن حرب نووية. على إفتراض أن إيران إلتزمت الوعود التي قطعتها لمجموعة الدول الخمس زائد واحد (الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن زائد إلمانيا) في العام 2015، ولن تسعى إلى صنع القنبلة بعد إنتهاء فترة خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2025، فإن خطر حصول الخصوم والأعداء في الشرق الأوسط على أسلحة نووية وإستخدامها ضد بعضهم البعض مُتدَنِّي الإحتمال.
مع ذلك، حتى لو تمكّنت المنطقة من تجنب سُحُب الذَرَّة المُدمِّرة، فإنه لا يزال يتعيّن عليها أن تتصدّى لتحديات نووية هائلة ناشئة: إنتشار برامج الطاقة النووية المدنية التي تفتقر إلى تدابير السلامة والأمن الكافية. ولا عجب هنا لماذا تبرّع الإتحاد الأوروبي فقط بمبلغ 20 مليون يورو لتطوير الطاقة النووية الآمنة في إيران.
يرى العديد من دول المنطقة، بما فيها مصر وإيران والأردن والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة، أن الطاقة النووية هي حل طويل الأجل لإعتمادها على الوقود الأحفوري. وفي دولة الإمارات، إكتمل بناء أول محطة للطاقة النووية، وهي “براكة”، وستبدأ العمل في العام المقبل. في تركيا، لا يزال العمل في محطة الطاقة “أكويو”، التي تبنيها وتملكها وتُشَغّلها شركة “روساتوم” الروسية، مستمراً على الرغم من السقطات والعثرات السياسية. كما وقّع الأردن إتفاقاً مع “روساتوم” لبناء أول محطة للطاقة النووية في البلاد بحلول العام 2023. وتهدف صفقة مصر لعام 2015 مع “روساتوم” إلى بناء أربعة مفاعلات نووية خلال السنوات الاثنتي عشرة المقبلة. وبدورها أعدّت المملكة العربية السعودية خطة طموحة لبناء ستة عشر مفاعلاً بحلول العام 2040.
لا يُمكن حقاً إلقاء اللوم على بلدان الشرق الأوسط للتفكير والإستثمار في الطاقة النووية. إن الطلب على الطاقة في المنطقة لا يزال آخذاً في الإرتفاع. وفي الفترة من العام 1971 إلى العام 2014، إرتفع إستخدام الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 402 في المئة، ويستمر هذا الإتجاه التصاعدي على قدم وساق اليوم. وفي حين أن إقتصاديات الطاقة النووية ليست واضحة كما قد تعتقد حكومات إقليمية كثيرة، فإنها يمكن أن تكون جذابة. كما يُمكن أن تكون الطاقة النووية أيضاً وسيلة فعّالة للتخفيف من آثار تغيّر المناخ وتحلية مياه البحر، مع عمليةٍ تستخدم الحرارة الزائدة من محطةٍ للطاقة النووية لتبخير مياه البحر وتكثيف المياه النقية. ويستجيب كلٌّ من هذين الإستخدامين للطاقة النووية لإحتياجات إقليمية مُلِحّة ومُهِمّة. بإختصار، لقد غادر قطار الطاقة النووية في الشرق الأوسط المحطة — منذ سنوات، في الواقع — ولا يبدو أن هناك شيئاً سيوقفه.
على الرغم من فوائده، فإن هذا التوسّع في توليد الطاقة النووية يُمكن أن يعني أيضاً مشكلة كبيرة للشرق الأوسط بسبب أسئلة وتساؤلات خطيرة حول السلامة الحالية، والضمانات، والأمن للطاقة النووية في المنطقة. لننظر إلى المخاوف الإسرائيلية بشأن المشروع النووي الأردني، على سبيل المثال. كان على الأردن نقل خطة أول محطة للطاقة النووية من العقبة إلى الأزرق شرق عمّان، لأن العقبة تقع في منطقة زلزالية نشطة. غير أنه ليس هناك ما يضمن أن الحكومات الإقليمية الأخرى ستكون متعاونة ومسؤولة مثل الأردن، بخاصة إذا كانت لها علاقات خصومة مع جيرانها.
وأظهر زلزال العام 2011 وكارثة فوكوشيما داييتشي في اليابان للعالم أن الأحداث الزلزالية الكبرى يُمكن أن تُعطّل أنظمة تبريد المفاعل وتُسبّب إنهياراً نووياً وتلوّثاً. ونظراً إلى أن منطقة الشرق الأوسط تفتقر إلى مياه التبريد وفيها نشاط زلزالي، فإن أي حادث في محطة للطاقة النووية يُمكن أن يؤدي إلى تلوّث عابر للحدود. وينبغي أن يكون التأهب للطوارئ والإستجابة لها من حيث المبدأ مسؤولية مشتركة بين الدول الإقليمية، ولكن لا يوجد إتفاقٌ من هذا القبيل اليوم في الشرق الأوسط.
وتُشير أبحاثنا إلى أن الشرق الأوسط ليس مُستعداً بَعد لنهضةٍ نووية. فمن المخاطر الحقيقية للإرهاب الإشعاعي والسرقة إلى إنعدام الحماية المادية والخبرة الأمنية النووية المحلية، ليس هناك نقصٌ في الأسباب التي تدعو إلى القلق العميق بشأن مستقبل الطاقة النووية في المنطقة. ووفقاً لمؤشر الأمن النووي لعام 2016، فإن تقييماً مستقلاً أجرته “وحدة الإستخبارات الاقتصادية” (Economist Intelligence Unit) وفريق دولي من الخبراء، وضع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مرتبة ضعيفة بالنسبة إلى حماية المواد النووية من السرقة، وهي مُعَرَّضة بشدة للتخريب النووي.
وقد وجدنا أن معظم الحكومات في المنطقة التي إعتمدت برامج الطاقة النووية تقوم بذلك على أساس تحليلات إقتصادية وإعتبارات تمويلية، كما تَبَيَّن وظهر في نموذج “بناء – تملّك – تشغيل” الذي تسعى تركيا إلى تحقيقه مع روسيا. ويتم التعامل مع العناصر غير النقدية مثل الأنظمة الخاصة بإدارة النفايات المُشِعّة على أنها أفكارٌ لاحقة يتم الاهتمام بها في ما بعد، فيما يجري بناء محطة الطاقة النووية.
إن الأطر التنظيمية المستقلة والتشريعات الوطنية بشأن محاسبة المواد النووية ومراقبتها إِمّا أنها غير موجودة في المنطقة أو غير متطورة. ولا توجد أيضاً خطط وطنية جادّة لتنمية الموارد البشرية وتدريب الموظفين على دعم برامج الطاقة النووية الناشئة هذه.
ويُمكن أن تشكّل الإستعانة بمشغّلين نوويين جدد في المنطقة، لا يتمتعون بخبرة نووية، وصفةً للكوارث. في حين أن غالبية الجيوش في الشرق الأوسط لديها وحدات كيميائية وبيولوجية وإشعاعية ونووية، فإنها ليست مُوَجَّهة نحو حماية المفاعلات النووية المدنية، حيث يحتاج الأمر إلى مشاركة وإنخراط شركات الأمن الخاصة في ضمان السلامة والأمن من داخل الموقع.
هناك تحدّ كبير آخر يتمثّل في الطبيعة المزدوجة لإستعمال المواد المُشعّة. من الواضح أن للدول حقوقاً سيادية في إستخدام هذه المواد لأغراض سلمية. وبما أن جميع المصادر المُشعّة تنبعث منها الطاقة، فلا يوجد حلٌّ تقني معصوم للتمييز بين المصادر الضارة وغير الضارة من دون إتخاذ تدابير أمنية إضافية. فحتى العناصر العادية التافهة مثل أجهزة كشف الدخان والأسمدة والقمامة والأغذية مثل الموز تنتج عادة إنذارات كاذبة.
وتُشير جميع المسائل المحيطة بأمن المواد النووية إلى الحاجة إلى تنسيق الجهود عبر الحدود الدولية لتحسين نُظُم الكشف القائمة وآليات الرقابة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا توجد مؤسسة إقليمية أو آلية تنظيمية لمناقشة أسلحة الدمار الشامل أو غيرها من الشواغل الأمنية الإقليمية من خلال تمثيل شامل من جميع الدول (على الرغم من وجود شبكة مراكز كيميائية، بيولوجية، إشعاعية، ونووية متميزة تموّلها المفوضية الأوروبية، وشبكة الأمم المتحدة للعدالة الجنائية ومنع الجريمة، ومعهد بحوث العدالة).
يُمكن للنُخَب الحاكمة في المنطقة أن تختار أحد الخيارات الثلاثة التالية: أولاً، يمكنهم أن يعتمدوا على الآليات الحالية ضد التهديدات الإشعاعية والنووية في ظل النُظُم الدولية القائمة. أو ثانياً، يمكنهم خلق آلية أمن إقليمية محلية. والخيار الثالث هو وضع إطار مُختَلَط. وقد تحتاج المنطقة إلى ترتيبات خاصة مُصَمَّمة خصيصاً لها، ولكن يمكن أن تسترشد هذه العملية بالنظم القائمة والمنظمات الدولية.
من العناصر الرئيسية في نجاح إنشاء إطار إقليمي للأمن الإشعاعي والنووي هو مواصلة الحوار من خلال عملية مؤسسية. وفي حين أن هذا الإطار لن يكون مُلزِماً قانونياً، فإن قواعد السلوك ستعترف بالمعايير والتوصيات.
وكحدٍّ أدنى، ستتضمّن الخطوات الرامية إلى وضع إطار إقليمي إنشاء سجلات وطنية للمواد الإشعاعية والنووية، وتحديد الثغرات في تشريعات البلدان ومدوّناتها الجنائية، ووضع تدابير للكشف عن المواد المشعة، ووضع المعايير، وتبادل أفضل الممارسات لتأمين وضمان مصادر هذه المواد بهدف بناء قدرة إقليمية.
سيكون الشركاء الدوليون، مثل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أطرافاً فاعلة رئيسية في بناء بنية تحتية على مستوى المنطقة وقادرة على التكيّف، وقوية للكشف عن المواد وضمان سلامتها. وستشمل التدابير التشغيلية الحصول على أجهزة كشف مُتقدّمة للنيوترون وغاما وأنظمة للكشف عن الإشعاع تستند إلى شبكات، فضلاً عن موظفين مُدرَّبين لإستخدامها، وبناء مراكز إقليمية لإدارة حالات الطوارئ. وتحقيقاً لهذه الغاية، إن خطة عمل الشرق الأوسط التي تتألف من الوقاية والكشف والتأهب والإستجابة يُمكن أن تكون مستوحاة من خطط عمل الإتحاد الأوروبي الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية.
وقد تشمل الخطوات التالية تشجيع الدول التي لم تُصبِح بَعد طرفاً في الإتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي على أن تفعل ذلك، والإلتزام بقواعد السلوك التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن سلامة المصادر المُشعّة وأمنها. وينبغي تشجيع الوافدين الجدد إلى النادي النووي على إتخاذ خطوات لمكافحة الإتجار غير المشروع من خلال ترتيبات مراقبة الصادرات، مثل مجموعة موردي المواد النووية المعنية بالصادرات ذات الصلة بالأسلحة النووية، ولجنة “زانغر” المُختصة بالمواد الإنشطارية، وفريق أوستراليا المعني بالضوابط التصديرية الكيميائية والبيولوجية. وتُنَظّم هذه النُظُم المتعددة الجنسيات لمراقبة الصادرات تجارة السلع ذات الإستخدام المزدوج والتكنولوجيات المتصلة بالأسلحة النووية التي يمكن تسليحها. وفي حين أن هذه المنظمات ليست مُلزِمة قانوناً، فإن الدول المشاركة تُنسّق ضوابط التصدير طوعاً وتُسهم في النظم العالمية لعدم الانتشار.
لقد حالت الأزمات والمآسي اليومية في الشرق الأوسط دون قيام صنّاع السياسات الإقليميين والدوليين بالتنبؤ والتخطيط للإتجاهات الأمنية والعلمية والتكنولوجية التي ستؤثر بشكل عميق في إستقرار المنطقة. ومن هذه الإتجاهات الطاقة النووية، التي من المؤكد أنها ستصل إلى المنطقة بكامل طاقتها. هل يُمكن الوثوق بدول الشرق الأوسط لإدارة هذه الفرصة الضخمة؟ إنضمّ إلى نادينا إذا كنت متشككاً.

• نيلسو غورين هو باحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه في مركز الدراسات الدولية والأمنية في جامعة ميريلاند. وبلال صعب هو زميل ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
• كُتِب الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى