الحقيقةُ تُحرِّر والتحقيقُ يُقيِّد

بقلم سجعان قزي*

لا يجوزُ تسخيفُ الانتصارِ فـنُــنْــكِــرُ على الجيشِ اللبناني إنجازَه، ولا يجوزُ تسخيفُ التحريرِ فنجعلُ كلَّ أيّـامِ السنةِ أعيادَ تحرير. ولا يجوزُ توظيفُ الإنتصارِ والتحريرِ في تحقيقٍ عبثيٍّ معلومِ النتائجِ ومجهولِ الإرتدادات. ولا يجوزُ إستغلالُ أهلِ العسكرِ المخطوفين، وأبناؤهم أصبحوا شهداءَ، بعدما إسْـتُغِلّـوا طَوالَ ثلاثِ سنواتٍ، وأبناؤهم كانوا مخطوفين. كلُّ إنتصارٍ يُحرِزُه فريقٌ ولا يَضعُه في جُعبةِ الدولةِ هو فانٍ. وكلُّ إنتصارٍ تُحقِّقه الدولةُ ولا تُسجِّله في خِدمةِ الوِحدةِ الوطنـيّـةِ هو عابر. وكل إنتصار يُـتمِّمُـه الإنسانُ ولا يوظِّـفه في مشروعِ المصالحةِ هو زائل.
إذا كان الأمينُ العام ل”حزبِ الله”، السيد حسن نصرالله، قَـوّضَ دورَ حزبِه في جرودِ عرسال بتسويةٍ مُريبةٍ مع الإرهابيّين، لا نَتمنّى لرئيسِ الجمهوريّـةِ، العماد ميشال عون، أنْ يُـنغِّصَ سُمعةَ الجيشِ اللبنانيِّ بالتحقيقِ مع قيادتِه السابقة، وهي قيادةٌ حَمَت لبنانَ نحو عشرِ سنين (2008 / 2017)، وإنتصَرت على الإرهابِ، وبخاصّةٍ في زمنِ الشغورِ الرئاسي.
هل أنَّ الملاحقةَ محصورةٌ بالمسؤولين المسيحيّين للنيل من هيبة آخِر المناصبِ المارونـيّـةِ العليا في الدولة؟ حملةٌ على حاكمِ مصرفِ لبنان رياض سلامة، تهويلٌ على قائدِ الجيشِ السابقِ العماد جان قهوجي، وتشويهُ سُمعةِ رئيسِ الجمهوريّـةٍ السابق العماد ميشال سليمان.
الكمالُ لله. أما النواقصُ فحالاتٌ يوميّـةٌ في بلدٍ كلبنان يعيش على الفيتو المتبادَل، وإلّا فالإقتتال. منذ إنتخابِه، كم مرةً شَعَر الرئيسُ عون بإنزعاجٍ من عدمِ القدرةِ على تحقيقِ الكمال؟ في تأليفِ الحكومةِ وتوزيعِ الحقائبِ، في التعييناتِ وقانونِ الإنتخابات، وفي معركةِ “فجرِ الجرودِ” بالذات، إلخ… وإذا قـرَّر المحاسبةَ، يؤلِّف كلَّ يومٍ لَجنة تحقيقٍ مع مسؤولٍ حول قضيّـةٍ ما.
ومَن يدري كيف يَتشعَّب التحقيقُ؟ ومَن يَدخُل على الخَطّ؟ ومن يُرجِعه إلى أزمنةٍ سابقةٍ حين كان التقصيرُ متألّـِقاً، والتواطؤُ مشرِقـاً، والخيانةُ مُـزهرةً، والتمرّدُ مزدَهراً، والجُبن مشِعّاً. كلُّ الناسِ تَعرِف كلَّ الناس، وكلُّ الناسِ تَملِك أسرارَ بعضِها البعض.
أَفهَم حِـرصَ رئيسِ الجمهورية على الحقيقةِ المُطلقة ـــ رُغمَ إنتفائِها عن عالمِنا النسبيّ ـــ فالحقيقةُ تُـحرِّر ومن دونِ أنْ تَطلبَ عيداً لها، لا أوّلاً ولا ثانـيًّـا ولا ثالثاً. وإذا صَحَّ أنه طَلبَ التحقيقَ بملابساتِ معاركِ عِرسال حسماً للجدل وبحثاً عن الحقيقةِ، كلِّ الحقيقة، من دونِ زيادةٍ ولا نُـقصان، ومن دون حِقدٍ ولا إنتقام، فنوايا الآخرين عكسُ ذلك.
في 08 آب (أغسطس) 2015، عشيّـةَ التمديدِ لقائدِ الجيشِ العماد جان قهوجي، وكان التيّارُ الوطنيُّ الحرُّ ضِدّه ـــ ولا يزال على ما يبدو ـــ أَذكُر يافِطةً رُفعَت خلفَ مَنصّةِ التصاريحِ في حديقةِ منزلِ الجنرال عون في الرابية، كُتِب عليها: “تَعرِفون الحقيقةَ والحقيقةُ تحرِّركم”.
إذا كانت الحقيقةُ تُحرِّر فالحِقدُ يَستعبِد. فما قاله على الإعلامِ وجَهاءٌ من التيّارِ الوطنيِّ الحر في الأيّـامِ الأربعةِ الماضيةِ يُخالِف البحثَ عن الحقيقةِ المحرِّرة. لقد أجْرَوا التحقيقَ وأدلوا بإفاداتٍ ووزّعوا الاتّـهاماتِ وأبرزوا الأدلّـةَ الإعتباطـيّـةَ وتفوَّهوا بكلماتٍ جارحةٍ وأصدروا الأحكامَ بشكلٍ يؤثّـر في التحقيقِ قبلَ أن يَبدأ ويُــعرِّضُه للطعنِ سلفاً، لا بل يُـلغي الحاجةَ إليه.
أَيظنُّ هؤلاء أنّهم في زمنِ محاكمِ التفتيش والمحاكمِ الـعُرفـيّـةِ والشعبيّـةِ والثوريّـة كما كانت حالُ إيران في السنةِ الأولى بعد ثورةِ الخُميني، والعراق بعدَ إسقاطِ صدّام حسين؟
هنا لبنان يا شباب، هنا “بيغ بِنْ” الكرامة والتوازن. إيّــاكم والحربَ الأهلـيّـة.
أكثرُ من سواه يُدرك الجنرال ميشال عون وَقْعَ “قذفِ الاتّهاماتِ الباطلة”، إذ كان هو أحدَ ضحاياها في ما مضى. أَلمْ تَظلُمْه المزاعمُ قائداً للجيشِ ورئيساً للحكومةِ الدستوريّـةِ وزعيماً في المنفى؟ وأكثرُ من سواه يَـعرِفُ أنّـه لو فَتحت دولةُ ذاكَ الزمانِ السيّـئِ تحقيقاً لكانت “بـرَّأت المُـتَّهم وجرَّمت البريء”. وقد حَكمت عليه غيابيـاً، وما عادَ إلى البلادِ في 07 أيار (مايو) 2005 إلّا بعد أن تراجعَت الدولةُ عن الأحكام الصادرة بحقّه. تَـغـيَّر الزمنُ لكنَّ الدولةَ لم تَتغيّر. فأركانُ ذاك الزمنِ هم أركانُ هذه الدولةِ.
التحقيقاتُ السياسيّةُ هي للعدالةِ ما هي الموسيقى العسكريِّـةُ للموسيقى. الحقيقةُ هي سلامٌ ومحبّةٌ قبلَ أنْ تكونَ قضاءً وأحكاماً. والحقيقةُ هي: “دَعُوا أخصامي يأتون إليَّ”، ولا يُـفترضُ أن يكونَ لرئيسِ الجُمهوريّـةِ أخصامٌ سوى أعداءِ الوطنِ والسيادةِ والاستقلالِ والشرعيّـة. ليست الحقيقةُ مدخلاً لتصفيةِ الحسابات، وأيُّ حسابات؟
عدا إقدامِ تنظيم “داعش” على قتلِ العسكريّين، لا توجدُ فضيحةٌ سياسيةٌ ليجريَ تحقيقٌ بشأنِها. توجد مسؤوليّـةٌ سياسيّـةٌ يعود تقديرُ أحقـيَّـتَها للمسؤولِ في زمنٍ معينٍ وفي مكانٍ محدَّدٍ وفي ظرفٍ قائم. وبالتالي، مهما كانت نتائجُ القرارِ السياسيِّ، فهو لا يَستوجِب تحقيقاً بل تَـقييماً، وإلّا يَخشى أيُّ مسؤولٍ من أنْ يَـتَّخذَ أيَّ قرارٍ خَشيةَ التعرّضِ بدورِه لاحقاً للمساءلةِ والتحقيق.
هناك من يحاول إستغلالَ علاقتِه الحميمةِ بالعهدِ من أجلِ تحقيقِ الأهدافِ الأربعة الآتية على حساب الدولة:
1- تشويهُ صورةِ الجيشِ اللبنانيِّ وإضعافُ معنويّاتِ قادتِـه وضبّاطِه وجنودِه لطمسِ إنجازاتِه وإنتصاراتِه، وعرقلةِ وصولِ المساعداتِ العسكريّـة الأميركـيّـة، لا سيما بعدَ أن إلتفَّ الشعبُ كلُّه حولَه. لم يَنسَ اللبنانيّون المُخضرَمون التبعاتِ السلبيّةَ لمحاكمةِ ضبّاط “الشُعبة الثانية” في بدايةِ سبعينات القرن الفائت، فإنكَفأ الجيشُ وإنفَــلَـتَت المنظّماتُ الفِلسطينيّةُ من دون رقيبٍ، فكانت حربُ السنتين (1975 / 1976). ولا يَـخفى على أحدٍ، بأنَّ ما يجري هو رسالةٌ ضِمنيّةٌ إلى القيادةِ الحالية أَنْ إحْــتَـــرِزي.
2- التشكيكُ بوطنيّةِ الطائفةِ السُنيّـةِ وتصويرُها جماعةً تُـفضِّلُ نموَّ تنظيمَي “جَبهةِ النُصرة” و”داعش” على حسمِ الأمن في عِرسال، البلدةِ السُنيّة، فيما الوقائعُ تَشهَد أنَّ السُنّـةَ إلتحقوا بمشروعِ الدولةِ اللبنانيّةِ ووضعوا علاقاتِهم العربيّةَ والدوليّةَ في خِدمة لبنان. وأعني بالسُنّةِ القوى ذاتَ التمثيلِ الشعبيِّ مثلَ تيّارِ المستقبلِ (نُسخةُ 14 أذار 2005) وتمام سلام من أيّـامِ صائب بك؛ ولا نُسخةَ لهما إلا واحدةً: “لبنانٌ واحدٌ لا لبنانان”.
3- إبقاءُ الدولةِ اللبنانيّةِ أسيرةَ خِلافاتِها الداخلـيّـةِ التافهةِ ورهينةَ الأحداثِ الصغيرة، فتبدو دولةً منقسِمةً على ذاتِها أُفقـيّاً وعموديّـاً وتفتقرُ إلى إحترامِ المجتمعين العربيِّ والدوليّ. والخطيرُ أنَّ هذه الأمورَ تأتي ـــ وليست مصادَفةً ـــ عشيّـةَ إنطلاقِ رئيسِ الجمهوريّـة في زيارات دوليّةٍ إلى نيويورك وفرنسا.
4- حَرْفُ الإنتباهِ عن الحاضرِ وعن التسوياتِ المشبوهةِ التي رافقَت عمليّةَ تحريرِ الحدودِ الشرقـيّـةِ، وتوجيه الرأي العام نحو تحقيقٍ هو لزومُ ما لا يَلزَم، في وقتٍ توجد أولويّــاتٌ أخرى.
فخامةَ الرئيس، أوقِف هذا المُخطَّط، فليس في القبورِ عطورٌ جميلةٌ نُـعطِّر بها الإنتصار، بل في مروجِ القلوبِ الكبيرة.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى