قراءةٌ في المجلس الإقتصادي والإجتماعي في لبنان

بعد تعطيل دام 15 عاماً، تُجرى حالياً محاولة لإعادة تفعيل المجلس الإقتصادي والإجتماعي في لبنان، الذي تأسّس في العام 2000، وعمل لمدّة سنتين من دون تمكينه من أي إنجازات تُذكر. نيّة التفعيل المُستجدة لا تبشّر بما قد يؤدي إلى أداء المجلس لدوره، فهي وإن أتت تحت ذريعة الورشة الاقتصاديّة التي أعلن عنها في لقاء بعبدا، الذي دعا إليه رئيس الجمهوريّة في حزيران (يونيو) الفائت، إلّا أن المحاصصة السياسيّة والطائفيّة والمصالح القطاعيّة التي تتحكّم بتشكيل هيئته العامّة، تهدّد بإفقاده دوره تجاه القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وتفريغه من الخبرات والكفاءات، وتشويه وظيفته ليصبح أكثر ميلاً لخدمة مصالح الفئات المسيطرة. العميد السابق لكلية العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية (البقاع)، الدكتور هيكل الراعي، يحاول إلقاء الضوء على المجلس الإقتصادي والإجتماعي وأهميته بالنسبة إلى الدولة اللبنانية ومواطنيها.

المجلس الإقتصادي والإجتماعي: هل يعيده العهد الجديد إلى الحياة؟

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

نتيجة للتطورات والتحوّلات السياسية والإقتصادية التي شهدها العالم خلال القرن العشرين، سعت الأنظمة الديموقراطية إلى إستنباط أشكالٍ من المُشارَكة والتعاون لإدارة الشأن العام. والهدف من ذلك كان تأمين الإستقرار الإجتماعي والتفاعل المُثمر بين أطراف الإنتاج. ومن بين أشكال التعاون والمشاركة هذه كانت المجالس الإقتصادية والإجتماعية .
والمجلس الإقتصادي و الإجتماعي ليس جديداً في مفهومه ونشأته. فتاريخه يعود إلى بدايات القرن الماضي. وقد قام على قاعدة تمثيل القطاعات المهنية والنقابية، بحيث يأتي إنتخاب أعضائه (ولو في شكل تسمية مُلزِمة يجري التعيين على أساسها) من جانب هذه القطاعات ليكون صلة الوصل بين أطراف الإنتاج من جهة، وبينها وبين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة من جهة أخرى.
وقد عبّرت المادة الثانية من قانون إنشاء المجلس الإقتصادي والإجتماعي في لبنان، عن هذه الأهداف عندما نصّت على أن المجلس يعمل على :
أ- تأمين مشاركة القطاعات الإقتصادية والإجتماعية والمهنية بالرأي والمشورة في صياغة السياسة الإقتصادية والإجتماعية للدولة .
ب- تنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات الإقتصادية والإجتماعية والمهنية.
ومن المُتعارف عليه بشكل عام، أن صلاحيات المجلس الإقتصادي والإجتماعي تنحصر في تنفيذ الدراسات وتأمين المعلومات والإحصاءات، والإجابة عن الإستشارات والإستفسارات التي تطلبها السلطات، وإبداء الرأي تجاه الخطط والسياسات الإجتماعية والإقتصادية. ولأنّ هذا المجلس يوفِّق، بحكم وضعه التمثيلي القطاعي، بين مصلحة القطاعات المُنتِجة أو الفاعلة ومصلحة الدولة (الخزينة العامة مثلاً ) فإنه يشكّل برأي البعض ضرورة مزدوجة: فهو يوفّر تمثيلاً قطاعياً متوازناً إلى جانب التمثيل السياسي الشعبي (المجلس النيابي)، ويَحُول دون المواجهات اليومية والمباشرة بين أطراف الإنتاج أو بين بعضها وبين السلطة السياسية، فضلاً عن أنه يجمع في إطار واحد ومنسّق ومتعاون، مصالح أرباب العمل والعُمّال فيحفظ بذلك توازناً إجتماعياً مُتكاملاً .
تاريخياً تعود بدايات فكرة المجالس الإقتصادية والإجتماعية إلى القرن السادس عشر عندما أنشأ الملك الفرنسي هنري الرابع مجلساً للتجارة. ثم أُنشِئت في فرنسا في العام 1848 “لجنة إستشارية للعمل” عُرِفت بإسم “لجنة لوكسمبورغ” كانت مهمتها تحضير السياسات الإجتماعية للحكومة. وقد تألفت هذه اللجنة من 500 عضو بالتساوي بين أرباب العمل والعمال. ومع بداية القرن العشرين صدرت للمفكر الفرنسي “بول بونكور” دراسة حول الفيديرالية الإقتصادية تضمّنت ثلاثة أفكار رئيسية:
1- إن الكفاية التقنية لسلطات الدولة لم تعد متوافرة بصورة كافية.
2- ثمّة علاقة وثيقة بين الأوضاع الإجتماعية والنشاط الإقتصادي.
3- ينبغي تجنّب قيام أية مجموعة أو طبقة إجتماعية بإستغلال السلطات العامة لمصلحتها وعلى حساب المجموعات والطبقات الأخرى.
وإنطلاقاً من ذلك دعا “بونكور” إلى ضرورة الإعتراف لأصحاب المهن وللنقابات العمالية بدور إستشاري وإلى إشراكهم في تحضير القوانين والسياسات الإقتصادية والإجتماعية .
وغداة الحرب العالمية الأولى، وما رافقها من أزمات ومشاكل إقتصادية وإجتماعية، أخذت النقابات العمالية تُطالب بإنشاء هيئات ومجالس إقتصادية وإجتماعية في ظل تَبَلّوُر تيارٍ يُنادي بتأمين العدالة الإجتماعية. وقد أدّى ذلك إلى نشوء مجالس إقتصادية وإجتماعية في عدد من الدول الأوروبية من بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وإلمانيا ورومانيا واليونان وكذلك في دول أخرى ….
في لبنان نصّت وثيقة الوفاق الوطني التي صادق عليها مجلس النواب في 5/11/1989 على أن “ينشأ مجلس إقتصادي وإجتماعي تأميناً لمشاركة ممثلي القطاعات المختلفة في صوغ السياسة الإقتصادية والإجتماعية للدولة وذلك من طريق المشورة والإقتراحات”.
وفي 19/1/1995 نُشر في الجريدة الرسمية القانون رقم 389/95 الذي نصّ على إنشاء المجلس الإقتصادي والإجتماعي. وقد أعطت المادة21 من هذا القانون مهلة ستة أشهر لتحديد دقائق تطبيق أحكامه ولاسيما لجهة شروط تعيين المدير العام والموظفين … كما أوجبت المادة 22 تأليف الهيئة العامة الأولى للمجلس في مهلة خمسة أشهر من تاريخ نشر القانون. ورغم أن المادة الرابعة من هذا القانون قد وزّعت أعضاء المجلس على أصحاب العمل والمهن الحرة والنقابات المختلفة، فإن مجلس الوزراء تأخّر إلى شهر آذار (مارس) 1998 للمبادرة في دراسة وتحديد الهيئات الأكثر تمثيلاً في هذا المجلس، حيث قدّم وزير العمل (آنذاك) أسعد حردان مشروعاً تضمّن تحديد هذه الهيئات على الشكل التالي : أصحاب العمل (15 عضواً)، المهن الحرّة (11 عضواً)، النقابات (22 عضواً)، الجمعيات التعاونية (عضوان)، المؤسسات الإجتماعية غير الحكومية (5 أعضاء)، أصحاب الفكر والكفاية والإختصاص في حقول عدة (10 أعضاء) فيكون المجموع 65 عضواً .
وقد أثار المشروع عند طرحه نقاشاً وإعتراضات من قبل كثيرين، ولا تزال السلطة تبحث في الصيغة الأفضل لتمثيل كل القطاعات. ويقول البروفيسور ” جان ريفيرو ” في هذا المجال: “إن من أصعب المشاكل التي يواجهها إنشاء المجلس الإقتصادي والإجتماعي على الدوام، هي مسألة تشكيله”. فهذا المجلس الذي لا ينبثق من عملية ديموقراطية مُتمثّلة في الإنتخاب العام، كما هو حال السلطة الإشتراعية، لا يُمكن أن يكتسب شرعية إلا من خلال نوعية وشمولية تمثيله المصالح والتيارات والمجموعات الإقتصادية والإجتماعية. وبالتالي يجب أن لا تُثير مسألة تشكيله الكثير من الإعتراضات. غير أن المشكلة القائمة في لبنان تكمن في عدم وضوح الوسط المهني والإقتصادي والإجتماعي، وفي عدم تحديد مُكوِّناته كي يسهل تحديد الهيئات الأكثر تمثيلاً. فالتمثيل النقابي العمالي في هذا المجلس، على سبيل المثال، يطرح إشكالات كثيرة .ذلك لأن بعض النقابات، وحتى بعض الإتحادات النقابية لا تضم في صفوفها إلّا عدداً ضئيلاً من المنتسبين، مقابل نقابات وإتحادات تتمتع بمصداقية وقوة في عدد المنتسبين وفي المشاركة في الحياة الإقتصادية والإجتماعية. فهل يجوز تمثيل كل النقابات والإتحادات على قدم المساواة ؟ إنطلاقاً من ذلك يأمل الحريصون على نجاح تجربة هذا المجلس أن تقوم الحكومة بدراسة معمّقة لأوضاع القطاعات الإنتاجية وقوى الإنتاج تمهيدا لإختيار الهيئات الأكثر تمثيلاً خصوصاً وأن المادة الخامسة من قانون إنشاء المجلس تركت لمجلس الوزراء أمر تحديد هذه الهيئات.
ما هي آلية عمل المجلس الإقتصادي والإجتماعي في لبنان؟
يُشكِّل المجلس الإقتصادي والإجتماعي اللبناني هيئة إستشارية حيث أُعطي صلاحيات ضيّقة ومحدودة لا تشمل كل الخطط والسياسات الإقتصادية والمالية والإجتماعية. فدوره يقتصر على الإجابة عن الأسئلة التي تُوَجَّه إليه من قبل رئيس مجلس الوزراء. وقد إختلف المُشرِّعون حول هذا الدور الإستشاري للمجلس بحيث إعتبر البعض أنّ في هذه الآلية تهميشاً لدوره مطالباً بضرورة أن تكون قراراته ملزمة، وأن يتمتّع بصلاحيات واسعة تسمح له بالمشاركة في صنع القرار الوطني؛ بينما إعتبر البعض الآخر أنّ الدينامية الناجحة للمهمة الاستشارية هي التي تؤدي إلى الإعتراف الدستوري بدور المجلس، وإلى حمايته من مسؤولية القرارات غير الشعبية أو التسويات المخالفة لمصالح هيئات أعضائه. كما إن الصفة الإستشارية تُشكل ضمانة كي يقوم هذا المجلس بدور مُجدٍ ومقبول من كل الأطراف .
غير أنّ الصفة الإستشارية للمجلس الإقتصادي والإجتماعي في لبنان لا تمنعه من المبادرة التلقائية لدراسة المواضيع الإقتصادية والإجتماعية. فقد نصّت الفقرة 3 من المادة 3 من قانون إنشائه على حقه بالمبادرة التلقائية. وهذا الحق يخوّله وضع يده تلقائياً بموجب قرار صادر عنه، على الملفات ذات الطابع الإقتصادي والإجتماعي التي هي من إختصاصه. وتشير الإحصاءات المتوافرة إلى أن غالبية أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي (دراسات، تقارير، آراء) جاءت نتيجة المبادرة التلقائية (70 إلى 80%)، في حين لم تتعدَّ الأعمال التي أنجزها المجلس بناءً لطلب الحكومة سوى 20 إلى 30% من مجموع نشاطاته .
وتتيح المبادرة التلقائية للمجلس التحرّر من التبعية المفرطة تجاه الحكومة، وتمنحه إستقلالية في معالجة ما يرتئيه من مواضيع من دون العودة إليها. غير أن المُشرِّع قيَّد هذه المبادرة التلقائية عندما أخضعها لموافقة ثلثي أعضاء المجلس من جهة وعندما قضى بإستثناء مشاريع القوانين المالية والنقدية بما فيها مشاريع الموازنات العامة وملحقاتها من حقل المبادرة التلقائية. والإجراء الأخير لا وجود له في القانون الفرنسي حيث يُبدي المجلس الإقتصادي والإجتماعي رأيه بإنتظام في المواضيع النقدية والمالية.
لكن هل ينبغي أن يكون المجلس مستشاراً للحكومة وحدها، أم للحكومة ومجلس النواب معاً؟
من الناحية المبدئية، يفضّل البعض أن يكون المجلس الإقتصادي والإجتماعي، بكل ما يضم من قدرات وطاقات بشرية، بتصرّف السلطتين التشريعية والتنفيذية، أما من الناحية العملية فقد ربطت فرنسا مثلاً بين المجلس الإقتصادي والإجتماعي والحكومة منذ قيام الجمهورية الخامسة في العام 1958. وذلك بعدما إعتمدت في المجلس الإقتصادي والإجتماعي للعامين 1936 و1946 صيغة ربطه بالسلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد أظهرت التجربة عدم ميل الجمعية الوطنية الفرنسية للتعاون مع المجلس الإقتصادي والإجتماعي لأنها كانت ترغب في ممارسة سلطتها من دون مشاركة أحد. وقد إنعكست هذه التجربة على الصيغة التي أقرَّ بها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، حيث فضَّل النواب اللبنانيون البقاء على مسافة من المجلس الإقتصادي والإجتماعي بهدف المحافظة على إستقلاليتهم التامة لدى معالجة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية.
ما هي إيجابيات إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي؟
بفضل نوعية نشاطه وأسلوب عمله المُميزَين يُشكّل المجلس الإقتصادي والإجتماعي إحدى الركائز الأساسية لمشروع مجتمعي واسع يستجيب لمقتضيات التنمية الشاملة، ذلك لأنه لم يعد من الجائز إرتجال القرار الإقتصادي كقرار التصنيع وتوزيع المداخيل والتوظيف والإستثمار، ولا القرارات الإجتماعية المُرتبطة بمصالح شرائح واسعة من المواطنين .
من هذا المنطلق يُمكن إعتبار المجلس الإقتصادي والإجتماعي بمثابة مركز مستقل للدراسات والأبحاث والمعلومات في خدمة الوطن، كما يُمكن أن تصبح أعماله نقطة إنطلاق لدراسات إضافية تقوم بها إدارات الدولة ومجلس النواب والأحزاب السياسية والهيئات الإقتصادية والإجتماعية ومؤسسات التعليم والأبحاث .
إن دراسات وتقارير المجلس الإقتصادي والإجتماعي تسمح للسلطة التنفيذية بالإطلاع على ردود فعل الجسم الإجتماعي وعلى مواقفه تجاه مواضيع محددة، مما يُبعِدها عن إتخاذ قرارات غير ملائمة وفي غير محلها .كما أن المجلس الإقتصادي والإجتماعي يشكّل بتركيبته وبنوعية تمثيله، عالماً مُصغّراً عن المجتمع اللبناني، ويشكل إطاراً لفرز أفكار جديدة وإختبارها، ولبلورة توجهات يُمكن أن تساعد السلطة في خياراتها وتوجهاتها .
ويُلبّي المجلس الإقتصادي والإجتماعي حاجات الطبقة المتوسطة والفقيرة ومطالبها وتطلعاتها بحكم تمثيله القطاعي، ويسد تالياً فراغاً في المجلس النيابي الذي يُخشى أن لا يستضيف في المستقبل إلّا أصحاب الرساميل والإرث السياسي. كما يُمكن أن يساهم في إلغاء الطائفية السياسية، إذا ما تمّ تشكيله على قاعدة الإنتخاب القطاعي من دون أي إعتبار مذهبي- طائفي- مناطقي.

• العميد السابق لكلية العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية (البقاع)، وأستاذ سابق للتنمية والسياسات الإجتماعية والإقتصادية في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى