تركيا تعزّز دور تركمان سوريا على حساب العرب و…الأكراد

يشير كتاب “الصراع لأجل السلطة في سوريا” للكاتب “نيكولاس فان دام”، والذي يُعد أحد أهم الكتب التي تطرقت لتعداد التركمان في المنطقة، إلى أن نسبة التركمان السوريين تشكل 3% من التعداد الكلي للسكان، ويقدر عددهم بـ 484 ألف نسمة من أصل ما يزيد على 16 مليوناً، بحسب أرقام العام 1997. كما يشير بعض المراجع إلى أن التركمان بين من يعلمون بأصولهم التركية ومن لا يعلمون، وفي مختلف مراكز وجودهم، تتراوح أعدادهم بين 3 و3.5 مليون تركماني. وتجد هذه الأقلية التركمانية في سوريا نفسها حالياً في طليعة الخطط التي تعدّها أنقرة للبلاد. فما هو وضعهم الحالي؟ وهل تصبح لديهم إمتيازات كما يشيع بعضهم في سوريا الجديدة؟

الرئيس رجب طيب أردوغان: تركمان سوريا هم “إخواننا وأخواتنا”

بقلم مُهنّد الحاج علي*

منذ أنشأت تركيا في العام الفائت منطقة آمنة في شمال سوريا من خلال عملية درع الفرات، لعب التركمان المحليّون، من مدنيين وعسكريين، دوراً أساسياً في الإدارة وعمليات الإغاثة، ما أثار سخط بعض المواطنين العرب هناك، وسط شكاوى من إنحياز أنقرة إلى التركمان في توزيع المساعدات والمشاريع التنموية. رغم ذلك، تُركّز التصريحات التركية والتركمانية على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا في وجه النزعة الإنفصالية الكردية، ولا تتطرّق الى أسلوب الحوكمة محلياً.
بعض هذا الإستياء، ولا سيما من أكراد المنطقة، ناجم عن إرتباط التركمان في الوعي الجماعي بحقبة الحكم العثماني في سوريا حيث لعبوا دوراً ريادياً في حكم المنطقة آنذاك. ويشكّل التركمان جزءاً من النسيج المجتمعي السوري والمشرقي منذ أيام الحقبة العثمانية على أقل تقدير، على رغم أن البعض يرى أن أصولهم ترقى إلى زمن الإمبراطورية السلجوقية، حينما تمت الإستعانة بهم لمجابهة غزوات المغول خلال القرن الثالث عشر. لكن جُلّ هجرات التركمان إلى سوريا سُجِّل في أواخر القرن التاسع عشر تقريباً، لأنهم كانوا “المستوطنين الأقدر على تعزيز الوجود العثماني في المناطق الحدودية السورية”، على حدّ تعبير المؤرّخ البريطاني يوجين روغان. أما اليوم، فالأقلية التركمانية مبعثرة جغرافياً في أرجاء سوريا، من مرتفعات الجولان إلى عشرات القرى والبلدات في محافظة حلب الشمالية.
بعد مَقدم الدولة العربية الحديثة، وخصوصاً في ظل حكم البعث في سوريا والعراق، تردّى الوضع الإجتماعي – السياسي للتركمان، وإنزلق العديد منهم إلى لُجج الفقر، وحُرموا من الحقوق اللغوية والثقافية، وإضطرّ بعضهم إلى الإنصهار في الثقافة العربية. وهذا يفسّر جزئياً أسباب إنضمام التركمان إلى الثورة السورية في العام 2011، ومشاركتهم في مظاهرات حمص وحماه ودمشق، ثم إلتحاقهم بمجموعات المعارضة المسلّحة للقتال في شمال سوريا.
تحمّلت البلدات التركمانية في محافظة حلب الشمالية العبء الأكبر من القصف الروسي في العام 2015، وكانت في قلب الأزمة التركية – الروسية بعد إسقاط طائرة حربية روسية من طراز سوخوي 24 في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام. آنذاك، أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح لـمحطة “سي أن أن” مفاده أن النظام السوري يرمي إلى “تطهير المنطقة بأسرها من التركمان”، ووصف هؤلاء بأنهم “إخواننا وأخواتنا” مضيفاً أن لديهم روابط قوية مع تركيا التي ستبذل ما في وسعها لحمايتهم. وجاء هذا التصريح في أعقاب فرار آلاف التركمان من المعارك الدائرة في سوريا، ولا سيما في دمشق وحمص، وباتوا لاجئين في لبنان وتركيا، ثم إنضم بعضهم لاحقاً إلى الميليشيات التركمانية الناشطة في منطقة درع الفرات، بما فيها مجموعة السلطان مراد التي تُعدّ أكبر هذه الميليشيات.
بدأ الدعم التركي للتركمان السوريين في الفصول المبكّرة للصراع السوري، قبل إنطلاق عملية درع الفرات وإسقاط الطائرة الحربية الروسية. سياسياً، ساعدت تركيا في تنظيم المجتمع التركماني، فشُكّل المجلس التركماني السوري في 29 آذار (مارس) 2013 خلال إجتماع عام عُقد في أنقرة بحضور أردوغان ووزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود اوغلو. وعسكرياً، كانت الميليشيات التركمانية متحالفة على نحو وثيق مع تركيا، خصوصاً ألوية السلطان مراد والسلطان سليمان شاه، والسلطان عثمان، التي باتت اليوم موحّدة تحت إمرة الفرقة الأولى.
أثّرت العلاقة الوطيدة بين تركيا والتركمان في مُدركات العرب في المنطقة. فالعديد من السكان العرب عجزوا عن التفرقة بين القوات التركية والتركمانية، وفقاً لما ذكره صحافيان تمّ التواصل معهما في جرابلس والباب. وهكذا، غالباً ما كان بعض العرب يتحدث في مجالسه الخاصة عن التركمان بوصفهم “العلويين الجدد”، في إشارة إلى الأقلية التي يتحدّر منها الرئيس السوري بشار الأسد، والتي يُنظَر إليها على أنها تتمتّع بإمتيازات خاصة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، أثارت صور لقوات درع الفرات، يظهر فيها المقاتلون التركمان وهم يضعون ربطات يد زرقاء ترمز إلى علمهم الإثني، في حين يضع المقاتلون العرب ربطات يد حمراء، المزيد من التساؤلات عبر وسائل التواصل الإجتماعي حول التمييز التركي لصالح التركمان.
غير أن هذا الإتهام، بالنسبة إلى التركمان، يُعتبر تحريضياً إلى حدّ كبير، إذ يؤكدون أنهم يعامَلون على قدم المساواة. وأكدّ أحد السياسيين التركمان، الذي يتنقّل كثيراً بين المنطقة وغازي عنتاب في تركيا أنه “حتى في التعليم، نُعامل سواسية من دون إستثناءات”. بيد أن العرب الذين تحدثتُ معهم وهم في الغالب من أصول قبلية، يشدّدون على أنه، نظراً إلى اللغة المشتركة والقرابة العرقية مع الأتراك، فإن التركمان كانت لديهم فرص أكثر في سوق العمل الصغيرة في المنطقة، التي تعتمد إعتماداً كبيراً على المساعدات، ومعظمها من تركيا.
على سبيل المثال، تحوّلت بلدة الراعي، وهي بلدة تركمانية قريبة من الحدود، إلى مركز للخدمات المُقدّمة للمنطقة، لتحل محل مراكز سكانية أكبر مثل الباب. وقد ساعدت تركيا على بناء وتجهيز معبر حدودي جديد في الراعي، مع مرافق تخزين جديدة مخصصة للمساعدات الإنسانية، ووضعته تحت سيطرة فرقة السلطان مراد التي يقودها التركمان. وسرعان ما قامت السلطات التركية برفع تصنيف المعبر من الفئة “ب” إلى الفئة “أ”، في إشارة إلى أنه سيلعب دوراً أساسياً في المنطقة، ما أدّى إلى تفاقم التوترات بين التركمان والجماعات المسلحة العربية التي تسيطر على المعبرين الحدوديين في جرابلس وباب السلامة، اللذين يُعتبران مصدر التمويل الرئيس لهذه الجماعات. يشار هنا إلى أن إشتباكات إندلعت بين جماعة مسلحة هي الجبهة الشامية وفرقة السلطان مراد خلال الأسابيع الأخيرة حول السيطرة على هذه المعابر.
مع ذلك، كان للقادة التركمان من المنطقة رأي مختلف حيال هذه المسألة، فقد قالوا إن البلدات والمدن العربية تحظى بإهتمام مماثل، إن لم يكن أكبر، ويَظهر ذلك على شكل مساعدات ومشاريع تنموية. كما ذكروا أن سماح تركيا للحكومة المؤقتة للمعارضة السورية، بقيادة رياض سيف، بلعب دور في إدارة المنطقة، يوضّح الإهتمام الخاص الذي توليه تركيا لوحدة سوريا. غير أن الأكراد يرون أن هذه السياسة موجّهة ضد المناطق الكردية المجاورة المتمتعة بحكم ذاتي، بدلاً من أن تكون منشغلة حقيقةً بوحدة البلاد.
ينظر الأكراد إلى التركمان على أنهم مظهر من تمظهرات العثمانية الجديدة في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. وتهدف هذه السياسة إلى إعادة بسط نفوذ أنقرة في المنطقة، مشدّدة على الروابط بين الإسلاميين، ومحافظةً على السردية القومية المتمثّلة في الدفاع عن الأقليات التركية في الخارج. وتفاقم هذه الرمزية العثمانية المخاوف الكردية، بخاصة مع تزامن إطلاق أنقرة لعملياتها في سوريا مع ذكرى الغزو العثماني لهذا البلد في القرن السادس عشر. ويطلق التركمان أيضاً على ميليشياتهم أسماء السلاطين العثمانيين. وتتحدث شائعات عن وجود خطط تركية لنقل مقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني الأويغوري وعائلاتهم، الموجودين حالياً في محافظة إدلب، إلى مناطق أكثر أماناً خاضعة لسيطرة تركيا في سوريا. وعلى الرغم من أن هؤلاء مرتبطون بهيئة تحرير الشام، إلا أنهم ينظرون إلى الأتراك على أنهم إخوة العرق. ومع ذلك، لا تزال أخبار إنتقالهم المقبل غير مؤكدة.
الواقع أن الأكراد محقّون في قلقهم، فالخطاب المناهض لهم الذي يُسمع في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في شمال سوريا لا ينفكّ يتصاعد، فضلاً عن التصعيد العسكري الحاصل حالياً. وبالنسبة إلى الأكراد، لا تتمثّل المسألة في ما إذا كان الصراع مع الميليشيات التركمانية سيحدث، بل بالأحرى متى سيحدث ذلك.

• مهنّد الحاج علي هو مدير الإتصالات والإعلام في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حائز على ماجستير في دراسة الصراعات، ودكتوراه في السياسة المقارنة من كليّة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية (أل أس إي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى