ورقة السعودية الأخيرة في لبنان: إستخدام إسرائيل لضرب “حزب الله”؟

هل سيذهب الأمير محمد بن سلمان بعيداً إلى حد إبرام إتفاقٍ مع إسرائيل يقدم فيه تطبيعاً كاملاً مقابل قيام الدولة العبرية بتدمير “حزب الله” والقضاء على النفوذ الإيراني في لبنان؟

الأمير محمد بن سلمان: هل يذهب بعيداً ويتعاون مع إسرائيل للقضاء على “حزب الله”؟

بقلم مضاوي الرشيد*

على حد تعبير المؤرخ اللبناني المشهور كمال الصليبي، إن لبنان ليس بلداً حيث يعيش فيه المسيحيون والمسلمون جنباً إلى جنب لكنهم فشلوا في رؤية مشتركة لوطنهم؛ في البيت اللبناني المُؤلَّف من منازل كثيرة، كما يُسمّي بلاده، فإن المسيحيين تطلعوا إلى أوروبا في حين طمح المسلمون إلى أن يظلوا راسخين في إطار قومي عربي واسع.
لذلك قاتلت هذه المنازل الكثيرة في بعض الأحيان بعضها البعض، في حين أن فكرة لبنان نجت وصمدت وحتى أنها إزدهرت في ظل العنف والطائفية والفساد.
مع الأزمة الحالية التي نتجت من إستقالة رئيس الوزراء سعد الحريري التي أُعلنت في الرياض، فإن العديد من المنازل مرة أخرى على وشك أن تهتز أسسها.

المزيد من المنازل

مُؤرّخاً كتابياً مباشرة بعد الحرب الأهلية التي دمرت البلاد منذ 17 عاماً، لم يتوقعّ مؤرخنا العزيز الأزمة اللبنانية الحالية التي شيّدت من خلالها المملكة العربية السعودية وإيران المزيد من المنازل لتُضاف إلى المنازل اللبنانية التاريخية.
لم يتوقّع ان تحل إيران محل السعودية كلاعب إقليمي رئيسي في البلاد التي كانت داخل مجال النفوذ السعودي منذ تأسيس الجامعة العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
إن رؤساء الوزراء اللبنانيين السنّة “المُتسعودين” – عليهم أن يكونوا من أهل السنة وفقاً للدستور والميثاق الوطني- كانوا دائماً يركزون مصالحهم المالية في السعودية حيث جمعوا ثرواتهم مع كونهم رؤساء لحكومات لبنان. وهم يحملون جنسية مزدوجة ويعملون بحرية في البلدين.
من رياض الصلح، حسين العويني إلى رفيق وسعد الحريري، هناك تاريخ من التمويل والسياسة، وأحياناً الزواج مع كبار الأمراء السعوديين، دعماً لعلاقة غير مستقرة، التي تسيطر عليها الرياض في كثير من الأحيان لأغراضها الخاصة، وتستفيد منها الأسر السنية. إن جد الأمير الوليد بن طلال، المُعتقل الآن، هو رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح.
ولكن قبل كل شيء، كان لرؤساء الوزراء دور أساسي في الدفاع عن المصالح السياسية السعودية في لبنان. في خمسينات القرن الماضي، خافت الرياض من أن يكتسب الهاشميون نفوذاً لدى اللبنانيين السنة، وبعد ذلك أبدت قلقها من قومية الرئيس المصري جمال عبد عبد الناصر التي كانت تُهدّد بالتسلل إلى عقول وقلوب العديد من السعوديين الذين جاؤوا للدراسة في لبنان.
عندما تجمع ما يُسمى الأمراء السعوديون الأحرار (وخصوصاً الأميران طلال ومنصور بن عبد العزيز) في فندق السان جورج على الكورنيش في بيروت في أوائل ستينات القرن الفائت للمطالبة بملكية دستورية وهاجموا الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل وإتهموهما بالعمالة للإمبريالية، ساد الإعتقاد لدى النظام السعودي أنه لا يُمكن أن ينتج من لبنان إلّا المشاكل.

الإستراتيجية السعودية

اليوم هذا كان تاريخاً، ولكن التحوّل نحو “حزب الله” هو أيضاً تهديد للمملكة العربية السعودية. لقد ألقت الأخيرة اللوم على إيران و”حزب الله” للصاروخ الذي أطلقه الحوثيون اليمنيون الذي إعتُرِض في فضاء الرياض في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري.
تتهم السعودية الجانبين بتدريب وتسليح الحوثيين الذين تقاتلهم منذ العام 2015. وإعتبرت المملكة العربية السعودية بأن لبنان أعلن الحرب عليها بعد حادث الصاروخ.
منذ خمسينات القرن الفائت، كانت الإستراتيجية السعودية تقوم على تشجيع البورجوازية السنية اللبنانية الموالية للسعوديين والعازمة على القضاء على التهديدات القومية واليسارية الآتية من قلب بيروت.
في حين تعاونت البورجوازية السنية اللبنانية وإستطاعت الرياض إحتواءها، فإن السنة العاديين في الطريق الجديدة ورأس بيروت كانوا يرفعون شعارات مؤيدة للناصرية ورأوا أنفسهم منارة للقومية العربية.
جنباً إلى جنب مع اللاجئين الفلسطينيين أصبح هؤلاء مرادفاً لبيروت الوطنية. وعندما توفي عبد ناصر بشكل غير مُتوَقّع في العام 1970، غمروا الشوارع ورَثوا بطلهم.
اليوم تغير كل شيء، فاللبنانيون السنة يضعون صور ملوك السعودية عبر الشوارع في أحيائهم في مواجهة صور (الإمام روح الله) الخميني و(الإمام علي) خامنئي والشخصيات الإيرانية الأخرى التي تُزين لوحات الجص والجدران في الأحياء الشيعية.
في مواجهة هذا التاريخ للعلاقات السعودية – السنية، بدأت إيران منذ ثمانينات القرن الفائت تعزيز منزل الشيعة الذين تم تجاهلهم وتهميشهم من قبل السياسة الطائفية التاريخية اللبنانية التي رسمها الفرنسيون في ظل ولايتهم، والذين دمرهم الإحتلال الإسرائيلي المتعاقب في الجنوب حيث يعيش معظمهم.
ومنذ سبعينات القرن الماضي، وقعت عمليات تسلل إسرائيلية عنيفة عدة التي أدت إلى إفقار المدن والقرى والحقول الزراعية في الجنوب وطرد أهلها وتدميرها. ومن دون دعم إيران ل”حزب الله”، كان من المحتمل أن يكون جنوب لبنان ما يزال تحت الإحتلال الإسرائيلي.

إنهيار منزل الحريري

أصبحت البورجوازية السنية في بيروت وصيدا وطرابلس من بين مدن أخرى حيوية بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية للحفاظ على موطئ قدم وحماية لبنان من التدخل الإيراني المُفرط.
من جهته إستطاع رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الراحل رفيق الحريري تعزيز ثقة أهل السنة بلبنان في الوقت الذي كان يبني إمبراطوريته المالية في لبنان والسعودية. وفي إطار جهود إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب، برز كرجل مالي قام بمحو صغار التجار ورجال الأعمال لصالح التدخل الرأسمالي العالمي.
اليوم منطقة سوليدير المركزية الشهيرة هي مركز تمويل وترفيه ينازع خارج قدرات معظم اللبنانيين.
مع إغتياله في العام 2005، أصبح إبنه سعد وجه السلطة السنية، وإن كانت في تراجع في لبنان. وتحولت الأموال المكتسبة في المملكة العربية السعودية إلى العمل الخيري في لبنان. وأصبحت علاقات الزبون – العميل هي جوهر الزعامة السنية، مثل القيادات الطائفية الأخرى.
ولكن منذ وصول الملك سلمان إلى السلطة في العام 2015، متزامناً مع إنخفاض حاد في أسعار النفط، إنهار منزل الحريري المالي في السعودية وبدأ منزله السياسي في لبنان يُظهر تصدعات خطيرة.
طردت “سعودي أوجيه”، شركة الحريري الرائدة، العديد من موظفيها الذين تركوا من دون أجر. وعادوا إلى لبنان في غياب فرص عمل في إقتصاد يتراجع. وبدأوا عرض شققهم للبيع بملايين الدولارات ولكن لم يكن هناك مشترون فى الأفق. إن الطفرة العقارية في لبنان قد إنهارت.
ويبدو أن السعودية فقدت أهميتها التاريخية في لبنان فيما عززت إيران وجودها هناك.
هكذا فإن الورقة الأخيرة التي يُمكن أن تلعبها المملكة العربية السعودية لصد إيران كانت إستدعاء سعد الحريري، رجلها في بيروت، إلى الرياض حيث قرأ بشكل مفاجئ وغير متوقع رسالة إستقالته في الليلة نفسها التي بدأ فيها محمد بن سلمان عملية التطهير لمكافحة الفساد.
إن الإتفاق الذي جلب الإستقرار إلى لبنان وأدّى إلى إنتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ لأكثر من عامين وعودة سعد الحريري إلى رئاسة الوزراء أصبح الآن مُعرَّضاً للخطر.
لكن لبنان هو أحد الأماكن الذي كان فيه المجتمع ومنازله الطائفية أقوى من الدولة. وهي لا تزال تعمل من دون سلطة مركزية، حيث أن هذه السلطة المركزية لا تملك الوسائل اللازمة لتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية أو الرخاء الاقتصادي للمواطنين، ناهيك عن الحماية من الغزوات الإسرائيلية المتعاقبة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن عدد اللبنانيين في الشتات هو أكثر من عدد المواطنين اللبنانيين المقيمين في لبنان.

سلامٌ هشّ

إذا إندلعت المنافسة الإقليمية السعودية – الإيرانية في مواجهات عنيفة من نوع ما في لبنان، فإن اللبنانيين ليسوا وحدهم، بل أيضاً الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين سوف ينجذبون إلى مثل هذا الصراع.
قد تكون هناك أزمة لاجئين جديدة على عتبة أوروبا مرة أخرى. ومن شأن ذلك أن يمنع أي بلد أوروبي من تشجيع، أو التواطؤ في، التصاميم السعودية لزعزعة إستقرار السلام الهش بين المنازل اللبنانية الكثيرة.
ولحسن الحظ أن سفراء الإتحاد الأوروبي في لبنان أعربوا عن دعمهم للدولة اللبنانية، ولم يبدوا أي نية للمساهمة في وضع مُتقلِّب من خلال دعم المزاعم السعودية بأن لبنان أعلن الحرب عليها.
لن تكون السعودية قادرة على زعزعة إستقرار لبنان إلّا إذا كانت تعمل مع إسرائيل، الدولة الوحيدة التي لديها القدرات العسكرية لتهديد سلام لبنان الهش. هل سيذهب محمد بن سلمان بعيداً إلى حد إبرام إتفاق مع إسرائيل يُقدّم فيه تطبيعاً كاملاً مقابل قيام إسرائيل بتدمير “حزب الله” والقضاء على نفوذ إيران في لبنان؟
وهذا لا ينبغي إستبعاده لأن الأمير الشاب لا يبدو أنه يُفكّر في عواقب أفعاله.
إذا كان القمع المحلي وإحتجاز أبناء عمومته هو شيء يجب أن يؤخذ كمثال، فإن المجتمع الدولي، وخصوصاً أولئك الذين سيتأثرون مباشرة بأفعاله في لبنان، يجب أن يعمل للضغط عليه لضبط أوهامه وأحلامه لكي يصبح سيد شؤون العرب من بلاد الشام إلى عدن.
كما ينبغي على المجتمع الدولي أن يُظهر تضامنه مع لبنان بإدانة مُسبَقة لأي عدوان إسرائيلي على لبنان.

• الدكتورة مضاوي الرشيد أستاذة زائرة في مركز الشرق الأوسط في جامعة لندن للعلوم الإقتصادية (London Schools Of Economics). وقد كتبت على نطاق واسع عن شبه الجزيرة العربية والهجرة العربية والعولمة والتعددية القومية والجنسانية. لمتابعتها على تويتر:MadawiDr@
• الآراء الواردة في هذه المقالة تمثّل رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة سياسة تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى