حائط مبكى أخير

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

أنهكَتنا القمم، ولم يعد لدينا ما نسمعه من الشاشات المُخجِلة .. كل الشكر لمن رفع الحَرَج عن قوائمنا المُنهَكة وظهورنا المُتصلِّبة، وسمح لنا برصاصة رحمة تأخّرت طويلاً. كم مَلَلنا الوقوف على الأرصفة في إنتظار غوردو .. كم رأيناه فارساً مُلثَّماً يشقّ غبار البلادة ويمنح أرضنا الخصب والنماء .. وكلما لدغنا عقرب الوقت، توسّلنا بالمعجزات.
للبيتِ ربٌّ يحميه ويحمينا ويحمي شياهنا البليدة تحت الأشجار اليابسة في سنوات قيظ لا تُطاق. سيأتي يوسف – كم تمنينا – ليورق الدمع في عيني يعقوب وتثمر وجنتاه عنباً وتيناً، سيأتي المُنتَظر ليمزق بسيفه البتار فلول اليهود، ويوزعهم على أقطار الأرض ذراً وهباء، فإهدأ أيها العربي الثائر، فللبيت رغم كل هواننا وضعفنا وقلة حيلتنا ربّ يحميه.
كبرنا، وكبرت أمانينا البائسة، وإنتفخت بطوننا بالوعود المنبرية، فألقينا بأجرامنا المُترَهّلة فوق عكّازة الإنتظار. وكبرنا، وكبرت أحلامنا .. حتى تَيَبَّست أطرافنا الباردة. وفجأة، شقّ حُسامٌ أرعن أعواد القصب التي ظنناها قادرة على حملنا فوق طوفان الحزن وإعصار الألم. شكراً لمن منحنا لحظة إفاقة، ولو برصاصة رحمة في جمجمة أمة بحجم المحيط.
للأقصى ربٌّ يحميه، لكننا لن نستطيع بعد اليوم أن نحمي شياهنا ولا أن نهشّ عليها، ولا أن نرفع أعيننا لنتبجّح أمام التاريخ بأننا خير أمة أخرجت للناس. لن نستطيع أن نرفع جباهنا فوق مستوى الحدث، ولا حواجبنا فوق أسلاكهم الشائكة. ولن نستطيع إنتظار غوردو ولا الملائكة التي لن تأتينا في ظلل من الغمام لتضرب رؤوساً أينعت وحان قطافها.
شكراً لمن مزّق غشاوة الأمل الكثيفة أمام أعين رمداء كانت تتجاهل الحقيقة عامدة عن سبق إصرار وعجز. وشكراً لمن سرقوا ثيابنا وتركونا نرى عرينا في صحراء الأمم مُجرَّدين من الستر، كما تجرّدنا سالفاً من المروءة والإرادة والرغبة. وتعساً لرمال تغوص تحت أقدامنا حتى الفناء الأخير والصرخة الأخيرة تحت سيف جلاد لا يرقب فينا إلّا ولا عجزاً.
لم يعد لنا قدس لنحميه، لأننا ببساطة لم نعد له. أخذوا القدس وتركوا لنا حائط مبكى، يمتد من غلاف التاريخ إلى غلاف المنفى، لنبكي كالنساء مُلكاً لم نحافظ عليه كالرجال. لم يعد لنا قدس ولا براق، لأننا رضينا بالحياة الدنيا من الآخرة، وإستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأحببنا الدنيا كما لم يحبها أحد، وكرهنا الموت كما لم يكرهه حتى اليهود.
لا عزاء لمن ينتظرون النصر من فيل أبرهة ولا الطير الأبابيل، فقد نفدت ذخيرة صغارنا هناك من الحجارة، وذاقت جلودهم الناعمة حميم سجيل، وبخلنا عليهم برصاصات نَجود بها على خيولنا المُسنّة بكل سخاء. لا عزاء لِمَن يتلحّف بالتاريخ في وجه العاصفة، ولا عزاء لمن يجلس كعادته البليدة لينتظر مهدياً من مؤتمرات بليدة لا تلد إلا فئران ميتة لا زالت رائحتها العفنة تزكم أنوفنا منذ ميلاد. لا غوردو ولا مهدي ينتظر … فقط يأتينا الموت من كل مكان حتى يرث الحزن أرضنا ومَن عليها أو يتغمدنا الله برحمة لا نستحقّها بجدارة.

• عبد الرازق أحمد الشاعر أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى