كيف سيُشكِّل إعلان ترامب عن القدس السياسة الفلسطينية

بغضّ النظر عن الدوافع التي حدت بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى إتخاذ قراره الإعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل وبدء إتخاذ إجراءات نقل السفارة الأميركية للمدينة، إلا أن هذا القرار قد نسف عملياً كل مركبات البيئة التي راهنت واشنطن عليها في تمرير تصورها لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي أطلق عليه “صفقة القرن”، ذلك لأنه حين تبنّى “الوسيط” الأميركي موقفاً أحادياً مُسبقاً بشأن واحدة من أهم قضايا الحل الدائم، فإنه ضرّ بقدرته على الوساطة، وقلّص أيضاً هامش المناورة المتاح أمام القوى الإقليمية العربية، التي راهن عليها في مساعدته على تسويق هذه الصفقة، ووضع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في أصعب موقف يواجهه منذ وصوله إلى السلطة.

الرئيس الفلسطيني محمد عباس: وضعه صار صعباً

بقلم غيث العمري*

في 6 كانون الأول (ديسمبر) أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الولايات المتحدة ستعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وبالتالي ستنقل سفارتها من تل أبيب إليها، كاسراً وناقضاً بذلك السياسة الأميركية المتبعة بالنسبة إلى هذه القضية الحساسة منذ ما يقرب من 70 عاماُ. وقد وضع هذا الإعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس في موقف صعب. كان عباس يسير بالفعل على حبل سياسي مشدود: فهو في وسط عملية مصالحة حساسة مع منافسيه في حركة “حماس”، ويواجه شكوكاً شعبية عميقة بالنسبة إلى قيادته ودور واشنطن في عملية السلام.
من أجل إسترضاء الفلسطينيين العاديين ووقف الهجمات من منافسيه، ردّ بقسوة على إعلان ترامب، ومن المتوقع أن يتّخذ خطاً أكثر صرامة وصلابة تجاه عملية السلام، وموقفاً أكثر ليونة تجاه “حماس” مما كان عليه الأمر خلاف ذلك. بالنسبة إلى عباس والسلطة الفلسطينية، هذا الإعلان هو خبر سيّئ للغاية.

تغيير الوضع؟

سيجادل ديبلوماسيون ومحامون حول ما اذا كان إعلان ترامب يضرّ بوضع المدينة المقدسة في إتفاق سلام نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. (ترك خطاب ترامب موقف الولايات المتحدة مفتوحاً في ما يتعلق بما أسماه “حدود محددة للسيادة الإسرائيلية في القدس”). ولكن بغض النظر عن الجواب، فإن وظيفة عباس على وشك أن تصبح أصعب بكثير.
لسببين، لم يكن أمام الرئيس الفلسطيني سوى خيار يُدين فيه بشدة التغيير في السياسة الأميركية. الأول يتعلق بمكانته الداخلية. لا يُمكن لأي زعيم فلسطيني، ولا سيما إذا كان ضعيفاً مثل عباس اليوم، أن يكون قادراً على السباحة ضد تيار الإحتجاج الذي سيرتفع قريباً رداً على إعلان ترامب. كما لا يقبل عباس بأن يُنظَر إليه على أنه يتّخذ خطاً أكثر ليونة ضد الإعلان من “حماس” والدول الأخرى في المنطقة – مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وتركيا، على سبيل المثال لا الحصر – التي أدانت التغيير بالفعل.
القيد الثاني على عباس يدور حول عملية السلام. سوف يشعر الرئيس الفلسطيني بالقلق من أن يكون إعلان ترامب إنذاراً بتبني الولايات المتحدة بشكل كامل الموقف الإسرائيلي بشأن القدس – وهي أن القدس هى عاصمة اسرائيل غير المُجَزَّأة، ولا يجب ان تستضيف أي عاصمة فلسطينية – الذي يرفضه الفلسطينيون. “هذه الاجراءات مُدانة وغير مقبولة”، قال بعد بضع ساعات على خطاب ترامب. “إنها تقويض مُتعَمّد لجميع الجهود المبذولة لتحقيق السلام وتُمثّل إعلاناً لإنسحاب الولايات المتحدة من الإضطلاع بالدور الذي لعبته على مدى العقود الماضية في رعاية عملية السلام”، مضيفاً.
في المدى القصير، سيؤدي التغيير في السياسة الأميركية إلى تغيير التوازن بين الكتل الفلسطينية المختلفة. منذ تشرين الأول (أكتوبر)، تُجري حركة “فتح” التي يترأسها عباس محادثات للمصالحة مع “حماس”، التي تسيطر على قطاع غزة. وقد إتّخذ عباس خطاً صارماً في المفاوضات حتى الآن، وأصر بأنّ على “حماس” نزع سلاح جناحها العسكري ورفض إدماجه في السلطة الفلسطينية أو دفع رواتب البيروقراطيين الذين عيّنتهم “حماس” في غزة بعد الإستيلاء على القطاع في العام 2007. وسيكون من الصعب الآن على عباس أن يحافظ على تلك المواقف. ستجادل “حماس” بأن التهديد الذي يُشكّله إعلان القدس يتطلب الوحدة، وسوف تدفع إلى تخفيف شروط المصالحة بينها وبين “فتح”. وإذا أصرّ عباس على نقاطه السابقة، فإن “حماس” ستتهمه بوضع حركة “فتح” قبل الأمة والوطن – وهي تهمة من المرجح أن تكتسب زخماً بين العديد من الفلسطينيين.
إن آثار الإعلان ستتجاوز السياسة الداخلية. لقد ظل الجمهور الفلسطيني متشككاً منذ زمن طويل في إستعداد عباس للعمل مع الولايات المتحدة لإعادة إطلاق عملية السلام. إن إدارة ترامب لم تكشف حتى الآن عن خطتها للسلام، وأنه من غير الواضح ما إذا كانت ستطالب بتنازلات سياسية بعيدة المدى لا يُمكن الدفاع عنها من الفلسطينيين أو ما إذا كان حلفاء واشنطن العرب سيدفعون الفلسطينيين إلى القبول بمثل هذه التنازلات، كما إقترح بعض التقارير الأخيرة . مع ذلك، فإن الشائعات حول عملية السلام قد سَوَّدت بظلالها آفاق الفلسطينيين. إن الإعلان عن القدس لن يؤدي إلّا إلى تعميق شكوكهم في محادثات السلام المستقبلية وإهتمام عباس بها.
نتيجة لذلك، سوف يتعيّن على عباس قريباً مواجهة مُنافَسَة “حماس” وجماعات المعارضة الأخرى، التي تتهمه بالسذاجة – أو ما هو أسوأ – لأنه تعامل مع إدارة ترامب على عملية السلام في المقام الأول. كما أن بعضاً من حركة “فتح”، متشجعاً بشيخوخة عباس وتقدمه في العمر وضعف مكانته، سينضم إلى الجوقة، على أمل تلميع أوراق إعتماده الوطنية والقومية قبل حلول موعد السباق على خلافته. في ظل هذه الظروف، من الصعب التصور كيف سيكون عباس قادراً على العمل مع إدارة ترامب على خطة للسلام.

السلام في مهب الريح

إذا كان إعلان ترامب يحمل بين طياته شيئاً إيجابياً لعباس، فهو سيسمح له بحشد دول الشرق الأوسط خلف حكومته. كانت علاقات عباس مع معظم دول المنطقة متوترة في السنوات الأخيرة، وقد تعرّض أحياناً إلى ضغوط من جانبها. في العام الماضي، على سبيل المثال، حاولت اللجنة الرباعية العربية التي تضم مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة دفع الرئيس الفلسطيني إلى توضيح عملية الخلافة لحكومته. كما حاول بعض تلك الدول إقناع عباس بالعمل بشكل أوثق مع الولايات المتحدة، وثني السلطة الفلسطينية عن دعم قرارات الأمم المتحدة التي من شأنها أن تنفّر أو تُغضب واشنطن.
هذا الضغط سيتبدّد الآن، لأن الأزمة على القدس سوف تمتصّ الأوكيسجين من المحادثات الأخرى حول القضية الفلسطينية. هذه الدينامية الجديدة ستسمح لعباس بصدّ الضغوط الإقليمية من أجل تغيير محلي. وسيستخدم الفرصة لدفع زعماء المنطقة الى تبنّي مواقفه والضغط عليهم لإعتماد شروط الفلسطينيين المُسبَقة لإجراء مفاوضات مع الإسرائيليين والسعي الى إبعادهم من تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل حلّ القضية الفلسطينية.
مع ذلك، فإن آثار الإعلان بالنسبة إلى عباس ستكون سلبية بشكل عام. إن حكومته ضعيفة أصلاً، ويرجع ذلك جزئياً إلى إعتقاد الجمهور بأنها فاسدة وغير فعالة، وجزئياً إلى فشل الديبلوماسية في الوفاء بوعد السلطة الفلسطينية بالإستقلال الفلسطيني. سيؤدي قرار ترامب إلى مزيد من الضرر بشرعية عباس، مما سيدفعه إلى تبنّي مواقف متشددة ليتجنّب تطويقه من “حماس” وغيرها.
وقد دعت السلطة الفلسطينية الجمهور إلى النزول إلى الشوارع إحتجاجاً، ومن المرجح أن يقوم عباس بقطع تعاون حكومته الأمني مع إسرائيل، كما فعل في تموز (يوليو). وهذا سيزيد من خطر العنف. ومن المرجح أن تكون الإشتباكات في الأيام المقبلة.
من المستحيل التنبؤ إذا كان إعلان ترامب سيؤدي إلى إضطرابات طويلة أو إلى إنتفاضة ثالثة. لقد إزداد سأم الجمهور الفلسطيني من الإحتجاج منذ نهاية الإنتفاضة الثانية في العام 2005، وفي السنوات الأخيرة، لم تتحقق توقعات المراقبين عن إنتفاضة أخرى – كان آخرها بعد المواجهات التي إندلعت في مدينة القدس القديمة في تموز (يوليو). ومع ذلك، نظراً إلى الطبيعة العاطفية للغاية التي تمثلها القدس، ووفرة اللاعبين مثل “حماس” التي ترغب في إثارة إشتباكات مع القوات الإسرائيلية، والضعف السياسي للسلطة الفلسطينية، فإن خطر الصراع مرتفع. وحتى لو لم يحصل الأسوأ، فان إعلان ترامب سيترك في أعقابه سلطة فلسطينية ضعيفة، ووضعاً أمنياً متقلباً، وعملية سلام في مهب الريح.

• غيث العمري زميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومستشار سابق لفريق التفاوض حول السلام الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى