زياد دويري يُذكّر اللبنانيين في “قضية رقم 23” بأن الندوب والجراح لم تَندَمِل بعد

في بلدٍ ذاكرته مُثقلة بالكثير من الندوب والجراح التي لم تَندمل، لا تأتي الكلمات بسيطة سهلة، بل تأتي مُحمّلة بإرثٍ من الضغائن والمظالم غير المُفصَح عنها. ويُمكن لكلمة قيلت في وقت غضب بين فردين أن تُهدّد إستقرار بلد بأكمله. الخلاف الفردي ليس فردياً إن وقع بين شخصين ينتميان إلى طرفين تاريخهما مُثقل بالخلاف والعداوة.
هذا ما يطرحه المخرج اللبناني الفرنسي زياد دويري في فيلمه “قضية رقم 23” (أو الإهانة)، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا لهذا العام، وحصل عنه الممثل الفلسطيني كامل الباشا على جائزة أفضل ممثل في المهرجان.

زياد دويري مع طاقم “قضية رقم 23”: نخبة جيدة حيث فاز منها كمال الباشا بجائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا

بيروت – باسم رحال

لا شك أن فيلم المخرج اللبناني زياد دويري الجديد “الإهانة”، الذي عُرَّب إسمه ليصير “قضية رقم 23″، يُعتَبر إنجازاً كبيراً على مستويات عدة. فهو من الناحية التقنية بارعٌ ومُتقَن، والممثلون يُمكِن تصديقهم، وخط القصة، على الرغم من المبالغة فيه عمداً، يصمد بشكل رائع، مع نص نادراً ما يتعثّر. ولعلّ ذلك يُمكن أن يُقال عن العديد من الأفلام، ولكن للأسف ليس عن العديد من الأفلام اللبنانية، رغم أن عدد الإنتاجات العالية الجودة التي خرجت من البلاد قد إرتفع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
لكن ما يكمن في “قضية رقم 23” هو أن دويري وزوجته السابقة جويل توما كتبا قصة تتناول العداوات اللبنانية في زمن الحرب بجرأة ومن دون تردد. ويُظهر عملهما أيضاً أن الفنانين يُمكنهم إستخدام الفيلم للمساعدة على خلق ذاكرة جماعية في مجتمع إتُّهم بنمو فقدان الذاكرة في ما يتعلق بحربه الأهلية بين عامي 1975 و1990.
يكاد يكون “قضية رقم 23” أول فيلم يقوم بتحقيق ذلك – فيلم آخر صدر هذا العام، “محبس”، حاول أن يفعل ذلك أيضاً بشكل محدود، وإن كان من خلال مؤامرة أخف بكثير. لقد أثبت دويري وتوما بأنه ما لم يعبر الواحد إلى تجارب الحرب ويعيشها بطريقة تفضل المصالحة، فإن تلك الأحداث الماضية يُمكن أن تعود إلى إلتهام الحاضر، مما يضر الجميع. وهذا دليل حزين على ميل لبنان إلى تحويل الحوادث البسيطة إلى أزمات كبرى، حيث تجذب جميع الأطراف إلى المعركة. وهذه التصعيدات ليست مُدمِّرة بشكل عميق فحسب، بل أن المشاركين أنفسهم يبدأون إدراك ذلك بعد فترة وجيزة، ولكنهم لا يستطيعون التراجع لأنهم مُقيَّدون جداً بمواقفهم.

ماذا في القصة؟

طوني (عادل كرم) صاحب مرآب لتصليح السيارات وزوج ينتظر مولد طفله الأول. وهو يقيم في منطقة فسوح ذات الغالبية المسيحية في بيروت. ونعرف من خطب بشير الجميل، الرئيس اللبناني الراحل الذي كان قائداً عسكرياً ل”القوات اللبنانية”، التي يستمع إليها طوني بصورة شبه دائمة في ورشته، إنتماءه الحزبي والسياسي وتعصّبه لهذا الإنتماء.
ذات يوم يتم تكليف المهندس ياسر (كامل الباشا)، الذي يعمل في شركة كلّفتها إدارة الحي بترميم المنازل، بتفقد المخالفات في الشارع حيث يُقيم طوني، علماً أن ياسر فلسطيني يُقيم في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان.
ويتصادف مرور ياسر مع سقي طوني للزهور في شرفته حيث يتساقط الماء من الشرفة ليبلل ثياب ياسر.
قد يبدو الأمر حادثاً عارضاً، ولكنه يحمل ثقل سنوات من الضغائن، فطوني علم من لهجة ياسر التي تناهت إلى مسامعه أنه فلسطيني فقرر أن ينفس عن غضب مكبوت.
ويتصاعد الخلاف سريعاً بين الجانبين ويخرج عن إطار السيطرة ويصل إلى الجملة الحاسمة التي أنذرت بفيض من الغضب في البلاد، حيث يقول طوني في فورة غضبه لياسر: “يا ريت شارون مَحَاكُن عن بكرة أبيكن” (يا ليت شارون مَحَاكُم عن بكرة أبيكم).
يتّخذ دويري من هذه الجملة وتداعياتها وبكل إحالاتها للحرب الأهلية اللبنانية نقطة بداية، ويُمسك مبضعه كجراح ليصل إلى قلب العطب المسكوت عنه في بلاده، فجميع القضايا التي تعود إلى الماضي يُخشى الخوض فيها حفاظاً على السلام العام. ولكن دويري لا يخشى ذلك، ويتبدّى لنا أنه يرى أن التخلص من القيح الذي يملأ الجراح خير سبيل للشفاء.
إن “قضية رقم 23” لديه طبقات عدة من التعقيد. إنه، في أبسط مستوياته كما رأينا، قصة نزاع صغير بين مؤيد لحزب “القوات اللبنانية” المسيحي وفلسطيني الذي يفتح جراحاً من سنوات الحرب. إلى حد ما، فإن الباعث على الخلاف الفلسطيني – اللبناني المسيحي هو مفارقة تاريخية، إذ أن الفيلم يتم في وقتٍ تصالح فيه الفريقان تقريباً. ومع ذلك، يُظهر الدويري كيف يمكن للماضي أن يهزّ عميقاً الصفاء الحالي، وربما يكون من الإنصاف القول أنه فضّل الإبتعاد من التمزق القاسي المُحتمَل الذي كان سائداً خلال الإطار الزمني للفيلم، بين السنة والشيعة في لبنان.
من ناحية أخرى، إن الفيلم هو أيضاً قصة عن التهميش الإجتماعي. يأتي البطلان الرئيسيان من الطبقة الحضرية الدنيا. فالفلسطيني هو لاجئ يعيش في مخيم، في حين أن المسيحي هو صاحب مرآب في حي للطبقة العاملة في شرق بيروت. كلاهما ينحدر من محيط مجتمع مُهَمَّش، حيث يتحوّل نزاعهما لتغذية طموحات مَن هم حولهما من الذين هم أكثر بروزاً إجتماعياً، ولكل منهم جدول أعماله. وفيما تُصوِّر كاميرا توماسو فيوريلي السينمائية الأحياء الفقيرة في بيروت، وهي أحياء على حد سواء بشعة وفاتنة، فإن دويري رسخ شخصياته بشكل أفضل في مشهد من الإضمحلال الحضري.
مع تكشّف أحداث الفيلم، يُصبح هذا المشهد شخصية أساسية في الدراما، مما يخلق سياق المواجهة بين الشخصين الرئيسيين فضلاً عن واحد يحددهما بشكل أعمق. وبطريقة خفية، يشير دويري إلى أن نزاعات لبنان كانت مدفوعة بأشد العناصر فقراً في البلاد، وهم أولئك الذين لم يمنحهم النظام أي فائدة. لبنان ليس إستثناء هنا، ولكن من خلال إخبارنا بذلك في إطار فيلم عن مشاجرة شخصية، فإن دويري وتوما يأخذان حكايتهما إلى مستوى جديد، يستخدمانها لفضح الحقائق الإجتماعية اللبنانية غير المستقرة.
وينتقل الفيلم إثر ذلك إلى دراما تدور أحداثها في قاعة المحكمة، وتتحوّل المحاكمة من محاولة البت في حادث فردي إلى البت في تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية بأسرها. لكلٍ من الجانبين جروحه الدفينة التي يُبقيها سراً في محاولة العيش في الحاضر ولكن الماضي يكمن في أصغر التفاصيل ويُمكن أن يطفو إلى السطح بسبب كلمة.
وينأى الفيلم بنفسه عن تقسيم الحياة والساحة اللبنانية إلى ضحايا ومذنبين أو إلى أخيار وأشرار، فلا ثنائيات في الفيلم ولا إلقاء لوم. لكلٍّ ألمه وعذاباته التي يمكن من خلالها فهم شخصيته وتوجهاته.
في ساحة المحكمة تتطور أبعاد القضية لتنتقل من المستوى الشخصي لتصبح قضية رأي عام وقضية دولة بأسرها بعد تدخل محامٍ كبير (كميل سلامة) للدفاع عن طوني وعن وجهة نظره في القضية.
ويتدخل المحامي، الذي سبق أن تبنّى مكتبه قضايا للدفاع عن عدد من كبار المسؤولين من الإتجاه السياسي عينه الذي يُمثّله طوني، لا للدفاع عن طوني كشخص ولكن للدفاع عنه كمبدأ وكتوجه وكوجهة نظر، ويصبّ كل ما في جعبته من خطب مفوَّهة لتأجيج المحاكمة ولصب المزيد من الوقود على النار.
طوني ليس بالشخص الشرير المريض الطوية، ويوضح لنا دويري الخلفيات النفسية لتعصّبه، فهو يحمل جروحاً نفسية غائرة منذ طفولته في الحرب الأهلية، حيث شهدت ضيعته مجزرة حمّل وزرها لمسلحين فلسطينيين. ومع إحتدام جلسات القضية، يحاول طوني التراجع أكثر من مرة ولكن محاميه وأصدقاءه يثنونه عن ذلك، فهي فرصتهم للإنتقام.
لم تعد القضية قضية طوني وأصبحت أي محاولة منه للإقرار بالذنب بأي صورة من الصور “خذلاناً” للجانب الذي يؤيد ما يتبناه من فكر. المفارقة في الأمر هي أن المحامية التي حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن ياسر، على الطرف الثاني من القضية، هي إبنة المحامي الذي تولّى الدفاع عن طوني. ويوحي ذلك بأنه في الأسرة الواحدة في لبنان تشتبك الآراء السياسية ويسعى جيل جديد للتخلص من تحاملات وتعصبات جيل قديم.
أما ياسر، فيحاول في الكثير من الأوقات أن ينأى بنفسه عن المهاترات، ولكنه لا يقل إحتداداً عن طوني حين يغضب. وفي واقع الحال، يُمكن النظر إلى الاثنين كوجهين لعملة واحدة، فهما متشابهان في فورة غضبهما، على إختلاف مشاربهما السياسية وإنتمائهما، وكلاهما يعاني من جراح الماضي السياسي والعسكري لبلاده.
ولكن ما يُظهره شكل قاعة المحكمة أيضاً هو كيف بقي دويري متأثراً بهوليوود، الأمر الذي دفع هذا الفيلم إلى آفاق جديدة. وعلى الرغم من أنه أكد منذ فترة طويلة على البقاء مستقلاً، فإن دويري يبدو حساساً لحتميات السينما التجارية. وقد أكد في مقابلة أجريت معه أخيراً أن الأفلام مُوجّهة إلى عامة الناس، وليس إلى بيوت فنية. لديه شعور حيّ بالنسبة إلى ما يدفع القصة، يتجنب الوراثة، يقوم بتحرير أفلامه حتى لا تتثاقل، ويُمكِن أن ينفعل عند الحاجة. ولكن هذا هو المكان الذي تتوقف فيه هوليوود. وبعيداً من تلك النقطة، تميل أفلام الدويري إلى إبراز التعقيدات والتناقضات في المخرج نفسه.
فالدويري لبناني أساسي في تحقيق التوازن بين الهويات المتعددة، سواء كانت ثقافية أو سياسية، في حين يشعر بالراحة في التنقل والإبحار في المناطق الرمادية. وعلى الرغم من أنه نشأ في بيئة إسلامية متعاطفة مع القضية الفلسطينية، إلا أنه صوَّر في العام 2012 فيلمه “الهجوم” في إسرائيل، وهي موقع رواية ياسمينة خضرة التي يقوم عليها الفيلم. لم يرغب دويري في تقديم فيلمه في شمال إفريقيا والتضحية بالواقعية في هذه العملية. كما لم تمنعه خلفيته من التفكير مرة في تصوير فيلم عن سمير جعجع، الزعيم المسيحي ل”القوات اللبنانية”، الذي تلعب شخصيته، ربما ليس من قبيل المصادفة، دوراً صغيراً ولكنه مهم في “قضية رقم 23”.
وهنا عليك أن تتساءل كيف سيكون رد فعل الجمهور الغربي على أحدث فيلم للدويري كنتيجة لهذا. لم تأخذ قصة دويري وتوما جانب أحد، ليس هناك رجل جيد ولا رجل سيئ. والشخصيتان الرئيسيتان هما ضحية، وكلاهما تصرف في وقت من الأوقات على نحو يؤسف له. بالنسبة إلى جمهور عادة مغمور بأفلام رُسمت في أشكال حادة، فقد يبدو “قضية رقم 23” مثيراً للقلق. ولكن في حينه كانت نهاية حرب لبنان في العام 1990، عندما توافق الأعداء خلال الحرب فجأة معاً لتشكيل طبقة سياسية متماسكة بعد الحرب.
وهذا هو الأكثر مأسوية في في “قضية رقم 23”. الشخصان هما من البيئات التي عانت بشكل رهيب، على أيدي الناس الذين لم يُحاسَبوا أبداً. وهذا يفسّر إحباطها، والعنف أحياناً، والرغبة في نوع من العدالة. وكما أن بطلي دويري هما أكثر تشابهاً مما هما أكثر إختلافاً، فإنهما غير راضيين أيضاً عن قدرة لبنان على رفض النتائج الواضحة. والحلول هي تقريبية، غير كاملة، حيث أن الدافع إلى حل وسط يُعكّر دائماً المياه.
وقد رد اللبنانيون بشكل جيد على الفيلم، فهو حالياً الفيلم الأكثر شعبية في بيروت. وكان إعتقال دويري لفترة وجيزة من قبل مديرية الأمن العام في أيلول (سبتمبر) الفائت، نتيجة شكوى قدمها شخص غير راض عن تصويره لفيلم في إسرائيل، موحياً وكاشفاً. وسرعان ما أقدمت السلطات، التي إضطرت إلى إستدعائه أمام المحكمة العسكرية، إلى إلغاء ورفض الدعوى. ولم يرَ المسؤولون أي فائدة في إستهداف دويري الذي تم تكريم فيلمه في مهرجان البندقية السينمائي مع جائزة أفضل ممثل لكامل الباشا الذي يلعب دور الشخصية الفلسطينية.
وقال المخرج في وقت لاحق أن تلك الحلقة، مثل الإستجابة المشجعة لفيلمه، أعطت دويري إيماناً جديداً باللبنانيين. وأظهرت بالتأكيد أنه يمكنهم أن يمنحوا التهنئة والثناء حيث تدعو الحاجة وإلى من يستحقهما. إن “قضية رقم 23” يأخذ مستوى صناعة الأفلام اللبنانية خطوة إلى الأمام، وسيشجع المخرجين المحليين الآخرين على القيام بذلك. لهذا وحده يستحق دويري شكرنا، في بلد لا يزال لديه عادة عدم رواية الكثير من القصص الجيدة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى