عودة روسيا إلى الشرق الأوسط: أهداف موسكو تتجاوز بلاد الشام

التدخل العسكري الروسي في سوريا في 30 أيلول (سبتمبر) 2015 فاجأ الكثيرين، لكنه كان منذ سنوات قيد الإعداد. لتقييم أسسه ونجاحه وآثاره، من الضروري أن نفهم كيف صُمِّمت ووُضِعَت سياسات روسيا الداخلية والخارجية في ظل الرئيس فلاديمير بوتين والطرق التي تؤثر فيها هذه السياسات في سياسة موسكو في الشرق الأوسط.

الرئيس فلاديمير بوتين: أهدافه أبعد من بلاد الشام

موسكو – باسم رحال

الوجود الروسي في الشرق الأوسط ليس جديداً. فقد أبدت روسيا القيصرية، وبعدها الإتحاد السوفياتي، إهتماماً كبيراً في المنطقة حيث إستُخدمت كساحة منافسة مع الغرب. ولم تتراجع روسيا عن المنطقة إلّا لفترة وجيزة في تسعينات القرن الفائت، خلال رئاسة بوريس يلتسين. وعندما وصل فلاديمير بوتين رسمياً الى السلطة في أيار (مايو) 2000، سعى الى إستعادة صورة موسكو كقوة عظمى فى سياق تجدد المعاداة مع الغرب. وضمن هذا الإطار، كان هدفه هو إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط. وكانت سوريا قطعة حاسمة في اللغز.
لدى بوتين أهدافٌ ومصالح متعددة في سوريا، إلّا أن إهتمامه الشامل كان مُنصبّاً دائماً على بقاء نظامه. في روسيا، تترابط السياستان الداخلية والخارجية في ما بينهما، وغالباً ما تصبح السياسة الخارجية أكثر عدوانية في أوقات الخلافات المحلية. ويعتقد بوتين بأن طول عمره السياسي يتطلب تعاملاً ماهراً وحاذقاً في علاقته مع الغرب ينطوي على مواجهة ومشاركة في الوقت عينه، وفي هذا السياق ينبغي أن يُنظَر إلى تدخله السوري. إن اهتمامه بسوريا لا يرتبط بالبلد نفسه بقدر ما يتعلق بالمكاسب التي يُحقّقها الكرملين على حد سواء محلياً أو بالنسبة إلى الغرب.
في نهاية المطاف، كانت سنوات من التمكين الغربي – تراها موسكو على أنها ضعف – التي جرّأت وشجّعت بوتين على التدخل. إن التعاون مع روسيا لن يجلب الإستقرار إلى سوريا لأن أولويات موسكو تكمن في مكان آخر.

ثنائية روسيا

شرع بوتين في مسارٍ إستبدادي بمجرد وصوله إلى السلطة، بادئاً بملاحقة الصحافة الحرة الوليدة في روسيا والتضييق عليها، وخالقاً “سلطة عمودية”. في البداية، إتخذ بوتين خطوات صغيرة، وكان الكثيرون في الغرب مُستعدّين لإعطائه الفرصة، خصوصاً وأن الحرب الباردة قد إنتهت، ولم تعد روسيا تُشكّل أولوية.
مع ذلك، فإن نظرة على الوثائق الرسمية الرئيسية في روسيا خلال حكم بوتين تكشف أنه على مستوى أساسي نظر الكرملين إلى الغرب بعداء وعدم ثقة منذ البداية. إن تقرير “مفهوم السياسة الخارجية” لموسكو الصادر في كانون الثاني (يناير) 2000 — الذي يهدف، من بين أهداف أخرى، إلى إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط – يُلقي الضوء على “محاولاتٍ لإنشاء هيكلٍ للعلاقات الدولية مرتكزاً على هيمنة الدول الغربية المتقدمة في المجتمع الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة”، فيما يؤكد على أن توسع حلف شمال الأطلسي كان من بين التهديدات الرئيسية التي تواجه روسيا. وبالعودة إلى أحدث نسخة لهذه الوثيقة في موسكو الصادرة في كانون الأول (ديسمبر) 2016، نرى أنها تُعبّر عن المشاعر عينها عندما تقول: “هناك مشاكل نظامية في المنطقة الأوروبية الأطلسية تراكمت على مدى ربع القرن الأخير تتجلّى في التوسع الجيوسياسي الذي ينتهجه كل من منظمة حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي”.
كانت هذه الأفكار المُناهضة للغرب مُتجذّرة في رؤية “عالم متعدد الأقطاب” التي سوّقها رئيس الوزراء السابق “العروبي” يفغيني بريماكوف، الذي كان يعتقد أن موسكو يجب أن لا تسمح لواشنطن بالسيطرة على أي منطقة – وخصوصاً الشرق الأوسط. هذا التفكير يوجّه الكرملين إلى يومنا هذا.
إنطلقت مُناهضة موسكو للغرب وعقلية الحصار في روسيا القيصرية، حيث كانت الحكومة غالباً تُشير إلى الغرب في الفترات التي تواجه فيها المتاعب لتشتيت الجمهور وإخفاء إخفاقاتها الخاصة. وقد واصلت الحكومة السوفياتية هذا التقليد. وفي الوقت نفسه، إعتمدت القيادة الروسية من بطرس الأكبر إلى جوزيف ستالين على التكنولوجيا والخبرة الغربيتين لمساعدة البلاد على التطور والتخلص من الصعوبات الإقتصادية.
في الواقع، لا يمكن لروسيا أن تواجه الغرب مباشرة، فهي تحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة. تسعى موسكو بدلاً من ذلك إلى تقويض النظام العالمي الغربي ببطء من خلال المشاركة وفساد نخبه. ويلخّص عنوان مقالة المحللة الروسية ليليا شيفتسوفا في آذار (مارس) 2017 الحال بوضوح: “روسيا لا يُمكن أن تعيش مع الغرب – أو من دونه”.

الخوف من تغيير النظام

شهد تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 بداية “الثورات الملونة” – إنتفاضات سلمية ضد الأنظمة الفاسدة التي اجتاحت فضاء ما بعد الإتحاد السوفياتي، بدءاً من الثورة الوردية (أو ثورة الزهور) في جورجيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا في أواخر 2004-2005. في ذلك الوقت، تأثر الشرق الأوسط أيضاً بالتغيير حيث إندلعت “ثورة الأرز” في لبنان في شباط (فبراير) – نيسان (أبريل) 2005.
رأى بوتين أن أيدي واشنطن هي وراء هذه الأحداث. وكرجل مخابرات سابق في وكالة الأمن السوفياتية (كي جي بي)، شاهد الإتحاد السوفياتي نفسه يُحرّض على الإنتفاضات لتقويض الأنظمة غير الصديقة. إن بوتين، الذي كان فهمه للغرب وخصوصاً الولايات المتحدة محدوداً دائماً، لم يتمكن من أن يتصوّر أن الغرب سوف يتصرف بأي شكل مختلف تجاهه. وبالنسبة إليه، فإن الإختلاف الوحيد بينه وبين الغرب هو الثروة. وبحسب أحد المحللين السياسيين الروس، “يعتقد بوتين بصدق أن “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا حرّضت عليها وزارة الخارجية الأميركية … و يكره الغرب لذلك”.
في تلك السنة، أصبح بوتين أكثر عدوانية بشكل ملحوظ في مجال السياسة الخارجية وأكثر إستبدادية على الجبهة الداخلية. ولتبرير التدابير المحلية، إستخدم إستيلاء الإرهابيين على مدرسة في بيسلان في أوسيتيا الشمالية في أيلول (سبتمبر) 2004 كسبب، على الرغم من أن محاولة الانقاذ التي قامت بها موسكو أدت إلى مقتل أكثر من 300 رهينة، كانت الغالبية العظمى منهم من الأطفال.
عندما بدأت الإضطرابات العربية في أيلول (ديسمبر) 2010، نظر إليها الكرملين بالطريقة ذاتها التي رأى فيها الثورات المُلوّنة – وبحلول هذا الوقت كان بوتين صار أكثر عدوانية. وأشارت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الكرملين إلى الإنتفاضات بأنها “فوضى”. وبالنسبة إلى الجمهور الروسي، أصبحت سنوات تسعينات القرن الفائت المضطربة التي أعقبت إنهيار الإتحاد السوفياتي مرادفة للفوضى؛ لذا وجدت الرسالة صدى مع الروس ودعمت بشكل غير مباشر فكرة الإنقسام من الفوضى مقابل فكرة النظام والأمن التي كان بوتين يعمل على تأسيسها منذ صعوده إلى السلطة.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، في أعقاب حملة قادتها الأمم المتحدة، واجه الديكتاتور الليبي معمر القذافي نهاية مروعة بعدما وجدته قوات المجلس الوطني الإنتقالي المدعومة من الغرب مُختبئاً في نفق في سرت. وقد شاهد بوتين، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس الوزراء، فى ذلك الحدث ثورة ملونة تؤيّدها الأمم المتحدة وتقودها الولايات المتحدة التى اطاحت زعيماً إستبدادياً آخر. في وقت لاحق من ذلك العام، إجتاحت روسيا أكبر الإحتجاجات المناهضة للحكومة منذ سقوط الإتحاد السوفياتي. وإتهم بوتين وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأنها شجعت و”أعطت الإشارة” للمتظاهرين للخروج إلى الشارع. في ظل هذه العقلية، لم يكن من المستغرب أن يقوم بوتين بدعم بشار الأسد عندما إندلعت الاحتجاجات في دمشق في آذار (مارس ) 2011. ولم يكن لدى بوتين أي نية للتخلي عن الرئيس السوري، لأن حماية الأسد تعني حماية نفسه.
ليس من قبيل المصادفة بأن الكرملين أصرّ دائماً على أن قواته ذهبت إلى سوريا بناءً على طلب الأسد لحماية “حكومة شرعية” ضد الإرهابيين. وقد تم تصميم هذا السرد لإيصال الرسالة إلى الجمهور الروسي بأن التمرد ضد أي حكومة هو دائماً خطأ. وقال بوتين في شباط (فبرلير) 2012: “لا يمكن السماح لأي شخص بمحاولة تنفيذ السيناريو الليبي في سوريا”.
يُذكر ان خطاب الكرملين حول تغيير النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم نما بشكل كبير في السنوات الأخيرة. في كانون الأول (ديسمبر) 2016، وصف أحد المنشورات الرئيسية التي يسيطر عليها الكرملين بشكل لا لبس فيه الإنتفاضات العربية بأنها “سلسلة من الانقلابات الحكومية … التي بدأتها الخدمات الأميركية الخاصة”. وفي حديثه أمام منتدى عام في آب (أغسطس) 2017، سلط وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الضوء على إقتناع الكرملين بأن واشنطن كانت وراء كل تغيير للأنظمة: “في أي مكان، في أي بلد في أوروبا الشرقية، في أوروبا الوسطى، هناك الكثير من الحقائق عندما تدير السفارة الأميركية حرفياً العمليات [السياسية]، بما في ذلك أعمال المعارضة … وأعتقد أنهم [الأميركيون] أنفسهم لا يعتبرونها تدخلاً لأنهم أولاً يعتقدون أنهم يستطيعون فعل أي شيء، وثانياً، إن ذلك في دمائهم”.

التوسع، المناطق العازلة، ومنافذ المياه الدافئة

توسّعت روسيا القيصرية دائماً، لكن هذا النهج خلق حلقة شريرة ومفرغة. فكلما إحتل الكرملين المزيد من الأراضي الطرفية، إستوعبت روسيا المزيد من العرقيات غير الروسية التي يكون ولاؤها للحكومة موضع تساؤل، وكلما أصبحت أقل أمناً وغير واثقة بالإستقرار في جوهرها. لذا عملت وسعت بالتالي إلى مزيد من المناطق العازلة من خلال المزيد من التوسع والقمع.
ولآنها قوة أرضية تقليدية، فقد سعت روسيا أيضاً إلى الحصول على موانئ في المياه الدافئة منذ بطرس الأكبر. وقد إتبع القياصرة اللاحقون، وخصوصاً كاترين الكبرى، هذا التقليد، كما فعل الإتحاد السوفياتي. حلت الأفكار الماركسية اللينينية السوفياتية محل مهمة روسيا المسيحية التاريخية لحماية المسيحية الأرثوذكسية، ولكن في الجوهر، شجع كلا النهجين العدوان والتوسع، فضلاً عن منع البلدان في المحيط من التقرب من الغرب.
بوتين، الذي لم يتغلب أبداً على أصوله الإستخباراتية في الكي جي بي، هو أحدث تكرار لهذا التاريخ. غزوتاه قبل سوريا – في جورجيا وأوكرانيا – إستهدفتا بلدين كانا يقتربان من الغرب ويمتلكان موانئ في المياه الدافئة. وفي كلتا الحالتين، وضع بوتين الأساس للغزو من خلال خطوات صغيرة لم يعترف الكثير من المحللين الغربيين بأنها كانت إستعدادات للحرب. ويُسمّى هذا النهج “ماسكيروفكا” (maskirovka)، وهو مفهوم روسي فريد من الخداع العسكري.
كشف غزو آب (أغسطس) 2008 لجورجيا العديد من نقاط الضعف في القوات المسلحة الروسية، مما دفع موسكو إلى الشروع في عملية إصلاح عسكري واسعة النطاق. في شباط (فبراير) 2012، جدّد بوتين التأكيد على تحسين القوات المسلحة الروسية، بما في ذلك سلاح البحرية. وكرر ذلك مرة أخرى في العام التالي: “أود أن أكرر مرة أخرى أن تطوير سلاح البحرية القوي الفعال هو إحدى الأولويات الرئيسية لروسيا”، قال في إفتتاح أول فئة جديدة من الغواصات الروسية منذ العام 1991. إن المُعتقَد البحري في تموز (يوليو) 2017 أُدرِج ضمن أهداف موسكو الساعية إلى منافسة “دول أخرى، أبرزها الولايات المتحدة وحلفاؤها؛ وهيمنتها على محيطات العالم … وأيضا التفوق الساحق لقواتها البحرية”.

علاقة خاصة مع دمشق

كانت سوريا حاسمة بالنسبة إلى موقف ووضع الإتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة، وقد جعلها موقعها – الذي يُحاذي البحر الأبيض المتوسط وإسرائيل ولبنان وتركيا والأردن والعراق – حليفاً إستراتيجياً حيوياً. كان حافظ الأسد، والد بشار، أقرب الحلفاء إلى موسكو في العالم العربي منذ إنشقاق مصر عن المدار السوفياتي في منتصف سبعينات القرن الفائت، وكانت لموسكو روابط عسكرية وإقتصادية وسياسية وثقافية عميقة مع دمشق. وعلى المستوى الشخصي، شعر السوريون بتواصل وتقارب مع الروس، الذين نظروا إليهم كأصدقاء وليس كما فعلوا مع دول أخرى في المنطقة.
بعد الحرب الباردة، إحتفظت موسكو بمرفقٍ بحري عسكري في طرطوس، قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج الإتحاد السوفياتي السابق، والموقع الوحيد الذي تحتفظ فيه بوجود دائم على شواطىء البحر الأبيض المتوسط. وقد وصل كلٌّ من بوتين وبشار الاسد الى السلطة فى العام 2000، وعملا منذ البداية على تحسين العلاقات بينهما. ومن جانبه أعرب الاسد عن إعجابه بجهود بوتين لخفض التأثير الغربي والجهود لخلق عالم “متعدد الأقطاب”.
تكثّفت تجارة الأسلحة بين البلدين بسرعة. وحدث تقدّمٌ كبير في العلاقات الثنائية في كانون الثاني (يناير) 2005 عندما أعلن الكرملين أنه سيشطب معظم ديون سوريا لموسكو التي بلغت 13.4 مليار دولار وبيع الأسلحة إلى دمشق. في المقابل، منح الأسد روسيا الإذن لتطوير المزيد من مرافقها البحرية في طرطوس واللاذقية. بين عامي 2007 و2011، إشترت دمشق 78 في المئة من أسلحتها من روسيا، بزيادة ستة أضعاف مقارنة بالسنوات الخمس السابقة.
بالإضافة إلى الأسلحة، أفادت التقارير أن إستثمارات الشركات الروسية في سوريا بلغت 19.4 مليار دولار في العام 2009، ولكن الأهم من ذلك أن لديها مشاريع بارزة في مجال النفط والغاز فضلاً عن محطة للطاقة النووية. في العام 2009، أفادت معلومات متطابقة أن الأسد رفض، تحت ضغط من موسكو، التوقيع على إقتراح قطري لبناء خط أنابيب للغاز إلى تركيا من خلال سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية لأنه كان سيقوّض موقف روسيا في سوق الغاز الأوروبية.
وهكذا، كانت لدى بوتين أسباب متعددة للوقوف إلى جانب الأسد، وهو ما فعله منذ البداية. وحماه بطرق عديدة، من خلال القروض والأسلحة والتجارة والدعم الديبلوماسي. ومن الأمثلة على الدعم الخفي والحاسم هو بيان جنيف الصادر في حزيران (يونيو) 2012، والذي حدّد خريطة طريق للأمم المتحدة لإنهاء العنف وإنشاء حكومة إنتقالية في سوريا. تحت إصرار الكرملين، بقيت الوثيقة غامضة حول أي جماعات من المعارضة يمكن إدراجها في الحكومة الإنتقالية. وقد سمح ذلك لموسكو بالتعامل مع أولئك الذين لم يطلبوا تنحي وإبعاد الأسد.
في العام 2013، زادت موسكو بشكل واضح وجودها في سوريا. وعندما إستخدم الأسد في آب (أغسطس) 2013 أسلحة كيميائية في الغوطة، إحدى ضواحي دمشق التي يسيطر عليها المتمردون، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1400 مدني، من بينهم أكثر من 400 طفل، عبر “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس باراك أوباما للتدخل العسكري. ولمنع إستجابة ورد فعل الولايات المتحدة، إعتمد بوتين، من بين أمور أخرى، على مفهوم سوفياتي المنشأ من “التحكّم الإنعكاسي” – فكرة لتشكيل تصوّر الموضوع لدى الفريق الآخر لجعله يفعل طوعاً ما أراد الكرملين منه أن يفعله. في كثير من الأحيان كان هذا الموضوع مهيأ فعلياً لهذا الاختيار، لذلك كانت المسألة مجرد الكبس على الأزرار الصحيحة.
كان بوتين يتصوّر بشكل صحيح أن الرئيس الأميركي لا يرغب في التدخل في سوريا عسكرياً وعمل على التأكد من أن رغبة أوباما ستسود. في أيلول (سبتمبر) 2013 قال بوتين: “لدينا خططنا”، في سياق مناقشة التدخل، وأرسل طراد “موسكفا” الحامل للصواريخ ومدمرة أسطول بحر البلطيق وفرقاطة من أسطول البحر الأسود إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
بوتين ليس شيئاً إن لم يكن عملياً وبراغماتياً. لم يكن لديه إهتمام ومصلحة بمواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. وكان الهدف من هذه الخطوات ألّا تُسبّب مواجهات بل زيادة الخوف من واحدة وتعزيز التصوّر بعدم القابلية بالتنبؤ عن نية بوتين. وفي الوقت نفسه، وضع بوتين صفقة يقودها الكرملين لتجنب العمل العسكري ضد الأسد مقابل قيام روسيا بالإشراف على إزالة ترسانة الأسد من الأسلحة الكيميائية – وهي موارد ساعدت موسكو الأسد على تجميعها في المقام الأول.
نجا الأسد من التدخل العسكري، ولكن لا تزال هناك شكوك حول مخزونه غير المكشوف. وإستمرت هجمات الأسلحة الكيميائية على نطاق أصغر، ووجد تحقيق أجري في أيلول (سبتمبر) 2017 عن جرائم الحرب قامت به الأمم المتحدة أن الأسد إستخدم الأسلحة الكيميائية أكثر من عشرين مرة في السنوات الست الأخيرة.
في تموز (يوليو) 2015، عندما كان النظام السوري يفقد الأرض، زار قائد لواء القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني موسكو لمناقشة الأوضاع في سوريا. وكان هذا على الأرجح الخطوة الأولى نحو التدخل الروسي، الذي سيأتي بعد شهرين. كانت هناك تقارير عن تزايد الحشد الروسي في سوريا، ولكن كما هو الحال في جورجيا، غاب معظم المحللين عن أهميته.
وبمجرد أن تدخل بوتين، فقد أثبتت أفعاله — ولا سيما حملة القصف الجوي — أنه يريد إجبار الغرب على الإختيار في سوريا بين تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والأسد. الغالبية العظمى من الضربات الجوية الروسية لم تستهدف “داعش”، بل في بعض الأحيان، عززه. وفي الوقت نفسه، ركز بوتين الجيش الروسي في سوريا ورسّخه من خلال إنشاء قاعدة حميميم الجوية، التي أصبحت أساسية لعمليات القوات الجوية الروسية. كما لعبت السفن الروسية في طرطوس دوراً رئيسياً في دعم حملة القصف الجوي لموسكو.
في آذار (مارس) 2016، أعلن بوتين أن روسيا قد أنجزت مهمتها في سوريا وسحبت “الجزء الرئيسي” من قواتها المسلحة، ولكن هذا كان خداعاً آخراً. بدلاً من ذلك فقد نما الوجود الروسي. لقد أصبحت حميميم قاعدة عسكرية جوية دائمة في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، فيما في كانون الثاني (يناير) 2017، مددت موسكو عقد الإيجار في القاعدة البحرية في طرطوس لمدة تسعة وأربعين عاماً مجاناً. وفي الوقت نفسه، أقامت روسيا محادثات سلام خاصة بها في أستانا، عاصمة كازاخستان، لتقليل دور محادثات جنيف للسلام.
في 4 نيسان (إبريل) 2017، أطلق الأسد أكبر هجوم كيميائي له منذ الغوطة على مدينة خان شيخون التي يسيطر عليها المتمردون في محافظة إدلب. ولأول مرة، ردّت واشنطن، التي هي الآن تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، بضربة موجهة ضد الأسد. بعثت الضربة بالرسالة الصحيحة، ولكن الرسالة يجب أن تكون مُتّسقة، وبدلاً من ذلك، إتضح أنها لمرة واحدة. وبمجرد فهم بوتين ذلك، أخذ زمام المبادرة مرة أخرى، مما ساعده على قيادة الجهود لوقف جزئي لإطلاق النار في جنوب غرب سوريا. وسرعان ما عادت واشنطن وموسكو الى التعاون على هذا البلد الممزق. بعد إجتماع بوتين وترامب في هامبورغ في 7 تموز (يوليو) 2017، تُوِّج هذا التعاون بوقف إطلاق النار الأخير وإنشاء ما يسمى مناطق تخفيف التصعيد التي تقودها روسيا وتركيا وإيران.
وأثار الإتفاق قلق إسرائيل لأنه لم يطلب من إيران وميليشياتها المتحالفة تجنب مرتفعات الجولان – الواقع بالكاد إعترف بدور طهران في سوريا. لكن بوتين حصل على ما يريده بالضبط: التعاون بشروطه الخاصة. إن مناطق تخفيف التصعيد التي تقودها روسيا لها إطار وقائي أضعف من منطقة حظر الطيران المدعومة من الغرب والتي كان من شأنها أن تساعد على إستقرار نظام الأسد أكثر.
إستخدمت موسكو قواتها العسكرية لمراقبة وقف إطلاق النار، ونشرت الصحف التي يسيطر عليها الكرملين روايات في كل الأنباء عن جهود روسيا لصنع السلام وعودة الحياة السورية إلى طبيعتها. في 31 تموز (يوليو)، إحتفلت موسكو بذكرى يوم البحرية الروسية، ولأول مرة، أقيمت إحتفالات في المناسبة في سوريا. وظهر الأسد في أقوى موقف عسكري يتمتع به منذ إندلاع الإحتجاجات ضده في آذار (مارس) 2011.

تقييم نجاح بوتين

المكاسب الجيوستراتيجية. أدى التدخل الروسي في سوريا إلى إنقاذ الأسد، مما مكّن بوتين من إظهار بلاده في وضع قوة عظمى على حساب الغرب، ورسّخ موسكو بشكل أكبر في المنطقة. لقد سبب دعم بوتين للأسد إلى دفع الغرب بقبول شروط موسكو في سوريا. كما مكن موسكو من الاستفادة من تدفقات اللاجئين الهائلة إلى أوروبا من طريق تقوية الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة التي دعمها بوتين لسنوات من أجل زعزعة إستقرار أوروبا. ولأنه طالما أن الأسد أو شخصاً مثله هو الحاكم في دمشق، فإن معظم اللاجئين السوريين لن يعودوا.
كما يُمكن لبوتين ان يدّعي نجاحاً جزئياً فى ردع واشنطن وتراجعها في الشرق الاوسط. وتُظهر تحركاته العسكرية من جورجيا إلى أوكرانيا إلى سوريا أنه يهدف إلى إعادة توطيد الوجود الروسي عبر البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط من خلال إنشاء وتوسيع المناطق العازلة على طول محيط روسيا (منطقة الفقاعات المضادة للإنفصال). وهذه التحركات، بحكم تعريفها، هي محاولة للحد من القدرة الغربية على العمل. “إن بوتين يؤسس لوجود عسكري طويل الأمد في البحر الأبيض المتوسط جزئياً من أجل التنافس على قدرة الولايات المتحدة في العمل بحرية و”مواجهة الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي”، يستنتج تقرير أصدره في تموز (يوليو) 2017 “معهد دراسة الحرب” (Institute for the Study of War) في واشنطن.
العازل الكامل يعني أن لا أحد آخر يمكنه أن يعمل في مساحة معينة. لم يحقق بوتين ذلك، لكن بتعيَّن على الجيش الاميركي أن يأخذ روسيا في الإعتبار عند النظر في تقرير أي عمل عسكري. ومن المرجح أن الوجود الروسي، على سبيل المثال، قد دفع واشنطن إلى إستخدام صواريخ كروز ضد قاعدة الشعيرات الجوية التابعة للأسد في 7 نيسان (أبريل) 2017 لأن مثل هذه الصواريخ تُستَخدَم عندما يكون هناك خطر كبير على الطائرات المأهولة. هذه المخاطر موجودة في سوريا حيث يتعيّن على الإدارة الأميركية الآن التنسيق مع الدفاع الجوي الروسي، وحيث هناك إحتمال كبير لسوء التقدير. في آب (أغسطس) 2017، ربطت موسكو والأسد رسمياً دفاعاتهما الجوية في سوريا، والتي يُمكن أن تحد من قدرة الجيش الأميركي على دعم شركائه المحليين على الأرض.
بينما يسعى بوتين إلى إقامة علاقات مع جميع الأطراف في الشرق الأوسط، فإن أعماله في سوريا تُظهر ميلاً واضحاً مؤيداً للشيعة. وكان التعاون الروسي – الإيراني يتسارع منذ سنوات، ولكن سوريا زادته ورفعته إلى مستوى لم يسبق له مثيل. على سبيل المثال، في آب (أغسطس) 2016، سمحت طهران لموسكو بإستخدام قاعدة همدان. ولم تسمح طهران منذ الحرب العالمية الثانية لبلد أجنبي بأن يستخدم أراضيها عسكرياً. وعلى الرغم من غضبها جراء تسريب موسكو لخبر إستخدام القاعدة، فإن طهران قالت أنها ستسمح لروسيا باستخدام المزيد من القواعد الجوية في المستقبل.
في أواخر آب (أغسطس) 2017، شكر الأسد روسيا وإيران و”حزب الله” على دعمها. وفي الشهر نفسه، كشفت ألمانيا عن أن طهران كانت تنقل أسلحة إلى روسيا للصيانة عبر سوريا في إنتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231. وفي أيلول (سبتمبر) 2017، هددت موسكو بإستخدام حق النقض “الفيتو” ضد قرار مجلس الأمن الدولي الذي يجدد فترة ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان إذا وصفت الأمم المتحدة “حزب الله” بالمنظمة الإرهابية.
هذه التطورات تُظهِر بأن التعاون الروسي – الإيراني ما زال ينمو، على الرغم من التنبؤات الكثيرة بالإنقسام بسبب تنافس البلدين التاريخي. هذا التعاون له إنعكاسات واسعة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. إن أهداف طهران وموسكو في سوريا ليست متطابقة، لكنها لا تتصادم، ومعارضتهما الموحدة للغرب تسمح لهما بوضع خلافاتهما جانباً. بالنسبة إلى بوتين، من الأسهل مواجهة الغرب كجزء من كتلة أفضل من مواجهته منفرداً ووحيداً.
إلهاء محلي ودفعة الاقتصادية. لروسيا تاريخ طويل بالنسبة إلى تحوّلها العدواني في الشؤون العالمية في أوقات التوتر الداخلي. وهكذا، كتب الكاتب الروسي المشهور سولتيكوف شدرين في القرن التاسع عشر: “[القوى الروسية التي] تتحدث كثيراً عن الوطنية، يجب أن تكون سرقت مرة أخرى”. قبل ضم القرم، كان الإقتصاد الروسي يتراجع منذ سنوات، ووصلت معدلات التأييد لبوتين إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. بعد شبه جزيرة القرم، وصلت شعبية بوتين إلى أعلى مستوى لها. كما هو الحال بالنسبة إلى أوكرانيا، كانت سوريا بمثابة إلهاء: مُسَكّنات مؤقتة سمحت للشعب الروسي أن ينسى مشاكله، ويُحوِّل اللوم بعيداً من حكومته، والإنغماس في المشاعر الوطنية.
إن تصنيفات الموافقة والتأييد في روسيا تُهندَس وتُصمَّم إلى حد كبير بواسطة دوائر رسمية، ويطلب بوتين بإستمرار من وكالات إستطلاعات الرأي التي تديرها الدولة إجراء الدراسات الإستقصائية. ولو كان يعتقد بصحة نتائج الاستطلاع، فهو لا يحتاج الى الاطمئنان والتأكيد المستمر. إلّا أنه من الإنصاف القول أن معدل التأييد له قد إرتفع، حتى وإن لم يكن كما تقترح إستطلاعات الرأي الرسمية، مما يجعل الجمهور راضياً عن نجاح ملموس آخر لمغامرة بوتين السورية. مع ذلك، إن مشاعر الإغواء لا تدوم، ولكن بوتين سوف يحتاج إلى مغامرات جديدة. ومن غير المرجح أن تكون سوريا آخر مقامرة له.
على الجانب المالي، فإن التكاليف الحقيقية لحملة روسيا السورية لا تزال غير معروفة، ومن المرجح أن تكون أعلى من الأرقام الرسمية، ولكن التدخل لا يبدو أنه قد أفرغ خزائن الدولة. وحسب التقديرات الأكثر سخاء للحزب الليبرالي الروسي، “يابلوكو”، فقد كلف التدخل السوري البلاد حوالي 140 مليار روبل (حوالي 2.5 ملياري دولار) بين أيلول (سبتمبر) 2015 وتموز (يوليو) 2017. وهذا رقم متواضع مقارنة بموازنة الدفاع السنوية الروسية، التي بلغت 69 مليار دولار في العام 2016، أي بزيادة 6 في المئة تقريباً عن العام 2015.
أكثر من ذلك، إستخدم بوتين سوريا كأرض تدريب للجيش ومكان للإعلان عن أسلحة روسيا جديدة، وأعطت الحملة ثمارها. وقال نائب وزير الدفاع الروسي يورى بوريسوف: “ان فرصة إختبار الأسلحة فى قتال حقيقي لا يُمكن تجاهل فوائدها. بدأ العملاء يصطفون لشراء الأسلحة التي أثبتت قدرتها في سوريا”.
علاوة على ذلك، قادت قوات الأسد في الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر) 2017 هجوماً ناجحاً ضد “داعش” في دير الزور، مركز إنتاج النفط السوري، مما وضعها أسرع وفي وضع أفضل من القوات الكردية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة. وهنأ بوتين الرئيس السوري على وجه السرعة، علماً أن الوجود الروسي في البلاد سيسمح لموسكو المشاركة في إعادة بناء وتشغيل البنية التحتية للطاقة في سوريا. وموارد الطاقة هذه محدودة ولكنها كبيرة بما فيه الكفاية لجعل البلد أساساً مستقلاً في مجال الطاقة. كما أنها توفر منافع إستراتيجية وإقتصادية لروسيا، التي بسيطرتها على قطاع الطاقة سوف تعزز دورها كحليف للأسد “لا غنى عنه”. وهذا الموقف بدوره يبرر إستمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا، وهو ضروري لحماية المصالح الإقتصادية لموسكو.
شيء واحد كان بوتين يأمل به لكنه لم يحققه مع تدخله في سوريا هو رفع العقوبات عن عدوانه في أوكرانيا. ولكن في التوازن، فإن أرباحه تفوق بكثير خسائره.

تهديد الإرهاب؟

برّر بوتين مراراً تدخله في سوريا وربطه بضرورة ضرب الإرهابيين، ولا سيما “داعش”، لكي لا يعود الجهاديون إلى روسيا. إن روسيا تكافح بالفعل من الإسلاميين المتطرفين، ولا يأخذ الأمر سوى عدد قليل من الإرهابيين العائدين لشن هجوم. ومن دواعي القلق أيضاً هو أن مواطنين روس كثيرون قد إنضموا إلى “داعش”. العدد الدقيق هو موضوع نقاش، ولكنه كبير بما فيه الكفاية لجعل الروسية ثالث أكثر اللغات شعبية للدعاية ل”داعش”.
ولكن كما هو الحال عادة مع الكرملين، فإن الحجة الواضحة هي خادعة. إن موسكو هي نفسها المسؤولة عن صعود التطرف الإسلامي المحلي، وتُواصل تشجيعه دولياً. بدأت المشاكل الروسية الحالية في شمال القوقاز مع النضال العلماني للشيشان من أجل الإستقلال في تسعينات القرن الفائت، ونما الإسلام المتطرف في البلاد بشكل متزايد بسبب سياسة روسيا المسيئة والتعسفية ورغبتها في العمل مع عناصر أكثر تطرفاً من المعارضة. كان رمضان قديروف، الرجل الذي عيّنته موسكو في نيسان (أبريل) 2007 لتهدئة الوضع في الشيشان، هو نفسه مجاهداً سابقاً أشرف على أسلمة الجمهورية.
لم يكن يرى هؤلاء القوقاز الشماليون أنهم جزء من الجهاد العالمي إلّا في أواخر 2013 عندما ذهبوا إلى سوريا والعراق. قبل تلك النقطة، كل ما كانوا يريدونه هو محاربة الحكومة الروسية. “لا يمكن لأي سياسي أو وكالة حكومية أن تضمن اليوم أن الدولة الإسلامية التي أنشأها قديروف في الشيشان … لن تتحول بمرور الوقت إلى تنظيم “داعش” آخر”، كتب السياسي الليبرالي الروسي ايليا ياشين في تقرير صدر في شباط (فبراير) 2016. ووفقاً لتقارير موثوقة، فقد دفعت دائرة الأمن الفيديرالية الروسية بشكل مباشر بعض سكان شمال القوقاز إلى السفر خارج البلاد للإنضمام إلى “داعش” وغيره من الجماعات الإرهابية في سوريا عبر تركيا، وبخاصة في الفترة التي سبقت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في العام 2014 في سوتشي، للسيطرة أساساً على تدفق المقاتلين إلى سوريا. وفي الوقت نفسه، ساهمت سياسات موسكو التعسفية والتمييزية تجاه مسلميها أيضاً في التطرف.
ويعتقد الكثيرون، وبخاصة في الشرق الأوسط، أن روسيا، بكل أخطائها، مؤيّدة للعلمانية. ويُنظَر إلى علاقاتها مع إيران إستثناء، وهي على أي حال يُعتقَد بأنها ليست عميقة. هذا الرأي مُعيب وخاطىء. فمن “حزب الله” إلى “حماس”، فإن موسكو تعمل وتتعامل بشكل سافر مع أي مجموعة يُمكن أن تحقق الهدف الأكبر للكرملين.
إذا كانت أولوية موسكو تستهدف في الواقع الإرهاب الإسلامي، فكان عليها تركيز حملتها في سوريا على “داعش” و”جبهة النصرة” بدلاً من حماية الأسد. إن دعم بوتين للأسد – الرجل الذي تسبب في حركة الإحتجاج في سوريا وجعلها تتجه إلى التطرف – يُظهِر أن موسكو مستعدة لتأييد أي فاعل يُسهّل تصاعد التطرف إذا كان ذلك مناسباً لأهدافها. في تشرین الأول (أكتوبر) 2017، إعترضت موسكو علی قرار مجلس الأمن الدولي لتمدید ولاية المجموعة التابعة الأمم المتحدة التي تحقق في المسؤول عن الھجوم الکیمیائي في خان شیخون في نیسان (إبريل) 2017 قبل أیام فقط من إصدار المجموعة رسمیاً تقریرھا. وقد سمّى التقرير الحكومة السورية بأنها هي التي إرتكبت الهجوم. وتُظهر هذه الإجراءات أن موسكو تدعم الأسد مهما كانت أعماق إنحرافاته وفساده.
وكما قدم بوتين نفسه إلى الغرب كشريك لمكافحة الإرهاب في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في أميركا، فقد قدم الأسد نفسه في البداية كزعيم علماني يقاتل المتطرفين السنة. لكن نظامه كان يحمي الأقلية العلوية على حساب جميع السوريين الآخرين، ولم يخجل من تشجيع التطرف. ولم يقتصر الأمر على قيام الأسد بضخ الراديكاليين في حركة الاحتجاج التي إندلعت ضده في ربيع العام 2011، ولكن قبل ذلك بكثير، فخلال حرب العراق في العام 2003، سمح للمقاتلين السنة المتطرفين من جميع أنحاء المنطقة بالعبور إلى العراق عبر سوريا. وعندما دعم الأسد التمرد في بلاد ما بين النهرين ضد الولايات المتحدة، لم يُبدِ بوتين أي ملاحظة وكأن الأمر لا يعنيه.

الإستنتاج

من الخطورة التقليل أو المبالغة في تقدير فلاديمير بوتين. منذ البداية كانت لديه خطط للشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا، ويتابعها بثبات وبإستمرار. وفيما كان يفعل ذلك، كان الغرب لا يُعير إهتماماً لنفوذ روسيا ويعتبره بأنه غير منطقي وغير مهم، الأمر الذي دفعه إلى التردد في إتخاذ أي قرار والفشل في صياغة رؤيته الواضحة الخاصة. ومن جهته تكيّف بوتين بسرعة مع تغير الحقائق.
ولكن مع كل إلتزامه بتقويض الغرب، لم يكن بوسع بوتين أن يُرسّخ روسيا في سوريا إلى هذا الحد لو كانت واشنطن قد أخذت زمام المبادرة وإستخدمت القوة ضد الأسد. إختبر بوتين المياه ودخل عندما شعر انه يمكنه فعل ذلك من دون إعتراض. إن مغامرته السورية هي شهادة على الفشل الغربي المستمر في فهم روسيا، البلد الذي تتجاوز مشاكله بوتين أو أي فرد آخر. وكما فعل الاتحاد السوفياتي في كثير من الأحيان، إستغل بوتين الغموض الغربي في الشرق الأوسط فيما حاول صناّع السياسة الغربيون التكهن حول الهدف النهائي أو نهاية اللعبة للكرملين.
حتى كتابة هذه السطور، حصل بوتين على معظم ما يريده في سوريا: الأسد في موقف تفاوضي قوي؛ خصومه التقليديون يقبلون على نحو متزايد بوجهة نظر موسكو، ووجود روسيا ونفوذها في سوريا مضمونان. وفيما يستعد بوتين للإنتخابات الرئاسية في آذار (مارس) 2018، التي ستمدد له فترة ولاية أخرى مدتها ست سنوات، فإنه لم يغرق أو يفشل في سوريا. وهو يستطيع أن يعلل قدرته على صنع السلام والتعاون مع الغرب حتى وهو يسخر منه. وتعاون موسكو مع طهران لا يُظهر أي علامات على التراجع، وهذه العلاقة ستكون لها آثار وتداعيات كبيرة على السياسة الإقليمية الأميركية.
إن الصراع السوري مُعقّد للغاية ولم ينتهِ بعد. في تموز (يوليو) 2017، قال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية إن واشنطن تأمل في أن تقوم موسكو ب”تجميد” الصراع – وهو تحوّل مؤسف للغاية للكلام، لأن الكرملين لديه سنوات من الخبرة في تجميد الصراعات بما يتناسب مع أغراضه. ومع توسعه في الشرق الأوسط، فإن الكرملين سيعمل على نحو متزايد بأن تصبح هذه المنطقة مجال نفوذه، وأن الصراع المجمد في سوريا سيحقق بالتأكيد أهداف موسكو.
مع ذلك، فإن مستقبل روسيا غير مؤكد. حالتها الإقتصادية مستقرة ولكنها راكدة؛ عدم الرضا والإستياء آخذان في الإزدياد، وإحتجاجات كبرى تندلع. قد تكون البلاد تتجه إلى الإنحطاط ببطء، لكنها ما زالت تحتفظ بعدد من نقاط القوة وتزايد العسكرة.
يجب على صناع القرار الغربيين الإعتراف بأن الكرملين لن يكون وسيطاً نزيهاً في سوريا، ويجب أن يعملوا على إستعادة القيادة الغربية بدلاً من السماح لموسكو بأخذ زمام المبادرة. إن الانخراط المعزز من قبل الغرب هو السبيل الوحيد لردع ترسيخ موسكو في المنطقة وما يترتب عليها من تأثير سلبي. إن الكرملين ملتزم بلعبة طويلة. يجب أن يكون الغرب أيضاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى