روسيا وحرب لبنان المُقبِلة: كيف يُمكِن أن تستفيد موسكو من الصراع بين إسرائيل و”حزب الله”

فيما تتصاعد تكهنات الخبراء من أن الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل ليست مستبعدة، وقد تقع في أي وقت، لا سيما وأن الطرفين يستعدان لها، فإن العيون ستكون شاخصة على الكرملين وسيده، فلاديمير بوتين، لرؤية رد فعله وموقفه إذا إندلعت نيران هذه الحرب.

“حزب الله”: إلى أي مدى قد يتأثر بروسيا إذا وقعت الحرب بينه وبين إسرائيل؟

بقلم ديمتري أدامسكي*

مع إستعادة القوات الموالية للنظام السيطرة على أجزاء كبيرة من سوريا، بدأ المخططون الإسرائيليون يُركّزون من جديد على إحتمال نشوب حرب أخرى مع “حزب الله”، الجماعة الشيعية المُقاتلة والحليفة الرئيسية للرئيس السوري بشار الأسد. إن الحرب الأخيرة بين إسرائيل و”حزب الله”، في العام 2006، قد جلبت أكثر من عقدٍ من الهدوء على طول الحدود الشمالية لإسرائيل. ولكن على مدى السنين العشر التي إنقضت منذ ذلك الحين، زاد “حزب الله” بشكل كبير حجم وتطور ترسانته وحسّن موقعه السياسي داخل لبنان. ومن المُمكن أن تنشب الآن حرب أخرى لعدد من الأسباب: إذا أنتج تصوّرٌ خاطئ من جانب “حزب الله” أو إسرائيل تصعيداً غير مقصود؛ إذا قرّر أحدهما إستغلال لحظة ضعف مُتَصَوَّرة للجانب الآخر للهجوم؛ أو إذا عَبَر أيٌّ من الجانبين الخطوط الحمراء للآخر.
ولا يُشكِّك الإستراتيجيون الإسرائيليون في إحتمال نشوب حرب مع “حزب الله”. لكنهم يتساءلون كيف سيكون موقف ورد فعل روسيا، التي هي حليفة في السلاح مع إيران و”حزب الله” في سوريا، بالنسبة إلى هذا الصراع. ومن جهتها، كثّفت إسرائيل أخيراً ضرباتها الجوية ضد “حزب الله” في لبنان وسوريا، لكنها تمكنت حتى الآن من الحفاظ على تسوية مؤقتة حساسة مع الكرملين، وغالباً من خلال مناشدات وعلاقات شخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذا النمط قد لا يصمد في الحرب المقبلة. ففي حالة تصاعد القتال العنيف بين إسرائيل و”حزب الله” ضد مصالح روسيا، فإن موسكو ستكون فى وضع جيد لتقييد حرية عمل الجانبين والمساعدة فى تسوية الصراع. ومن المُحتمَل أن يستغل الكرملين مثل هذه الحرب لتحسين وضعه وتأثيره في الشرق الأوسط الأوسع.

أولويات موسكو

مع إستقرار الوضع في سوريا، تعمّقت المنافسة على النفوذ هناك بين روسيا وإيران. يريد الكرملين الحفاظ على أصوله في ظل أي ترتيب سياسي في المستقبل، حتى لو تمّ إستبدال الأسد كزعيم لسوريا أو إذا صارت البلاد فيديرالية. وبدورها، تسعى إيران أيضاً إلى تعزيز قوتها في بلاد الشام حسب شروطها. كلاهما يسعى إلى إقامة موطئ قدم عسكري دائم في سوريا وإلى التأثير الجيوسياسي في المنطقة، ولكن الأراضي التي إستعادها الأسد لا يُمكنها أن تستضيف راعيتين مختلفتين.
لقد أصبحت طموحات إيران مشكلة بالنسبة إلى روسيا. ويودّ الكرملين ان يحدّ من طموح الجمهورية الإسلامية للهيمنة الإقليمية من دون ان يوتّر العلاقات معها، حيث ما زالت تشكّل أكبر حليف إقليمي له. وتفضّل موسكو ان يكون وجود إيران و”حزب الله” في سوريا غير قوي جداً ولا ضعيف جداً.
إن تصميم إسرائيل على إستخدام القوة قد يخدم هذا الهدف. وإذا إندلع الصراع بين إسرائيل و”حزب الله”، فمن المُحتَمل أن تترك موسكو “حزب الله” وإيران ينزفان من أجل إضعاف وضعهما الإقليمي. لكنها ستسعى أيضاً إلى منع إنتصار إسرائيلي كامل، لأنها لا تزال تحتاج إلى “حزب الله” كفاعل إستراتيجي في المنطقة، ولأن ذلك يُمكن أن يُبرهن لإسرائيل حدود قوتها. من خلال تسوية الصراع وإستعادة الوضع الراهن الذي كان سائداً قبل الحرب، يُمكن أن تؤكد روسيا على أنها قوة توازي أو تتجاوز الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن أفضل نتيجة للكرملين ستكون حرباً قصيرة تقتصر على لبنان، والتي تتلاشى وتسمح لكلّ من إسرائيل و”حزب الله” إدّعاء الإنتصار بعد أن يتحوّلان معاً إلى موسكو للتوسط لإنهاء القتال. وأسوأ النتائج ستكون تفكك لبنان، وهو تطور من شأنه أن يحوّل البلاد إلى صندوق “بندورة” جهادي مثل العراق بعد صدام — وإنتشار القتال إلى مرتفعات الجولان السورية، الذي من شأنه أن يُعرّض للخطر إنجازات موسكو في تهدئة الوضع في سوريا ويُمكن أن يُزعزع إستقرار المنطقة.
إن إنتصار “حزب الله” الكامل أو إبادته والقضاء عليه أمران غير مرغوبين على قدم المساواة بالنسبة إلى موسكو: الأول لأنه يُمكِن أن يُشجّع الحزب إلى درجة تجاهل موسكو، والأخير لأنه سيجعل روسيا تبدو وكأنها حليفٌ غير موثوق. في ظل أي نتيجة، فإن موسكو قد تحاول “تجميد” الصراع – وهي وسيلة مارستها في أراضيها بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي مثل أبخازيا، دونباس، ناغورنو كاراباخ، أوسيتيا وترانسنيستريا. وهذا يتطلب الحفاظ على التوترات بين الطرفين عالية بما فيه الكفاية للحفاظ على آفاق وساطة موسكو وتدخلها، ولكن ليست عالية جداً إلى درجة أن تؤدي إلى حرب طويلة الأمد. إن الحفاظ على قدر من الإستقرار الهشّ في لبنان، من شأنه أن يزيد إعتماد جميع الاطراف على روسيا، والحفاظ على الحاجة الماسة إلى موسكو. وبالتالي يُمكن للصراع بين إسرائيل و”حزب الله” أن يخلق فرصة جيدة لروسيا، إذا إستطاعت أن تمنع التصعيد من أن يأتي بنتائج عكسية.

لحظات الخطر الأقصى

الحرب المقبلة بين إسرائيل و”حزب الله”، سوف تتميز بنظريات جديدة بالنسبة إلى النصر والتي إعتمدها الجانبان منذ النزاع الأخير. إن “حزب الله” من المرجح أن لا يقتصر هجومه على إطلاق وابل من الصواريخ ضد المدنيين الإسرائيليين، كما فعل في الماضي. بل سيسعى أيضاً إلى ضرب آلة الحرب الإسرائيلية. إن التحسينات في دقة ومدى صواريخ “حزب الله”، وأعدادها المتزايدة، يٌمكن أن تسمح له ضرب أهدافٍ مهمّة من الناحية العملية، مثل قواعد سلاح الجو الإسرائيلي، ومنشآت جمع المعلومات الإستخبارية، أو حتى الحشودات العسكرية. ويتوقع المخططون الإسرائيليون أيضاً أن يقوم عددٌ قليل من وحدات النخبة في الحزب بمناورات متطورة داخل الأراضي الإسرائيلية، وربما السيطرة على بعض المستوطنات الحدودية.
من جانبها، من غير المرجح أن تقوم إسرائيل بإجراء ما يُسمى بعملية ردع أخرى – التي كانت خيارها الأساسي في صراعات العقد الماضي، حيث سعت من خلالها إلى فرض ضرر محدود على أعدائها من أجل الحيلولة دون وقوع جولات من العنف في المستقبل. ويٌمكن أن تسعى بدلاً من ذلك إلى ما يسميه المخططون الإسرائيليون “قرار ساحة المعركة”، أو إنتصاراً لا جدال فيه على الأرض مصحوباً بصورة إنتصار. إن إسرائيل لن تسعى إلى إبادة “حزب الله”، ولكنها ربما تريد أن تقترب من ذلك.
إن صراعاً تُشكِّله هذه المعتقدات الجديدة يُمكن أن يُعرّض مصالح روسيا للخطر. إن الوضع الأكثر صعوبة بالنسبة إلى موسكو قد ينشأ إذا ما قامت إسرائيل بإلحاق ضرر كبير ب”حزب الله” أكثر مما يريده الكرملين، ثم تمضي في متابعة وملاحقة الحزب، بهدف تحقيق إنتصار حاسم. إن ضرب “حزب الله” وأخذه إلى حافة الدمار من شأنه أن يُضعف إيران، راعية “حزب الله” وحليفة روسيا الإقليمية الرئيسية، وقد تضغط موسكو على إسرائيل من أجل وقف الحرب. إلّا أن الحماس المُحتمَل ل”حزب الله” من أجل التصعيد يُمكن أن يكون بالقدر عينه مفرطاً لا يُحتَمَل تقريباً. وقد يُحرّض على الإنتقام الإسرائيلي في سوريا وإيران، مما يزيد من إرهاق وإشعال الشرق الأوسط من دون الاستفادة من جانب موسكو.
وسيعتمد المدى الذي ستسعى روسيا فيه إلى تقييد إسرائيل و”حزب الله” على حالة الحرب السورية. كلّما إحتاجت موسكو إلى “حزب الله” لمحاربة بقية القوى المناهضة للأسد، كلما كان عليها حماية المجموعة الشيعية من الهجمات الإسرائيلية. وكلما كان النظام المؤيد للكرملين أكثر أماناً في سوريا، وموقف موسكو أكثر إستقراراً هناك، كلما زادت مساحة إسرائيل للمناورة.

التصعيد من أجل التخفيف

وإذا لم تتمكن موسكو من التوسط لوضع حلّ سياسي للنزاع، فإنها قد تحاول إجبار الطرفين على إنهاء القتال على طريقتها. إن الرغبة في تحقيق أقصى قدر من المنافع مع حد أدنى من الإحتكاك، يُمكن أن تدفع موسكو إلى القيام بعمليات سيبرانية – إلكترونية محدودة ضد أهداف مدنية في إسرائيل، مثل الموانئ أو مصافي النفط. ويبدو أن مثل هذه الإعتداءات ستكون أقل تصعيداً وسيكون من الأسهل القيام بها من الهجمات على البنية التحتية العسكرية، ويُمكن لروسيا أن تعزوها إلى إيران أو “حزب الله” للإستفادة من النفي المعقول وتجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل. ومن ثم يُمكن لموسكو أن تشير إلى أنه ما لم تُوقف إسرائيل هجومها على “حزب الله”، فإنها يمكنها أن تضغط على “زر أحمر” آخر – وهو ضعف رقمي مزروع سابقاً داخل البنية التحتية الحرجة لإسرائيل التي هي على إستعداد لإستغلالها في لحظة الحاجة. وأخيراً، لتقويض تماسك الجمهور الإسرائيلي، فإنه يمكنها أن تنشر التضليل أو كشف أسرار حقيقية لفضح فضيحة عامة.
وفي ميدان المعركة، في الوقت نفسه، يُمكن لروسيا أن تحاول جعل المخططين الإسرائيليين يعتقدون أن أفراداً من الروس متمركزون بالقرب من “حزب الله” وبأن غارة على أحدهما سيعرض الإثنين للخطر. وفي حال فشل ذلك، يُمكن أن تهدد موسكو بنشر فقاعات مُضادة للدخول إلى المنطقة لمنع القوات الإسرائيلية من ضرب أهداف “حزب الله” في سوريا ولبنان. وفي المستوى التالي من التصعيد، يُمكنها تخريب الضربات الدقيقة الإسرائيلية إلكترونياً أو تجميد أو إسقاط الطائرات من دون طيار الإسرائيلية. وإذا لم تستجب إسرائيل، يُمكن لموسكو أن تقوم بتخريب سيبراني (إلكتروني) ضد بطارية القبة الحديدية المضادة للقذائف والصواريخ، وأن تتداخل مع صفارات الإنذار الخاصة بها أو أنظمة الإنذار المبكر في وسائل الإعلام الاجتماعية، وأن ترافق تلك الخطوات بحملة إعلامية عن ضعف الدفاع المدني الإسرائيلي التي تهدف إلى إثارة الذعر بين الجمهور.
لكن روسيا من المرجح أن تكون عملية وبراغماتية: ربما تسعى إلى الضغط على “حزب الله” أيضاً، ليس فقط من خلال إيران وسوريا ولكن أيضا مباشرة. بعد عامين من القتال جنباً إلى جنب مع الجماعة الشيعية المسلحة في سوريا، فإن موسكو على دراية وثيقة بقيادتها وتحكمها وهندسة الإتصالات والتكنولوجيا التي تدعمها. ويمكن لروسيا أن تسعى إلى تقويض تلك الهياكل إلكترونياً إذا ذهب وابل صواريخ “حزب الله” بعيداً جداً. هنا أيضاً، يمكن أن تغطي المسارات السيبرانية حجب مسؤوليتها. وفي الوقت نفسه، يمكن لروسيا أن تسعى إلى إقناع “حزب الله” مباشرة، على إفتراض أن المنظمة، التي إستُنفدت من الحرب في سوريا، ستكون مستعدة لإستقبال مطالبها.

عناق الدب

ستشارك روسيا بشكل أكبر فى الحرب العربية – الاسرائيلية المُقبلة أكثر من أي وقت مضى. إن الغريزة الإسرائيلية لا تزال تقوم على التحوّل إلى الولايات المتحدة خلال الأزمات. ومع ذلك، فإن الخلل الذي يميز الإدارة الأميركية الحالية والروابط الإقليمية للكرملين يمكنها أن تجعل موسكو، التي أقامت معها إسرائيل بالفعل تبادلات عسكرية -عسكرية وسياسية، طرفاً أكثر صلة في العيون الإسرائيلية.
اذا كانت إسرائيل ستطلب من روسيا المساعدة فى التعامل مع الأعمال العدائية فان هذا الأمر سيكون أول منعطف من نوعه منذ العام 1967 عندما تحوّلت إسرائيل الى الإتحاد السوفياتي، الذي كان في حينه قوة عظمى، في محاولة لمنع حرب الأيام الستة. ومثل هذه الجاذبية تعني أنه بعد بضع سنوات من تدخل روسيا في سوريا، إستطاع بوتين إعادة وضع موسكو تماماً في الشرق الأوسط الذي خسرته منذ خمسة عقود. وإذا إندلعت الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” فإن روسيا يمكن ان تثبت بأنها الفائزة.

• ديميتري أدامسكي أكاديمي وخبير في شؤون روسيا ومنطقة الشرق الأوسط، وتشمل إهتماماته البحثية: الأمن الدولي، والدراسات الإستراتيجية، والنهج الثقافي تجاه الأشعة تحت الحمراء، والفكر العسكري الحديث، والإستراتيجية النووية، وسياسة الأمن القومي الأميركية والروسية والإسرائيلية.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية، حيث نُشر أولاً في “فورين أفيرز”، وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى