ضربة في الرأس

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في فيلمه “ضربة في الرأس”، يخرج بنا المغربي المُدهش هشام العسري من نطاق المألوف البغيض إلى ساحة التململ المُربِك، ويختار “الجسر” كما العادة ميداناً لصرخاته المزعجة. وعند مفترق قريتين، يُبعَث الشرطي داود في مهمة غير مُقدَّسة لحماية معبر سيمر من فوقه موكب الملك الحسن الثاني عشية فوز المنتخب المغربي على نظيره البرتغالي وصعوده المدهش للدور الثاني في كأس العالم لعام ١٩٨٦. وكأن مخرجنا الشاب قد آثر الوقوف عند مفاصل التاريخ ليخرج من دائرة المحظور السياسي إلى رحابة جلد الذات.
هناك، عند مُفتَرَق مغربي أصيل، وفوق جسر لا يوصِل إلى أي مكان، يقف الشرطي داود ليُعلِّم الواقفين على أعتاب المرحلة فنون الإنحناء أمام العواصف السياسية الماجنة. وهناك، يعرف المسكين الكثير عن بؤس واقعه السياسي وحراجة موقفه الطاعن في الممالأة. وتمرّ به أصنافٌ من البشر تُمثّل فساداً إجتماعياً إستشري في أهل مغربنا ومشرقنا العربيين على السواء. وفوق الممر، تتعطّل سيارة الإسعاف، لتتحول إلى إعاقة جديدة فوق منعطفٍ مليءٍ بالمتناقضات. فتتبدّل الأدوار، ويبحث المسعفون عَمَّن عساه يُسعِفَهم من ورطتهم التاريخية فوق مطبٍّ مُخجل.
حتى الرجل الذي أتى على إستحياء لمساعدة صاحبنا، يُصاب بكسر في الساق يُقعده ويمنعه من القيام بمهماته التنظيمية، فيضطر تحت رعاية شيخ المنطقة، وهو رجل أمن في وزارة الداخلية، إلى الإقامة في منزل تاجر مخدرات، لتعتني به إبنة التاجر المُطلّقة في رمزية لا تُخفى على أحد. ويفضح مخرجنا الشاب مرماه حتى لا يدع للتأويل موضعاً، فيتزوج “المخزني” المساعد من الشابة المطلقة في إشارة إلى تزاوج السلطة بالفساد في أرض لا تُوحي فيها الجسور بأي بادرة للعبور.
في بلاد قعدت عن الكلام إلا في الرياضة، وأقعدها تنظيم مرور المواكب عن الإلتحاق بركب أيّ تقدم، يتقدم بنا هشام العسري في خطوات غير عابئة نحو وعي بائس، يتخذ من التاريخ منصة لإرسال الشفرات الحادة لشعوب أفقدتها اللامبالاة عن أي فعل. وفي إنتظار مستقبل ملغوم، يقف التاريخ ويقف الممثلون والمشاهدون ليتابعوا عنق زجاجة بطول جسر بين قريتين، وهو يتمدد كل يوم آلاف الفراسخ، ليثير حنقنا على تاريخ غير مجيد أقعدته بروتوكولات الصمت المخزي والإنحناء الكسيف أمام منصات الولاة عن السعي نحو أي أفق.
تذكّرتُ وأنا أُشاهد بعضاً من مشاهد “ضربة في الرأس”، كيف وقف (الرئيس الأميركي) دونالد ترامب متجاوزاً بروتوكولات السياسة، ليومئ برأسه لإمبراطور اليابان المخضرم، غير عابئ بأهمية الإنحناءة في كسب ودّ الجغرافيا. من المؤكد أن ترامب يعلم ما لا يخفى على أصغر الديبلوماسيين في جوقته، عن أهمية الإنحناءة في اليابان. لكنه يعلم أيضاً كيف كانت عاصفة الإستهجان التي قابل بها الشعب الأميركي رئيسه الأسبق بيل كلينتون بعد إنحناءته الشهيرة في العام 1994.
ربما لم تعد أميركا بحاجة إلى الإنحناء، وربما لم يعد ترامب بحاجة إلى من يُعلِّمه بروتوكولات التودّد لأحد أو ملاطفة أحد. لكن المؤكد تاريخياً أن المغرب ومعه كل شعوب المنطقة التعسة لم يفارقوا أعناق الجسور، وأنهم لا يزالون داخل أعناق الزجاجات يعالجون سيقان أحلامهم المشروعة التي تكسّرت فوق جسور ذات إحتقان. لا زال مشاهدو “ضربة في الرأس” يرون الإسعافات المُخدِّرة عاجزة عن تغيير واقعهم البائس، وقد تحوّلت بقدرة عاجز إلى حجر عثرة في طريق كل إصلاح وأي تقدّم.
يستحق المخرج المغربي المُدهش هشام العسري جائزة قرطاج السينمائية على طرحه المميز، كما وتستحق شعوبنا العربية البائسة “ضربة في الرأس” عن سابق جدارة وإستحقاق.

• أديب، كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى