عدوى الفساد تستفحل في تونس رغم جهود الحكومة

من أجل بقاء العملية الإنتقالية في تونس على المسار الصحيح، لابدّ من تصدّى البلاد لمسألة الفساد والإثراء غير المشروع على نحو أكثر فعالية.، وإلّا فالتحول الديموقراطي سيكون في خطر.

كاريكاتور عن الفساد في تونس نشرته صحيفة “الصباح”

بقلم ساره يركيس*

على مدى السنوات الست والنصف الماضية، كرّست تونس لقضية مكافحة الفساد وقتاً وجهداً فاقا ربما الإهتمام الذي منحته لأي جانب من جوانب عملية الإنتقال الديموقراطي في البلاد.
في 15 كانون الثاني (يناير) 2011، وبعد يوم واحد فقط على رحيل الرئيس السابق زين العابدين بن علي، شكّلت الحكومة المؤقتة لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة لمعالجة الإختلاس وغيره من أشكال الفساد الذي كان مُستشرياً في ظل النظام المخلوع. ومنذ ذلك الحين، تبنّت الحكومة قوانين عدّة وآليات رسمية أخرى للوصول إلى جذور هذه المشكلة التي إجتاحت البلاد طيلة عقود.
مع ذلك، كشف إستطلاع أجرته مؤسسة “كارنيغي” مع 391 تونسياً بين تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2017، أن 76 في المئة من الأشخاص المُستطلعة آراؤهم يعتقدون أن الفساد في تونس اليوم صار أكثر إنتشاراً وسوءاً من عهد بن علي.
ويُعزى ذلك إلى سببين: الأول أن الفساد كان موضوعاً محظوراً في ظل النظام السابق، حتى أنه في حين قد لا تكون مستويات الفساد تغيّرت فعلياً، فإن التونسيين يُدركون ويشعرون بوجود فساد أكثر اليوم لأن الحكومة والشعب يتحدثان عن ذلك بشكل مستمر. وكما أوضح ناشط في المجتمع المدني، خلال ورشة عمل أجرتها مؤسسة “كارنيغي” في أيلول (سبتمبر): بدأ الناس “يستيقظون” في العام 2011، وتطوّر “وعي جماعي إزاء ضرورة التصدّي للفساد”.
أما السبب الثاني فهو أن الفساد قد تمّت “دمقرطته” في تونس. أي أنه في حين إخترق الفساد كل القطاعات وكانت الرشى والمحسوبيات هي القواعد التي وجّهت حكم الرئيس السابق بن علي، فإن مجموعة صغيرة فقط من الأشخاص المقرّبين منه ومن زوجته ليلى طرابلسي إستفادت من نظام الكلِبتوقراطية (حكم اللصوص). أما في الوقت الحاضر، فأدوات الفساد متوافرة لأي كان.
في معركتها ضدّ الفساد، تواجه تونس تحدياً آخر. ففيما يتفق التونسيون، من جميع ألوان الطيف السياسي، بمن فيهم المسؤولون الحكوميون وناشطو المجتمع المدني، على أن مكافحة الفساد يجب أن تتصدّر قائمة أولويات الحكومة التونسية، فإن الأطراف الفاعلة المختلفة تُقارب الفساد وكيفية التصدّي له من زاوية مختلفة.
من جهتها، ركّزت الحكومة في الدرجة الأولى على مواجهة الفساد الذي برز منذ الثورة، من خلال سنّ التشريعات لتحييد الأطراف السيئة المستفيدة من مزايا بيئة ما بعد الثورة، وردع أي أعمال نصب وإختلاس، وغش وإحتيال، ومحسوبيات في المستقبل. بيد أن العديد من قوى المجتمع المدني ليست على إستعداد لإغلاق الفصل المتعلّق ببن علي، ولا تزال تسعى إلى إيصال قبضة العدالة إلى الجرائم السابقة. والحال أن المجتمع المدني كان الدافع الرئيس لإنفاذ عملية العدالة الإنتقالية الشاملة التي تتطرّق إلى كلٍ من الجرائم المادية، كالتعذيب، والجرائم الإقتصادية، كالاختلاس والمحسوبية.
وهكذا، حين يتحدث أرباب الحكومة والمجتمع المدني عن الفساد، فهم غالباً ما يتجاوزون بعضهم البعض، ما يؤدي إلى حنق الجمهور وغضبه حتى حيال إجراءات مكافحة الفساد الرسمية الحسنة النيّة.
أوضح مثال على هذا التباعد هو قانون المصالحة الإدارية الذي أقرّه البرلمان في 13 أيلول (سبتمبر) الفائت، والذي يمنح العفو لبعض الموظفين الرسميين الذين إرتبكوا جرائم إقتصادية في عهد بن علي. وكان المجتمع المدني، تحت مظلة حركة “ما نيش مسامح” (لن أسامح)، ينتقد جهاراً القانون حيث يرى فيه بأنه يشكّل تحايلاً على عملية العدالة الإنتقالية ويقوّض الإنتقال الديموقراطي. بيد أن الحكومة، بقيادة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، تعتقد أن مثل هذا القانون سيسمح للبلاد بالمضي قدماً والتركيز على جذب الإستثمارات الأجنبية.
يُعتبر قانون المصالحة الإدارية والحرب التي يقودها رئيس الوزراء يوسف الشاهد على الفساد، وهي إحدى الأولويات القصوى لحكومته، إجراءات من أعلى إلى أسفل تفتقر إلى المقبولية الشعبية الضرورية لضمان النجاح في المدى الطويل. وقد كان للحرب على الفساد، التي تتمثّل حتى الآن بمعظمها في إعتقال كبار المهربين وإجراء تغييرات في بعض المراكز الجمركية، ردود فعل متباينة في أوساط الشعب التونسي منذ الإعلان عنها في أيار (مايو) الفائت. وبينما أثنى كثيرون في المجتمع المدني على الجهود الأولية التي يبذلها الشاهد، فإن 64 في المئة من التونسيين، الذين شاركوا في إستطلاع أجرته مؤسسة “كارنيغي”، يعتقدون أن الحرب على الفساد “لن تكون ناجحة”. وذكر أحد الناشطين في المجتمع المدني، خلال مشاركته في ورشة عمل ل”كارنيغي”، أن العديد من التونسيين لا يفهمون ماهية هذه الحرب، وبالتالي، “لابدّ من تعريف وتحديد العدو والتسلّح بالأدوات المناسبة”.
من أجل التصدّي للفساد بشكل فعّال ومُستدام، يمكن للحكومة التونسية إتخاذ إجراءات عدّة لا تتطلّب جهداً كبيراً، يمكن أن تشمل تطبيق وإنفاذ القوانين القائمة لمكافحة الفساد، بدءاً من القانون الذي يُلزم المسؤولين التونسيين بالتصريح علناً عن ممتلكاتهم. كما ينبغي على الحكومة إعطاء الأولوية لإنشاء المحكمة الدستورية وضمان إستقلالية السلطة القضائية المالية المكلّفة بالتحقيق في قضايا الفساد المالي ومحاكمة المتورطين فيها وإصدار الحكم المناسب.
بالإضافة إلى ذلك، يتعيّن على الحكومة التونسية إتّخاذ بعض الخطوات الطويلة الأجل والأكثر تكلفة على غرار رقمنة العمليات الحكومية وإعادة تنظيم البيروقراطية، من أجل بناء الثقة في الحكومة وضمان التعامل بشفافية أكبر. وهنا، يبرز دور المجتمع الدولي في إمكانية توفير الدعم المالي والتقني. وينبغي للجهات المانحة الدولية أن تزيد تمويل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي تفتقر بشدة إلى الموارد المالية والبشرية. كما أنه بإمكان الدول المانحة العمل مع الشركات الخاصة للإستثمار في المناطق الحدودية للبلاد، حيث يسود الإقتصاد غير الرسمي، من خلال تحسين فرص الحصول على التعليم الجيّد وإستحداث فرص عمل خارج القطاع العام، الأمر الذي من شأنه أن يخلق حوافز للدخول في الإقتصاد الرسمي.
أخيراً، لا بدّ من أن يواصل المجتمع المدني، بدعم دولي، الإضطلاع بدور المراقبة المهم، موّسِّعاً نطاق عمله إلى المستوى المحلي لمكافحة الفساد في خضم سير عملية اللامركزية على قدم وساق. كما يجب على مجموعات المجتمع المدني العمل مع الجهات المانحة لتطوير حملة توعية عامة حول كيفية النفاذ والوصول إلى النظام القضائي للتبليغ عن الفساد وقوانين حماية المبلّغين عن المخالفات في تونس.
بإختصار، إن الفساد في تونس هو قوة مزعزعة للإستقرار تُصيب جميع مستويات إقتصاد البلاد وأمنها ونظامها السياسي. ويتعيّن على الحكومة التونسية والمجتمع المدني والمجتمع الدولي الوقوف يداً واحدة في التصدّي للفساد بأكثر الطرق فعالية وإستدامة، لضمان بقاء العملية الإنتقالية في تونس على المسار الصحيح.

• سارة يركيس هي زميلة في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. تتركز بحوثها على التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية في تونس، فضلاً عن العلاقات بين الدولة والمجتمع في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى