الأردن يُوَطِّن قوّته العاملة لإصلاح سوق العمل على حساب العُمّال الوافدين

بعدما وصل معدل البطالة في المملكة الأردنية الهاشمية إلى مستوى مرتفع جداً تبذل الحكومة جهوداً دؤوبة من أجل معالجة هذا الوضع عبر فرض قيود على العمالة الوافدة والتعهد بتعزيز التعليم والتدريب المهني.

البطالة في الأردن قنبلة موقوتة

بقلم كيرك سويل*

تبذل الحكومة الأردنية، برئاسة هاني الملقي، جهداً ملحوظاً على إصلاح سوق العمل في المملكة. وتواجه في هذا الإطار عقوداً من الإعتماد على العمالة الوافدة في الوقت الذي تُخرِّج الجامعات طلاباً أكثر من أي وقت مضى في ظل غيابٍ شبه تام للتعليم المهني. وفيما يقترب معدل الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي إلى مئة في المئة، والدولة غير قادرة على سداد فواتيرها لولا المساعدات الخارجية، فقد قررت الحكومة توطين قوتها العاملة وتأميمها من أجل معالجة مسألة البطالة الملحّة.
لا مبالغة في القول بأن مشكلة البطالة في الأردن عميقة جداً. قبل العام 2015، كانت نسبة البطالة نحو 12 في المئة فقط، بحسب أرقام وزارة العمل التي رفعت النسبة إلى 18,2 في المئة بحلول منتصف العام 2017. لكن هذه الأرقام لا تُعبّر فعلياً عن حجم المشكلة لأن هذه الإحصاءات تحتسب فقط الأشخاص الذين يُبلّغون السلطات بأنهم عاطلون من العمل. لذا يقتضي الأمر مقاربة المسألة بطريقة مختلفة من خلال إجراء مقارنة بين الداخلين الجدد إلى القوة العاملة، الذين يُمكن إحتساب أعدادهم بموثوقية أكبر، وبين الوظائف الجديدة المُستَحدَثة. وتفيد المعلومات بأنه إعتباراً من العام 2017، سوف تُخرِّج الجامعات الأردنية 61 ألف طالب جديد في السنة، غير أن مجموع صافي الوظائف الجديدة المُستحدَثة سنوياً منذ العام 2011 يبلغ في المعدل 48 ألف وظيفة فقط. وتكشف أرقام وزارة العمل عن إستحداث الوظائف للعام 2015، أن 16 ألف وظيفة جديدة فقط ذهبت إلى أشخاص أكملوا تحصيلهم العلمي إلى ما بعد المرحلة الثانوية. وتؤكّد دراسة منفصلة نُشِرت في آب (أغسطس) 2017 هذه الأرقام، كما أنها توصّلت إلى أن 34 في المئة فقط من الخرّيجين الجامعيين الجدد يجدون وظائف في غضون ستة أشهر. إن التباطؤ الاقتصادي بعد العام 2011 ليس سوى واحد من الأسباب التي تقف خلف هذه المشكلة. فحتى في العام 2009، عندما كانت الجامعات تُخرّج 40 ألف طالب فقط في السنة، وعندما إستحدث الأردن 76,312 وظيفة جديدة، ذهبت 28 ألف وظيفة فقط إلى أشخاص أكملوا تحصيلهم العلمي بعد المرحلة الثانوية.
وتتعمّق الفجوة عند أخذ المشاركة في القوة العاملة في الإعتبار. تشكّل النساء نحو 56 في المئة من خرّيجي الجامعات، لكن نسبة مشاركتهن في سوق العمل تبلغ 13 في المئة فقط. في حين أن عدداً كبيراً من الخريجات لا ينضم إلى القوة العاملة لأسباب عائلية، فإن أخريات يَغِبن بسبب إنعدام الوظائف. حتى مشاركة الرجال الأردنيين في القوة العاملة تبقى متدنّية مع 58 في المئة. وفقاً للبنك الدولي، يبلغ المعدل العالمي 76 في المئة – مع الإشارة إلى أن سبعة بلدان أخرى فقط تسجّل معدلات متدنّية شبيهة بالمعدل الأردني في مجال مشاركة الرجل في القوة العاملة. قد يكون السبب في تدنّي هذه النسبة هو “ثقافة العار”. فغالبية الوظائف المتوافرة في القطاع الخاص هي عبارة عن وظائف متدنّية المهارات، كما في قطاعات التصنيع والبيع بالتجزئة والزراعة. وفي الإجمال، هذه الوظائف مرغوبة بدرجة أقل على المستوى الإجتماعي، ويتم ربطها بالمكانة المتدنّية، وذلك نتيجة الإعتماد الطويل المدى على العمالة الوافدة من دون أن تكون لدى البلاد ثروة كبيرة.
يواجه الأردنيون من حَمَلة شهادة الثانوية العامة أو ما دون، والذين يبحثون في الغالب عن وظائف متدنّية المهارات ويشكّلون نحو ثلثَي السكان، منافسة من عدد كبير من العمال الوافدين الذين يُبدون إستعداداً للعمل برواتب أدنى. ويُذكر أن الأردن يستقبل أكثر من 300,000 عامل أجنبي مسجَّل فضلاً عن التقديرات التقليدية عن وجود 300,000 إلى 500,000 عامل أجنبي غير شرعي، ما يعني أن غير الأردنيين يشكّلون 27 إلى 33 في المئة من مجموع القوة العاملة في البلاد – وهي نسبة كبيرة في دولة نامية ذات معدّل بطالة مرتفع. في كانون الأول (ديسمبر) 2016، تحدّث وزير العمل علي الغزاوي عن وجود 800,000 عامل أجنبي غير شرعي، بحسب تقديرات الوزارة. وفي حال كان الرقم دقيقاً، فهذا يعني أن العمال الوافدين يشكّلون نسبة 40 في المئة من القوة العاملة الأردنية. وفي شباط (فبراير) 2017، أجرت الوزارة مراجعة للأرقام مشيرة إلى أن عدد العمال غير الشرعيين يصل إلى مليون، أي 44 في المئة من مجموع القوة العاملة. علاوةً على ذلك، تبلغ التحويلات نحو الخارج 1.5 مليار دولار سنوياً، ما يؤدّي إلى خفض صافي المكاسب التي يحققها الأردن من التحويلات الواردة إلى البلاد بمعدّل النصف.
بناءً عليه، يخضع القطاع الخاص، بصورة شبه كاملة، لسيطرة العمالة الوافدة، وهو عاجز في معظم الحالات عن إستقطاب القوة العاملة الأردنية، كما أنه لا يستطيع في بعض الحالات توفير فرص كافية. في العام 2015، وهو العام الأخير الذي نشرت فيه وزارة العمل هذه الإحصاءات، كانت ثلاثة من القطاعات الست التي استُحدِث فيها العدد الأكبر من الوظائف – الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية، والتعليم، والخدمات الصحية والإنسانية – جزءاً من القطاع العام في شكل أساسي. أما الفئات الثلاث في القطاع الخاص التي استُحدِث فيها العدد الأكبر من الوظائف فكانت البيع بالتجزئة، والتصنيع، والفنادق والمطاعم، ففي العام 2016، تم توظيف 24,472 عاملاً أجنبياً في قطاع البيع بالتجزئة، و83,052 في قطاع التصنيع، و17,686 في الفنادق والمطاعم. في حين أنه غالباً ما يُنظَر إلى مبادرات التصنيع، على غرار المناطق الصناعية المؤهّلة التي تندرج في إطار إتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، بأنها مشاريع ناجحة كونها ساهمت في زيادة صادرات النسيج الأردنية إلى حد كبير، فإن واقع الحال هو أن غالبية العمّال هي من جنوب آسيا، ما يعني أن هذا البرنامج لم يحقّق الكثير على صعيد التوظيف في الأردن.
لذلك جعلت الحكومة الجديدة من توطين القوة العاملة البند الأساسي الأول على قائمة الإصلاحات. في 28 حزيران (يونيو) 2016، توقّفت وزارة العمل، بعد نحو شهر من تسلّم الوزير الجديد منصبه، عن إصدار تراخيص عمل جديدة للعمال الوافدين، ما عدا العاملات المنزليات وموظّفي المناطق الصناعية المؤهّلة. وقد دافع الغزاوي عن الخطوة معتبراً أنها إجراء ضروري ليس فقط بهدف توظيف مزيد من الأردنيين، إنما أيضاً للحد من الأعداد الهائلة للعمال غير الحائزين على تراخيص. في حين أُتيح للعمال المصريين، الذين ينخرطون بأعداد كبيرة في القطاع الزراعي الأردني منذ عقود طويلة، خيار تجديد أذونهم بعد ستة أشهر، فإن حظر إصدار الأذون الجديدة يفرض في الواقع سقفاً على أعدادهم الراهنة، التي من شأنها أن تتراجع، لأن الحكومة زادت رسوم الترخيص من 120 ديناراً أردنياً (170 دولاراً أميركياً) إلى 300 دينار (420 دولاراً) للعمال الزراعيين، و500 دينار (705 دولارات) للعمال الآخرين. هذه السياسة، مقرونةً بالإجراءات الهادفة إلى منع توظيف العمال الوافدين من دون أذون، حملت في طياتها تباشير خفض العمالة الرخيصة وزيادة الإيرادات.
لكن سرعان ما أبدى قطاع البناء والإنشاءات إمتعاضه، وأشار القيّمون عليه إلى أن القيود على العمالة الوافدة أدّت، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، إلى توقّف العديد من المشاريع لعدم القدرة على إيجاد أردنيين للعمل فيها. فردّ المتحدث بإسم وزارة العمل، محمد الخطيب، بأن معظم الأردنيين العاطلين من العمل لديهم مستويات تعليمية مشابهة لمستويات عمّال البناء الوافدين، وبأن الإجراءات التي فُرِضت في قطاع الإنشاءات لا تحظر العمالة الوافدة القانونية، مشيراً إلى أن التدابير التي اتخذتها الوزارة طالت في شكل أساسي “500,000-600,000” عامل أجنبي غير مسجَّل.
كذلك إشتكى القطاع الزراعي من أن الإجراءات تسبّبت بزيادة كلفة اليد العاملة من ثلث مجموع التكاليف إلى النصف. وقال مالِك مزرعة في مقابلة مع صحيفة “الغد” إنه كان يدفع في العادة للعمال 1.5 دينار فقط (2.10 دولار) في الساعة، أما الآن فيطالبون بـ2 إلى 2.5 دينار (2.80 – 3.50 دولارات) في الساعة. لكن على النقيض من قطاع البناء والإنشاءات، لم يتم خفض عدد التراخيص الممنوحة للعمل في القطاع، بل إقتصر الأمر فقط على التشدد في منع إستخدام العمال غير الشرعيين. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن أجر 2.5 دينار في الساعة مساوٍ لمعدل الراتب في الأردن. بحلول آب (أغسطس) 2017، في ذروة موسم نمو المحاصيل في الأردن، مارس أرباب العمل ضغوطاً من جديد على وزارة العمل للسماح لهم بإستخدام مزيد من العمال المصريين الذين يمكنهم أن يدفعوا لهم أجراً أقل. وإدّعى وليد الفقير، رئيس مبادرة الإدارة المائية، أنه بسبب رفض الأردنيين العمل في هذه الوظائف، فإن الوزارة تُلحِق الأذى بقطاع يعاني أصلاً من نقص المياه وتراجع التجارة مع سوريا والعراق.
وإقترح الغزاوي تشجيع الأردنيين على العمل في الزراعة عبر جعلهم يقومون بالعمل الزراعي المؤلَّل، وتعهّد في تموز (يوليو) 2017 بتأمين تدريب فنّي يتيح للعمال الأردنيين أن يكونوا مُنتِجين بما يكفي لتبرير الكلفة الأعلى لليد العاملة الأردنية. فضلاً عن ذلك، تبنّت الحكومة في أيلول (سبتمبر) الماضي برنامجاً كلفته مئة مليون دينار (141 مليون دولار) من مسارَين، الأول يركّز على التدريب والثاني على توظيف الأردنيين في قطاعات تستخدم عدداً كبيراً من العمال الوافدين. الهدف هو خفض اليد العاملة الوافدة في الأردن بنسبة 10 إلى 25 في المئة في غضون خمس سنوات.
تتزامن هذه الجهود مع التعهّد الذي قطعته البلاد بموجب ” العقد مع الأردن” (Jordan Compact)، وهو عبارة عن إتفاق أُبرِم مع البلدان الأوروبية في شباط (فبراير) 2016، بزيادة التوظيف القانوني للاجئين السوريين في مقابل المساعدات والصفقات التجارية التي تشكّل حاجة ماسّة بالنسبة إلى الإقتصاد الأردني، مع العلم بأن هذا التعهّد يتسبّب أيضاً بتقويض الجهود المذكورة. وكان الهدف من هذا العقد إصدار 200,000 ترخيص عمل للسوريين في غضون ثلاث سنوات، بدءاً بـ50,000 ترخيص بحلول نهاية العام 2016. وتتنافس اليد العاملة السورية بصورة مباشرة مع العمال الوافدين الآخرين، وليس مع الأردنيين، على الوظائف المتدنّية المهارات، بيد أن السوريين يشغلون أيضاً العديد من الوظائف التي تريد الحكومة أن يملأها الأردنيون. هذا الأمر يمنح العمال السوريين الحق في الحصول على أجر لائق، ويساهم في منع التعسّف، لكنه يشكّل بصورة أساسية عامل ضغط على العمّال المصريين، ويضع تعقيدات أمام تأمين مزيد من الوظائف للأردنيين.
بعد تأخير الإصلاحات لسنوات طويلة، تتصرف الحكومة الأردنية الآن إنطلاقاً من إقتناعها بأن عدم التطابق بين الوظائف المُتاحة ومهارات الأشخاص الذين يلتحقون بالقوة العاملة لا يؤدي سوى إلى تفاقم مشكلة البطالة المُرتَفِعة والمُزمنة التي تعاني منها البلاد. وأبعد من الجهود التي تبذلها الحكومة لتوطين القوة العاملة، والتي ألقت بأعباء غير ضرورية على صناعات أساسية في القطاع الخاص، والتي تكبّلها الالتزامات الدولية التي قطعتها الحكومة بتوظيف اللاجئين السوريين، يسعى المسؤولون وقادة المجتمعات المحلية على السواء إلى تغيير المواقف من التعليم المهني، وتوفير الوسائل المناسبة لتأمين هذا التعليم.

• كيرك سويل خبير في تحليل المخاطر السياسية ومراقب مخضرم للشؤون الأردنية والعراقية. لمتابعته عبر تويتر: uticarisk@
• عُرِّب هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى