وأخيراً… صار للصين “رامبوها”

يبدو أن السينما الصينية باتت تحذو حذو هوليوود بتصدير ثقافة وقوة بلادها محلياً وعالمياً، ومع فيلم الفانتازيا القومي المتطرف “المحارب الذئب” (Wolf Warrior) الثاني الذي جعل الحشود سعيدة كما المسؤولين الحكوميين في بكين، يُمكن القول بأنه صار للصين “رامبو” خاص بها.

فيلم “المحارب الذئب 2”: السير على خطى هولييوود

بكين – عبد السلام فريد

أهم أفلام الصيف في الصين هو فيلم “الأكشن” “المحارب الذئب 2” (Wolf Warrior 2). وقد سجّل هذا الفيلم رقماً قياسياً في عدد المشاهدين المحليين كما تصدّر أرباح شباك التذاكر العالمية، حيث شاهدته حشود ضخمة التي إصطفت حتى في عروض ليلية متأخرة. في حين أن فيلم “المحارب الذئب” الأول قد تعثّر، فإن الفيلم الثاني إستطاع إجتذاب جمهور غفير وذلك إلى حد كبير جراء معارك العنف أو بما يُسمى ب”الأكشن”: قفزٌ سريع الخطى مليءٌ برش الرصاص ووقوع الإنفجارات من دون مبرر. وكما هو الحال مع جميع الأفلام التي ظهرت في الصين هذا الصيف، فإن العروض كانت تسبقها أحدث مقاطع دعائية للحكومة الصينية، التي تضم نجوماً يمدحون ويوضّحون كيف ينبغي أن يُعاش “الحلم الصيني”. ولكن “المحارب الذئب 2” يخدم رسالة وطنية خاصة به.
يُذكر ان وقائع الفيلم تحدث فى بلد إفريقي لم يُعلن عن إسمه، ويروي قصة جندي سابق من القوات الخاصة يُدعى “لينغ فنغ” (يلعب دوره الممثل “وو جينغ”) – كان سابقاً ينتمي إلى فرقة النخبة المسماة “المحاربون الذئاب” – الذي يتطوّع لإنقاذ عاملين طبيين وعمال مصانع صينيين في ذلك البلد الإفريقي مُحَاصَرين بسبب إشتباك بين متمردين والقوات الحكومية. ويجتذب الفيلم الجماهير بمعارك “بهلوانية”، وطائرات مسلحة من دون طيار، وفصائل كاملة مع بنادق تحترق بعيداً، ولكن بعد ساعتين مسليتين مشتعلتين بالأسلحة وإطلاق الرصاص والإنفجارات، يُقدّم الفيلم لمحة عن الكيفية التي تريد الحكومة الصينية تقديم مكانتها في العالم لشعبها. والواقع أن هذا الفيلم لا يهدف بالضرورة إلى إقناع الأجانب ولكنه يهدف إلى إقناع الجمهور المحلي بالسلطة المتنامية في البلاد والعدالة فيها.
على الرغم من أنه قد يبدو وكأنه فيلم صيفي بخس، فإن السلطات تبدو مُلتَزمة برؤيته، حيث أنتجت مسلسلاً من الثناء اللاهث في وسائل الإعلام الحكومية. وبعد أن إنتقدت ناقدة سنمائية الفيلم على الإنترنت وإعتبرته بأنه “دموي” و”يعاني من إضطرابات نفسية مزمنة مع سلوك عنيف”، إختفت عن الإنترنت، وقد تكون قد أُقيلت من وظيفتها.
ويأتي الفيلم على غرار خيالٍ تأمّلي، مُقدِّماً عالماً حيث تُعتبَر الصين أصلاً دولة من الوزن الدولي الثقيل و”أمة لا غنى عنها”. ويُدرك الجميع، من رئيس الوزراء الإفريقي، الذي لم يُذكَر إسمه، إلى المُتمرّدين الذين يقاتلونه، بأن “الصينيين” يشكّلون عاملاً حاسماً في حسابات كل طرف. في مرات عديدة، يُعلن المهاجمون: “لا يمكننا قتل الصينيين!” خوفاً من غضب “المملكة الوسطى”، حتى حين يُفرِغون رصاصات أسلحتهم بإطلاقها على أجساد إخوتهم الأفارقة من دون تردد.
في حين أن “المحارب الذئب” أدخل طابعاً دولياً في المشاهد الإفتتاحية من خلال التحدث إلى السكان المحليين في بضع كلمات باللغة الإنكليزية، فإن “الماندرين” الصينية هي اللغة المشتركة بين معظم شخصيات الفيلم. ويبدو أصحاب المحلات الصينيون ومديرو المصانع الصينيون والأطباء والممرضون الصينيون – الذين يقومون بإدارة وتشغيل المستشفيات المستثمرة صينياً – والمغتربون الصينيون بأنهم موجودون في في كل مكان. ويُصوَّر وجودهم على أنه مفيد للغاية، ويوفّر فرص العمل للأفارقة، ويقوم بتطوير البنية التحتية المحلية وتعزيز الإقتصاد.
وفي الوقت نفسه، فيما يجتاح المتمردون جميع أنحاء الريف، فإن غالبية القوى الدولية قد فرّت فعلياً من البلاد. لا يضع أيٌّ من الجيوش الغربية قدماً في هذا الصراع، على الرغم من أن المرتزقة الغربيين هم الذين يدعمون المتمرّدين. وقد وُصِفت الأمم المتحدة بأنها فكرة ذات معنى جيد وهدف ممتاز لكنها غير فعاّلة تماماً فى الميدان، حيث إنفجرت مروحية تابعة لها في الفضاء.
وفى خضم المعركة، كانت الصين الدولة الوحيدة التى تُرسل سفناً لإخلاء المواطنين وتُدافع عنهم بواسطة حراس السفارة الصينية الذين يتمتعون بسلاح جيد وفعال للغاية والذين يقهرون الجنود المتمردين. وعلى النقيض من ذلك، فيما كان “لينغ فنغ” يقود طبيبةً آسيويةً أميركيةً (وصديقتها) بعيداً من المجزرة، قالت له: “إتصلتُ بالسفارة الأميركية، لكنها لم تستجب!”. “كيف إتصلت بها؟” سألها. “لقد غردت لها بواسطة “تويتر””. هذا المشهد ينتقد هاجس أميركا بالتقنيات الرقمية (في نهاية المطاف غير المجدية) والعجز في مساعدة مواطنيها عندما يتطلب الأمر ذلك. ولحسن الحظ، فإن القوات المقاتلة الصينية لا تترك أحداً وراءها!!!
قد يشعر المشاهدون الصينيون بالسعادة في معرفة أن هذه الدرامية تعكس ظاهرة واقعية. إن عملية الإجلاء العسكري للرعايا الصينيين من ليبيا فى العام 2011 كانت اكبر عملية غير قتالية حتى الآن يقوم بها جيش التحرير الشعبي الصيني. وتكرّر ذلك في اليمن في العام 2015، مما يشير إلى رغبة الصين في المستقبل في العمل على نطاق أبعد والعمل بحسم نيابة عن مواطنيها في الخارج.
ويُبرز الفيلم حماقة التخلي عن جواز السفر الصيني وعن مظلة الحماية الذي يحمله هذا الجواز. يبرر صاحب متجر محلي عرقي صيني إستغلال الزوار الصينيين الآخرين من خلال القول والتوضيح بأنه قد تخلى بالفعل عن مواطنته الأصلية، وبالتالي لا يضطر إلى مراعاة مواطنيه. وبعد دقائق، يتراجع ويدّعي، “نحن جميعا صينيون!” عندما يغزو المتمردون متجره، وينقذه “لينغ فنغ”، الذي يرافقه مع موظفيه إلى السفارة الصينية.
ومع ذلك، خلافاً لميول رعاة البقر في إطلاق النار في أميركا، يحترم فيلم دولة الصين “العظمى” الأمم المتحدة. وتلتزم قواتها البحرية بالقانون الدولي، ولا تتصرف إلّا إذا حصلت على تفويض من مجلس الأمن الدولي. إنه تذكيرٌ علني بأن الصين تريد ببساطة أن تكون جارة ودية من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن مع أسلحة نووية.
يُمكن أن تكون مشاهد بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني “الرعدية” قد أُخذت مباشرة من فيديو للتجنيد: زيّ متموّج، وسفن سريعة، وأخرى قوية. ويمثل الأسطول إمتداداً لتوسيع قوة ونفوذ الصين، مما يستجيب بسرعة للأزمات العسكرية والمدنية على حد سواء في ما يتعلق بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد أرسلت البحرية الصينية في السنوات الأخيرة سفناً إلى خليج عدن والمحيط الهندي لمواجهة القرصنة، ويشير بعض التقارير إلى أنه قد تكون هذه البحرية تقوم بتطوير موانئ ذات مياه عميقة التي يمكن أن تدعم التزود بالوقود أو الخدمات اللوجستية.
وينتهي المسرح العائم إلى إطلاق صاروخ ضخم، وهو مطر من التكنولوجيا الفائقة الذي يقضي على معظم المرتزقة الأجانب، ولأن دور حاملات الطائرات الضخمة محجوز تقليدياً للجيش الأميركي فيُستبدَل ذلك برؤية بحرية صينية قوية. على الرغم من حقيقة أنه قد مضى أكثر من ثلاثة عقود منذ أن شاركت بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني فى حرب ساخنة، فقد زادت بشكل كبير وجودها الإقليمي وأجرت تدريبات ومناورات حية بالنار عندما كانت بكين غير راضية عن السياسة الدولية. (وإذا إنطلقت الصواريخ، كما هدف الفيلم إلى إظهاره ضمناً، فإن ذلك سيكون رهيباً تماماً).
وبالإضافة الى البحرية، فان العديد من الوحدات الحكومية الأخرى تُقدم أيضاً عرضاً مجانياً فى الفيلم: الشرطة من مكتب الأمن العام فى المشاهد الصينية، والقوات العادية لجيش التحرير الشعبي الصيني، والسفير مع موظفيه وديبلوماسييه وحراس السفارة الصينية والاطباء فى المستشفى المستثمر فيه صينياً – وكلهم تقريباً رُسمت لهم صور نبيلة. وفي لقطات من “الفلاش باك”، يتدخل “لينغ فنغ” في عملية الإخلاء القسري للقرويين الصينيين من قبل البلطجية المحليين، ويكسبه على الفور مصداقية الشارع ويعزز الصفات البطولية لجيش التحرير الشعبي، وإن كان ذلك على حساب السلطات المحلية.
بعد إنقاذ الجميع جراء بطولات “لينغ فنغ”، وتدخّل سلاح البحرية في جيش التحرير الشعبي الصيني في الوقت المناسب، فإن الفيلم يقع في مشاهد دعائية سخيفة مرة ثانية. وللمرور في خط معركة آخر، يُلقي لينغ فنغ والحراس الصينيون المسلحون بنادقهم، ويرفع بطلنا العلم الصيني بدلاً من ذلك. وفيما الراية الحمراء القرمزية مع نجومها الذهبية الخمس تتماوج مع مهب الهواء، أوقف كل من الحكومة والجنود المتمردين إطلاق النار وسمحوا لهم بالمرور، الأمر الذي يُرسل من ذلك رسالة بأن السلطة الوطنية – وليست الوكالة الفردية، وليست الروابط المحلية، ولا حتى المساهمات اليومية من مجتمعك العرقي في البلد المضيف – هي الأكثر أهمية.
هذا النوع من السحر أُعيد ذكره بوضوح في خاتمة الفيلم – شاشة مليئة بالنص الذي يُذكّر بشكل مفيد عشاق السينما بأن الصين “سوف تكون دائماً إلى جانبك” إذا واجهتَ خطراً في الخارج. إن تكرار هذه الرسالة حتى أمام حشود بطل الفيلم، يكشف في نهاية المطاف أن البطل الحقيقي ليس “المحارب الذئب” على الإطلاق ولكن الدولة الصينية. هذا ليس فيلماً لبطل خارق. بل هو ضربة خفيفة من دولة عظمى.
ولكن في حين أن تصوير الفيلم لسلطة الدولة يبدو صينياً بشكل واضح، فإن سياسته العنصرية هي نسخة مؤسفة من التحيّزات الغربية القديمة، مع لمعان حديث خافت فقط. وعلى الرغم من الإعلان المستمر من قبل السفير الصيني في بكين عن “الصداقة القوية” مع إفريقيا – نعم، على ما يبدو، إنها علاقة مع القارة بأكملها – فإن معظم الأفارقة السود في الفيلم هبطوا إلى منزلة عتاد للمدافع مجهولي الهوية. وغالباً ما أُشير في الفيلم إلى أوضاع إفريقيا جنوب الصحراء الخيالية بأنها “مريضة” و “مزقتها الحروب”. ويوضح المونتاج النمطية لكلا العلّتين: أيادي المحتاجين الممدودة، والجثث المتروكة للتعفن، والعنف المروع.
من جهته، يصور الفيلم بسخافة إفريقيا بإعتبارها أرضاً مليئة بالبنادق والكسب غير المشروع، والفقراء البائسين، والتماسيح والأسود والزرافات. يقول أحد المقاتلين الصينيين لبطل الفيلم: “عندما يصبحون في خط النار، يختفي قلقهم”، حيث أن السكان المحليين يرقصون ويهتفون للاحتفال بإنقاذهم الوشيك. في بعض الأحيان، يبدو الفيلم وكأنه ممارسة غريبة في ما يمكن أن يسمى عقلية “المنقذ الأصفر”- مائلة إلى عقدة هوليوود المتمثلة ب”المنقذ الأبيض”. وهو يسير على المسار نفسه الذي غذَّى التصوير السينمائي الغربي لإفريقيا ولكنه يركّز على الطابع الصيني بدلاً من الطابع الأبيض.
إن التعقيدات العنصرية ليست شيئاً يضطر العديد من الصينيين إلى التعامل معها، في مجتمع حيث الغالبية العرقية هي من ال”هان” التي تعتبر هيمنتها شيئاً مُسلّماً به. لا تزال الصين تهضم مفاهيم التفوّق العرقي التي تعود إلى القرن التاسع عشر، حيث سعى بعض الكتاب الآسيويين إلى وضع أنفسهم على قدم المساواة مع الأوروبيين في الوقت الذي كانوا يتصرفون بطريقة متفوّقة ومهيمنة بالنسبة إلى العرقين البني والأسود. وتنعكس هذه الاتجاهات العنصرية في المشاكل المستمرة لشوفينية ال”هان” اليوم.
لكن على الرغم من العنصرية العارضة التي تتناقض مع معاملة هوليوود الجيدة للأقليات، فإن هناك تساؤلاً أكثر دقة حول معنى أن “تكون صينياً” بدأ يظهر. في حين أن حاملي جوازات السفر الصينيين يُعطَون الأولوية للإجلاء البحري، فإن أحد الأطفال الذي يرعاه “لينغ فينغ” يعبر بوابة الصعود إلى الطائرة عندما يدّعي البطل: “هذا ابني!”. وفي وقت لاحق، عند إختيار العمال لركوب طائرة هليكوبتر تابعة للأمم المتحدة، فقد طُلِب من الموظفين الصينيين أن يصعدوا، فيما أُمِر الأفارقة بالبقاء. “الصينيون هنا، الأفارقة هناك”، يصرخ مدير المصنع بينما يقوم بتقسيم الحشد. وهذا يضر بالعديد من العمال، لا سيما أولئك العمال الذين يتمتعون بعلاقات مع السكان المحليين. ويصر أحد العمال الصينيين العنيدين على إجلاء زوجته الإفريقية متجاوزاً الخط، مصراً على أنه “نحن متزوجان الآن! هذا يجعلها صينية، أليس كذلك؟”
يصف الفيلم قصة التهنئة والتفاخر التي يأمل الحزب الشيوعي في أن يوصلها إلى الشعب الصيني حول قوة الدولة المتنامية وتوسعها في الخارج. في عالم “المحارب الذئب”، فقد تطورت الصين إلى قوة عظمى جديدة من طريق محاكاة الغرب، حيث بدأت تستوعب الدور الذي كانت تحتله سابقاً أميركا وبريطانيا العظمى وغيرهما من الدول الإمبريالية – ولكن (بالطبع) مع شعور بالفضيلة وضبط النفس اللذين كان الغرب يفتقد إليهما تاريخياً.
وفيما يبدو أن الصين تحاكي الطموحات الجيوسياسية الغربية الماضية، فإن الفيلم يقوم بيقليد هوليوود بمهارة. في حين أنه قد لا يكون مؤهلاً لكي يكون تحفة سينمائية، فإن “المحارب الذئب 2” يساوي سلسلة أفلام “سريع وغاضب” (Fast and Furious) عندما يتعلق الأمر بالعمليات البهلوانية الخطرة، والكاريزما البطولية، ومشاهد القتال الحركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى