هبوطٌ إضطِراريٌّ في موسكو

بقلم سجعان قزي*

إذا كانت “رؤيةُ المملكةِ 2030” تقوم على تحريرِ المملكة العربية السعوديّـة من الإعتماد على النَفطِ مصدراً وحيداً لإقتصادِها، فإنها تقوم أيضاً على تحريرِ المملكةِ من الإعتمادِ على أميركا مصدراً وحيداً لإستقرارِها. لكنَّ النَفطَ سيَبقى المصدرَ الأساسيَّ ولن تُغْنيها عنه الضرائبُ والرسومُ، وستَبقى أميركا الحليفَ الأساسيَّ ولن تُغْنيها عنها روسيا. وبالتالي إنَّ مشروعَ الشَراكةِ بين المملكةِ وروسيا، كما أَرسى قواعدَه الأميرُ محمد بن سلمان لدى زيارتِه موسكو (16 حزيران (يونيو) الماضي)، وبَـلْورَه الملكُ سلمان في زيارتِه إليها (05 تشرين الأول (أكتوبر))، هو بوليصةُ تأمينٍ إضافـيّـةٌ تُغطّي الفارقَ الذي لا يَدفعُه “الضمانُ الأميركي”.
لقد أدركَ وليُّ العهد، الأميرُ محمد بن سلمان، ضرورةَ التكـيّـفِ مع الواقعِ الجديدِ وتثبيتِ عَلاقاتٍ خاصّةٍ مع روسيا، أكانت صديقاً أم خصماً، نظراً إلى دورِها المؤثِّر في كلِّ الصراعاتِ التي تشكو منها المملكة. فإذا كان لا حربَ من دون أميركا، فلا سلامَ من دون روسيا، بَل إنَّ الرياض التي كانت تَعتبر روسيا جُزءاً من المشاكل، تَعتبرها اليومَ جُزءاً من الحلول.
إنْ هي المرّةُ الأولى يزور فيها موسكو ملكٌ سعوديٌّ، فالرئيس بوتين كان أيضاً أوّلَ رئيسٍ روسيٍّ يزور المملكة (11 شباط (فبراير) 2007) ويُوقِّع عقوداً مدنـيّـةً وعسكريّـة. لكنَّ الملكَ سلمان، المعروفَ بتأنّيه، ما كان لـيَقوم بهذه الزيارةِ التاريخيّة لو لم تَكن الظروفُ تاريخـيّـةً كذلك في المملكةِ والشرقِ الأوسط:
ففي المملكة يَتحضّر وليُّ العهد، محمد بن سلمان، لتوليّه العرشَ فتنتقلُ السلطةُ لأوّلِ مرّةٍ إلى الجيلِ الثالث من أبناءِ عبد العزيز. ولا بُـدَّ من إنشاءِ مِظلّةِ دعمٍ دولـيّـة، تَشمُل روسيا، تواكبُ دورَ المملكةِ الجديد من جِهة، وعمليةَ الإنتقالِ الميسور للسلطةِ من جهة أخرى.
وفي الشرقِ الأوسط بَلغت الخِياراتُ العسكريّـةُ طاقتَها القُصوى في اليمن والعراق وسوريا، وبدأت مُسَـوَّداتُ التسوياتِ السلميّـةِ تلوح وسْط دورٍ روسيٍّ مزدهِرٍ سياسيّاً وراسخٍ عسكريّاً. ويتزامن ذلك مع إنتعاشِ النظامِ السوريّ وتَرنُّحِ المعارضةِ السُنـيّـةِ وإندحارٍ مرحليٍّ للإرهابِ التكفيريّ وإستيقاظِ الإستقلاليّـةِ الكُرديّـة وتَمدُّدِ النفوذ الإيراني وإختلاطِ التحالفاتِ الإقليميّةِ وغموضِ الإستعدادات الأميركيّة لتغييرِ الواقع.
الجديدُ في مقاربةِ السعوديّـةِ العلاقةَ مع روسيا هو أن تتفاوضَ الدولتان حول قضايا الشرقِ الأوسط والعالم إستناداً إلى شراكةٍ سياسيّةٍ/أمنيّة، فلا يبقى تبادلُ المطالبِ يتمُّ على القِطعة، بل يَنتقل من منطق الخصمِ الذي يقايض خصمَه إلى منطقِ الشريك الذي يفاوضُ شريكَه.
نتيجةَ الصدَمات المتلاحقةِ، ما عادَ بمقدورِ السعوديّـةِ الإتّكالُ على الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة فقط، خصوصاً وأن إزدواجيّةَ سياستِها باتت تُصيب أمنَ دولِ الخليج، والمملكةِ تحديداً. بدأت السعوديّـةُ عمليّةَ “الهبوطِ الإضطراريّ” منذ نحو سنةٍ حين تَجرَّعت إنتخابَ العماد ميشال عون، حليفِ “حزب الله”، رئيساً للجمهوريّةِ اللبنانيّـة، وحين شجَّعت المعارضةَ السوريّـةَ على المشاركةِ في مؤتمرِ أستانا برعايةِ روسيا، وحين تساهلَت مع فكرةِ بقاءِ بشّار الأسد، وحين فَتحت قنواتَ الإتصالِ المباشِر فالتطبيعِ مع النظام العراقيّ القريبِ من إيران، وحين دَعت إلى حلٍّ سياسيٍّ في اليمن بعد تعثُّرِ “عاصفةِ الحزم”، واليومَ، بالزيارةِ الملكيّةِ إلى موسكو، فلا تُضطرُّ إلى هبوطٍ إضطراريٍّ في طهران.
ذَهب الملكُ إلى موسكو في عزِّ التحالفِ الروسيِّ/الإيرانيّ، علّه يَنجحُ في إبعادِ روسيا عن إيران، فوجدَ أنَّ روسيا تفضّل تقريبَ السعوديّـةِ من إيران على أساسِ مشروعٍ تفاوضيٍّ يَشمُل مختلِفَ مِلفّاتِ الشرقِ الأوسط. لكنَّ السعوديّـةَ تعتبرُ أن تجاربَها السابقةَ مع طهران لا تشجّع على بدءِ هذه المفاوضاتِ قبلَ بروزِ تغييرٍ عَملانيٍّ في سلوكِ إيران على الأقل في سوريا واليمن.
هناك مصلحةٌ روسيّةٌ بالتفاهمِ مع السعوديّـةِ على مسارِ التسويات في المنطقة. فموسكو، وإن كانت حريصةً على تحالفِها مع إيران، يَهمُّها العالمَ السُنّي أيضاً. وأَحدُ أهدافِ الإستقبالِ العظيمِ لخادمِ الحرمين، الملك سلمان، هو أصلاً رغبةُ القيادةِ الروسيّـةِ في تصحيحِ صورتِها لدى المسلمين وتحصيلِ شَهادةِ حُسنِ سلوكٍ من المرجِعيّةِ السعوديّـة. فصعبٌ أن تُبقيَ روسيا وجودَها آمناً في الشرق الأوسط ما لم تُقِمْ علاقاتٍ جيّدةً بالبيئةِ الإسلاميّةِ السنيّة، توازي علاقـتَها بإيران الشيعيّةِ الفارسيّة.
وإذا كانت واشنطن تَـقبّلَت الإنفتاحَ السعوديَّ على موسكو، فإنها تراقِـبُه ليبقى ضِمنَ حدودٍ معيّـنة. فما يُقلِق واشنطن أمران: الأول، أنَّ بعضَ الإستثماراتِ السعوديّـةِ الجديدةِ في روسيا هو في قطاعاتٍ تَشمُلها العقوباتُ الأميركيّةُ والأوروبيّةُ على روسيا. والآخر أنَّ مذكّرةَ التفاهمِ تَنصُّ على تصنيعٍ جُزئيٍّ للمنظوماتِ الصاروخيّةِ الروسيّة: “كورنيت ـــ إيه أم” و “إس ـــ 400” و “توس ـــ 1 إي” و “إي جي إس ــــ 30” على الأراضي السعوديّـة ما يعني مجيءَ خبراءَ عسكريّين روسٍ إلى المملكة.
هكذا رأينا واشنطن توجِّه رسائلَ عدّةً إلى الملك سلمان وهو في روسيا، فأعلنت: 1) تخفيضَ مستوى مشاركةِ القوّاتِ الأميركيّة بالمناورات المشترَكة مع دولٍ مجلسِ التعاونِ الخليجيّ إكراماً لقطر. 2) عزمَ الرئيسِ دونالد ترامب على إصدارِ موقفٍ هامٍّ جدًّا في 15 الجاري من الإتفاقِ النووي مع إيران. 3) موافقتَها على بيعِ الرياض دِرعاً صاروخياً (ثاد) بمبلغ 15 مليار دولار. 4) تعميمَ تقريرِ الأممِ المتَّحدةِ الذي يَـتّهم السعوديّـةَ بإرتكابِ جرائمَ في حقِّ الأطفال في اليمن.
من هنا أن مصيرَ الإتفاقاتِ العسكريّـة والنَفطيّة التي وقعّها الملكُ سلمان في موسكو، وهي “مذكّراتُ تفاهمٍ” لا عقوداً، يبقى رهنَ قدرةِ الرياض على إقناعِ واشنطن بأنَّها لا تؤثّر في العَلاقات الإستراتيجيّةِ القائمة بين المملكةِ وأميركا، إذ سبق لواشنطن أن عطّلت عقوداً عسكريّـةً روسيّةً وصينيّةً مع المملكة.
هكذا تكون السعوديّـةُ أدّت دورَها بصدقٍ تجاهَ واشنطن وموسكو: للرئيس ترامب قَدَّمت إلتزاماتٍ ماليّةً هائلةً، وللرئيس بوتين فتحت أبواب الخليج العربي واسعةً. وهي الآنَ تَنتظر الحصاد: تسويةٌ من روسيا أو حسمٌ من أميركا.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى