لبنان في عين العاصفة

بقلم جوزيف باحوط*

يتكرّر السؤال نفسه حين يتعلّق الأمر بلبنان: كيف صمد هذا البلد الذي تنخر عظامه الكثير من أوجه القصور والإنقسامات بعد العام 2011، خصوصاً عندما نأخذ في الإعتبار قربه من مرجلٍ يغلي في سوريا. وعلى الرغم من أن الوضع قد غازل شفير الكارثة مرات عدة، إلا أن بلد الأرز أثبت بإستمرار للمتشائمين بأنهم على خطأ.
يُمكن تفسير الوضع من خلال عاملين، على الأقل: الأول يتعلق بالحرب الباردة الإقليمية منذ إندلاع الإنتفاضات العربية في 2011، والثاني مستمد من التوازن الداخلي اللبناني بين أطرافه السياسية والطائفية. ف”حزب الله” وداعمته الإقليمية إيران، لم يرغبا في حدوث مواجهة داخل البلاد مع خصومهما اللبنانيين، في حين لم يملك المعسكر المُعارض ل”حزب الله” وداعميه الوسائل اللازمة للإنخراط في أي مواجهة.
وبينما تُعتبر سوريا واحدة من العديد من مسارح الحرب بالوكالة المُندلعة بين إيران ودول الخليج، وفي الطليعة المملكة العربية السعودية، فقد ساهم الطرفان خلال معظم الصراع السوري في إستقرار لبنان، كلٌّ لأسبابه الخاصة.
بالنسبة إلى إيران، كان إتخاذ القرار سهلاً. ف”حزب الله” هو الجوهرة في تاج شبكات طهران للهيمنة والغزو الإقليميين. والتوترات والصراعات في لبنان ربما قد تؤثر في الحزب سلباً، فيما هو منهمك في خوض معركة دموية طويلة، وأحياناً محفوفة بالمخاطر، ووجودية في سوريا. لذلك، كان لا بدّ، من وجهة نظر “حزب الله”، من القيام بكل ما يلزم لضمان أن يكون ظهره محمياً في بلاده، بحيث يُمكن أن تكون موارده مكرّسة بالكامل لإتمام مهمته في سوريا، المتمثّلة في حماية نظام الأسد ووضع حدّ للإنتفاضة.
أما بالنسبة إلى السعودية، فلطالما كانت للبنان مكانة خاصة في إطلالة المملكة الإقليمية. وهذا مستمد من العلاقات التاريخية، وحتى العاطفية، بين البلدين، فضلاً عن الدور الذي لعبه لبنان بالنسبة إلى قادة الخليج عموماً، وقادة السعودية على وجه الخصوص. فبالنسبة إليهم وإلى أُسرهم، لطالما كان لبنان موقعاً يقصدونه للترفيه والاستجمام، فضلاً عن كونه المكان الذي يمكنهم فيه إستثمار أموالهم أو إدارتها. وقد ساهم ذلك أيضاً في تحصين لبنان بعد العام 2011.
تأتي بعدها مسألة القدرات. كانت السعودية راعياً وحامياً لتكتل 14 آذار (مارس) المُعارض ل”حزب الله”، ولا سيما تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري. لكن هذا التكتل تلقّى صفعة قوية في العام 2008، عندما حاول تحدي نظام “حزب الله” في لبنان. بعد ذلك، أُجبِر السعوديون على الإعتراف بأن لبنان سقط في حضن خصومهم الإقليميين، ما دفعهم إلى رعاية مصالحة بين الحريري والنظام السوري. وبعد العام 2011، إنهار التفاهم السعودي- السوري الجديد حول لبنان، وكانت هذه التجربة السيئة إحدى التجارب التي يرغب السعوديون في طيّ صفحتها بعد الإنتفاضة في سوريا.
أما الترجمة اللبنانية لهذا الواقع السياسي بعد العام 2011 فكانت ما سمُي ب”سياسة النأي بالنفس”، حيث سعى لبنان من خلالها إلى البقاء على مسافة متساوية من جميع الأطراف في شرق أوسط مقسّم. وقد إعتُمد هذا النهج خلال ولاية الرئيس ميشال سليمان، وجرى إستكمالها، ولو بقناعة أقل، بعد إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً في العام 2016 وما مثّله ذلك من إنتصار سياسي ل”حزب الله”، وبشكل من الأشكال للنظام السوري. وفي الصفقة التي دفعته إلى تأييد إنتخاب عون، تفاوض سعد الحريري على الإبقاء على سياسة النأي بالنفس، لكنه كان يعلم أيضاً أن علاقات الدولة اللبنانية كانت تغيّرت بشكل جذري خلال الفترة الإنتقالية بما لا يصبّ في مصلحته.
هذه الإعتبارات على الصعيدين المحلي والإقليمي آخذة في التبدّل الآن. وهي تتغيّر، على وجه التحديد، لأن الحرب في سوريا، حتى لو لم تنتهِ بعد، وصلت على الأقل إلى مرحلة يبدو فيها أن نظام الرئيس بشار الأسد سيتمكّن على الأرجح من النجاة. وبما أن الوضع السوري يتجه نحو تخفيف التصعيد، ويأخذ النزاع هناك أبعاداً جديدة، قد تكون المفارقة بأن المخاطر المتعلقة بلبنان قد تتزايد، بينما لم تعد الأسباب التي جعلته في منأى عما يحصل حتى الآن قائمة.
إقليمياً، تسعى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة راهناً إلى التعويض عن خسارة سوريا التي شكّلت ميداناً لتحدّي إيران وإستنزافها. وقد تدفعهما الرغبة المتجدّدة في قلب حظوظهما الإقليمية، إلى إستعادة موطئ قدمهما في لبنان. فدول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة لا ترغب في أن تجني إيران ثمار الإنتصار في سوريا، كما أن لبنان هو المكان الوحيد الذي يمكنها فيه العمل على إعادة التوازن إلى العلاقة الإقليمية مع طهران في بلاد الشام، إن شاءت ذلك، على الرغم من المخاطر الكثيرة التي تترافق مع هذا المجهود.
في مثل هذه الحالة، ليس أمام “حزب الله” أي خيار سوى قبول هذا التحدّي، ولا سيما إذا دخلت إسرائيل على الخط، على الرغم من حرصه على عدم المجازفة بملاذه الآمن في لبنان. وسيتحقّق ذلك على وجه الخصوص في حال سعت إسرائيل إلى الإنتقام من “حزب الله” بسبب حربها المُحبِطة ضدّه في العام 2006، لكن أيضاً لأن هذا سيتيح للحزب أن يضع إسرائيل مجدّداً في صلب أولوياته، بعد سنوات من الانخراط الميداني في سوريا.
قد يؤدّي هذا الوضع في سورية إلى زعزعة الداخل اللبناني. فحين تستقر سوريا، تعود إحدى المسائل الشائكة بين الطرفين لتطل برأسها مجدّداً، وهي: متى وإلى أي مدى سيحتاج لبنان إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد؟
ثمة العديد من المسائل التي تشلّ حكومة سعد الحريري اليوم، إلّا أن مسألة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد هي التي قد تقضي على حظوظها بالكامل. ففيما يناشد الوزراء المحسوبون على “حزب الله” وعون سائر الأفرقاء إلى الوقوف صفّاً واحداً مع دمشق، دُعي الحريري وحلفاؤه إلى السعودية لتعزيز الجبهة التي قد تناوئ “حزب الله”. وقد يجد الحريري نفسه مضطرّاً للانضمام إلى مثل هذا التحالف كي لا يُثير حفيظة رعاته السعوديين. وهذه المواجهة، إن وقعت، ستؤثّر في مروحة واسعة من القضايا الثنائية التي تؤرق الجانبين اللبناني والسوري، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن والحدود واللاجئين، وكيف يمكن أن يفيد لبنان من عملية إعادة إعمار سوريا، التي يبدو أن الحريري بات مهتمّاً بها لحل مشاكله المالية الخاصة.
تشكّل الظروف الجيوسياسية الجديدة المتربّصة بلبنان أهم العوامل الدافعة إلى القلق العميق. فأمام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشرسة جهاراً، والتي تعمد إلى تشديد العقوبات المفروضة على “حزب الله” وإيران، يتناهى إلى مسامع المسؤولين في بيروت قرع طبول الحرب مع إسرائيل، حيث يعتقد كثر أن نشوب النزاع في السنوات المقبلة أمرٌ لا مفر منه. ويترافق ذلك مع همّ آخر يحمله لبنان، ويتمثّل في وجود حوالى مليون ونصف لاجئ سوري في البلاد، وسيتوارون في غياهب النسيان والحرمان ما لم يتم التوصٌل إلى “حل” شافٍ في سوريا.
في خضم هذا السياق، قد يُنظَر إلى الحرب في سوريا على أنها فترة لتقطيع الوقت بهدوء نسبي، قبل هبوب عاصفة الخصومات الإقليمية. لكن اللبنانيين يأملون بأن لا يُجانب الصواب المتشائمين مرة أخرى.

• جوزيف باحوط باحث زائر في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط. تتركّز أبحاثه على التطورات السياسية في لبنان وسوريا، والتداعيات الإقليمية للأزمة السورية، وسياسات الهوية في أرجاء المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى