أين أخطأ الغرب في سوريا؟

فيما يشدد الرئيس بشار الأسد قبضته على البلاد، بمساعدة روسيا، إيران و”حزب الله” وميليشيات شيعية أخرى، حان الوقت لأولئك الذين حاولوا الاطاحة به لتقييم مواقفهم ورؤية أين أخطأوا.

السفير الأميركي السابق روبرت فورد: عارض إسقاط الأسد.

بقلم نيكولاوس فان دام*

إذا كان السياسيون الغربيون يتساءلون لماذا حقّقوا القليل جداً من أهدافهم في الحرب الأهلية السورية، فينبغي عليهم أن يبدأوا دراسة وتفحّص قراراتهم. لقد هيمنت على نهج الغرب إزاء الإنتفاضة السورية منذ البداية جرعة زائدة من التمنيات والتفاؤل. وعلى ما يبدو، فقد ركّز السياسيون مواقفهم على ردود الفعل السياسية الداخلية اليومية، بدلاً من التركيز على الرؤية الطويلة الأجل والبراغماتية المُوَجِّهة التي كانت مطلوبة للعمل نحو المساعدة الحقيقية على حلّ الصراع.
وقد تبنّى معظم السياسيين الغربيين في وقت مبكر فكرة أن الصراع لا يُمكن حلّه إلّا إذا تمت إزاحة الرئيس بشار الأسد من السلطة. كثيرون إعتقدوا حقاً بأن النظام سوف يسقط في غضون فترة زمنية قصيرة نسبياً. سفراء مختلفون في دمشق توقعوا أن تكون نهاية الأسد بحلول صيف العام 2012. لقد تم التقليل من شأن قوة النظام تماماً، جزئياً بسبب الجهل وعدم معرفة النظام السوري، وكذلك بسبب تفاؤل في غير محله.
إن الأكاديميين، والصحافيين وصناع القرار الذين توقّعوا بأن هناك فرصة واقعية لبقاء نظام الأسد لفترة أطول، أو تساءلوا عن الشرعية الأخلاقية للمعارضة “السلمية” المزعومة ووضعوها في موضع الشك، كانت تُوجّه إليهم ُتهمة تأييد الأسد – أو حتى أنهم ضد الديموقراطية. وأحياناً تسود الحجج الإيديولوجية على الحجج الواقعية. حتى أن الأمم المتحدة ومبعوثيها الخاصين لسوريا كانوا من وقت إلى آخر مُتَّهمين بالتحيّز إلى الأسد بعد الإقدام على أدنى خطوة يمكن تفسيرها على أنها لا تعارض مصالحه.
كانت لدى السياسيين الغربيين عموماً أفكار واضحة حول ما لا يريدونه، ولكن لم تكن توجد لديهم أفكار واقعية أو واضحة لما يريدونه في مكان الأسد. أرادوا نوعاً من الديموقراطية في سوريا، ولكن إطاحة الأسد من طريق العنف لم يكن من المتوقع أن تؤدي إلى مثل هذه الديموقراطية السلمية المنشودة.
ولم يواكب السياسيون دائماً الحقائق على الأرض، وإستمروا في إستخدام شعارات “صحيحة سياسياً” على الرغم من أن حالة البلد لم تعد تبررها تماماً. وتابعوا وصفهم للمعارضة السورية بأنها سلمية وديموقراطية، حتى بعد قيام قواتٍ أكثر تطرفاً، بما فيها الإسلاميون والجهاديون، بإختطاف برنامجها، والحرب السورية كانت جارية فعلياً. وفي وقت لاحق، أصبح مفهوم المعارضة السلمية نوعاً من الخرافة أكثر من الواقع الذي كانت عليه في البداية. لكن خطاب السياسيين الغربيين لم يتغيّر.
كما أن دعم الغرب العسكري للمعارضة السورية لم يتطابق مع خطابه الذي أدّى إلى تضخم توقعات المعارضة بشكل خطير. ولم تتلقَّ المعارضة أبداً دعماً عسكرياً كافياً لتركيع النظام، حتى عندما كان ذلك ضرورياً من أجل تحقيق الحلّ السياسي الذي إدّعى الغرب أنه يريده. مع هذا الواقع، كان محكوم على الثورة السورية بالفشل – بطبيعة الحال طالما تلقّى النظام دعماً عسكرياً من حلفائه روسيا وإيران و”حزب الله”.
وتبيّن أن الهدف المُعلَن للدول الغربية لتسليح المعارضة كان مُقيَّداً إلى حد ما بالواقع. حين رُفع الحظر الذي فرضه الإتحاد الأوروبي على توريد الأسلحة إلى سوريا بناءً على إصرارٍ من المملكة المتحدة وفرنسا في العام 2013، لم يكن هناك – على عكس التوقعات – أي تغيير كبير في ما يتعلق بتسليم الأسلحة إلى المعارضة.
إتضح في ما بعد أنه لا توجد إرادة سياسية لتسليح أي فصيل من المعارضة إلى حدّ أن تكون لديه فرصة حقيقية لكسب المعارك ضد النظام، حتى عندما يكون الجانب العلماني في الغالب هو المعني. وقد أُثيرت تساؤلات حول أيّ من جماعات المعارضة العديدة ينبغي أن تكون مسلحة وبأي هدف، حيث أن الدول الغربية تريد بوضوح تجنب إحتمال نشوء ديكتاتورية إسلامية متطرفة.
لكن هل كان هناك أي ضمان بأن الأسلحة المُقدَّمة للآخرين لن تنتهي في أيدي الإسلاميين والجهاديين؟ وهل كانت الأسلحة تهدف حقاً للمساعدة على إسقاط نظام الأسد؟ أم كانت تُقدَّم الأسلحة أساساً بهدف مساعدة المعارضة على الدفاع عن نفسها؟ أو أساساً لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”جبهة النصرة”، وغيرهما من المنظمات الجهادية؟ هل كانت بادرة إنسانية؟ لم تكن هناك إستراتيجية واضحة للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي مرئية، بإستثناء أن هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” أصبحت هي الأولوية.
وفي هذه الأثناء، أصبحت الجماعات الإسلامية الأكثر تطرفاً أقوى من الجيش السوري الحر المعتدل نسبياً. وركّزت دولٌ، مثل السعودية وقطر، دعمها أيضاً على المنظمات الإسلامية المسلحة مثل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”.
ما كان يريد الغرب أن يراه بوضوح هو أن يأتي نظامٌ معتدل وديموقراطي وعلماني وتعددي، ولكن مثل هذه الإمكانية ليست إحتمالاً واقعياً، وخصوصاً في المستقبل المنظور. وفي ما يتعلق بالجماعات المسلحة العلمانية التابعة للجيش السوري الحر، فإنها أصبحت تدريجاً أكثر تطرفاً نتيجة للحرب الدموية الطويلة الأمد. لقد أصبح التيار الإسلامي في سوريا أقوى خلال الحرب السورية، وأصبحت العلمانية أقل شعبية.
غير أن السياسيين الغربيين، مع ذلك، تجاهلوا هذا التطور إلى حد كبير، وواصلوا دفعهم إلى ما إعتبروه المعارضة العلمانية في معظمها. ولكن طالما أنهم لم يزوّدوها بالوسائل اللازمة لكي تكون لها اليد العليا في المعركة، فإن دعمهم المعنوي لم تكن له أي قيمة حاسمة في ساحة المعركة. في حين أنهم قد يكونوا قد أرضوا “ضميرهم السياسي” من خلال التعبير عن دعمهم للمعارضة، فإنهم كانوا في الحقيقة يُسهمون عن غير قصد في إطالة أمد الحرب ومساعدة الأسد على التحرك نحو النصر، بخاصة بعدما بدأت روسيا التدخل عسكرياً لدعم النظام في أيلول (سبتمبر) 2015 .
كان القادة الغربيون في مناسبات مختلفة دعوا إلى إتخاذ تدابير ضد النظام السوري التي لم يكونوا قادرين على المعرفة مُسبقاً بأنها لن تُنفّذ. ولكن الوقوف وعدم فعل شيء أو عدم الرد مُطلقاً كان، سياسياً، ليس خياراً مقبولاً بالنسبة إلى حكومات ديموقراطية. ومع ذلك، يمكن القول، من الناحية المنطقية، أنه في بعض الحالات كان من الحكمة ألّا تفعل شيئاً بدلاً من أن تفعل الشيء الخطأ مع عواقب كارثية.
كان يتوقع من السياسيين أن “يفعلوا شيئاً”. تعبيرات مثل “ألا ينبغي أن نتدخل هناك؟” و”كيف يمكنك الجلوس فقط ومشاهدة كيف يتعرّض الناس في سوريا للقمع والذبح؟” أصبحت شائعة جداً، ولكن لم يتم فعل الكثير في الممارسة العملية للمساعدة بشكل كبير في تغيير وضع السكان السوريين على الأرض.
كان السؤال الرئيسي الذي دار طوال المناقشات حول الأزمة السورية هو: هل ينبغي أن تتحقق العدالة؟ كان الجواب: نعم، بالطبع، ولكن بأي ثمن؟ وكان من السهل القول، على سبيل المثال، أنه ينبغي محاكمة الأسد على جرائم ضد الإنسانية في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. ولكن هذا لم يساعد على إيجاد حلّ. إن الفكرة القائلة بأن الأسد سيكون قادراً على مغادرة سوريا وهو على قيد الحياة لمواجهة مثل هذه القضية في المحكمة كان غير واقعي إلى حد بعيد. حتى أن بعض الناس قد تخيّل أن الرئيس الأسد سيبدأ التصرف والتفكير بشكل مختلف عندما يكون أكثر وعياً بإمكانية محاكمته في المحكمة الجنائية الدولية. ويبدو أن كل ذلك كان من باب التمنيات.
إن الدعوة إلى تحقيق العدالة جيدة في حد ذاتها، وكذلك توثيق جميع جرائم الحرب التي إرتُكبت. وكان لا بدّ من القيام بذلك بطبيعة الحال، ولكن ليس خلال القيام بالجهود الرامية إلى العمل على نحو إستباقي نحو إيجاد حلّ ومنع المزيد من إراقة الدماء التي ستستمر بلا شك إذا لم يتم توفير وتيسير المفاوضات الجادة بين مختلف الفصائل المتصارعة في سوريا.
كانت الدعوة إلى العدالة بحاجة إلى جزء من جهود أوسع نطاقاً لإحلال السلام، بدلاً من التركيز فقط على من إرتكب الجرائم ضد الشعب السوري في الماضي القريب. ولا بد من إيجاد حل سياسي قبل أن يتسنّى تحقيق العدالة. لا يمكن أن يكون الأمر عكس ذلك.
في الواقع لقد خلق الغرب توقعات كاذبة وأعطى المعارضة الأمل في مزيد من الدعم الغربي الذي لم يُقدَّم في النهاية.
ومن خلال وسم حكم الرئيس الأسد بأنه غير شرعي، فإن الدول الغربية ربما تكون تصرفت أخلاقياً فقط، لكنها بذلك أوقفت قبل الأوان أي فرصة أمامها لكي تضطلع بدور بناء في إيجاد حلّ سياسي للأزمة. والسؤال هو: ما الذي ينبغي أن تكون له الأولوية – أن تكون صحيحاً أخلاقياً أو المساعدة على إيجاد حل؟
ويبدو أن العوامل السياسية المحلية تُعتبر أكثر أهمية. أفادت المعلومات بأن روبرت فورد، السفير الأميركي آنذاك لدى سوريا، عارض الدعوة إلى رحيل الأسد، بحجة أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تحقيق ذلك، ولكن لم يُؤخَذ برأيه. وبحسب كريستوفر فيليبس، فإن “التكلفة المحلية لعدم المطالبة برحيل الأسد كانت تُعتبَر مرتفعة جداً” في واشنطن.
بدا أن زيارة التضامن التي قام بها فورد ونظيره الفرنسي إريك شوفالييه إلى المعارضة في حماه في تموز (يوليو) 2011 كانت حساسة ومتعاطفة من وجهة نظر غربية، ولكنها أدت في الواقع إلى نهاية إمكانية قيام الولايات المتحدة وفرنسا أو دول أخرى باللعب أي دور كوسيط في النزاع. وقد أثارت زيارتهما آمالاً كاذبة بين المعارضة بأن الدعم الغربي الأساسي آتٍ – وفي النهاية لم يكن الأمر كذلك كما كان مُنتَظراً.
في بعض النواحي، بدا الوضع مشابهاً للوضع في جنوب العراق في العام 1991، عندما شجعت الولايات المتحدة وغيرها المجتمع الشيعي على الإنتفاضة ضد حكم الرئيس صدام حسين ولكن لم تفعل شيئاً لمساعدتهم عندما قُمِعت الإنتفاضة بطريقة دموية.
وكما قال ديفيد ليش، “إستُقبلت زيارة فورد بإشادة عامة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى في الغرب وإعتُبِرَت على أنها عملٌ شجاع إستطاع جذب الإنتباه إلى محنة المتظاهرين، وساعد ذلك على منع ما كان البعض يتنبأ به: مجزرة أخرى مثل تلك التي جرت في حماه في العام 1982”. ولكن من المحتمل أكثر أن تكون زيارته وشوفالييه حققت العكس.
ولَمّا بعد أكثر من خمس سنوات، إستعاد النظام السوري الجزء الشرقي من مدينة حلب في كانون الأول (ديسمبر) 2016 – الذي كان تحت سيطرة قوات المعارضة العسكرية لأكثر من أربع سنوات (وتحوّل إلى أنقاض نتيجة لذلك) – الجزء الأكبر من المجتمع الدولي، بما في ذلك دول الخليج العربي والدول العربية التي دعمت معظم قوات المعارضة العسكرية، لم يتمكن أن يفعل أكثر من أن يقف مكتوف الأيدي، يُصدر بيانات شديدة الإدانة مُعلناً غضبه الأخلاقي بشأن سفك الدماء والفظائع التي أفادت التقارير بأنها حدثت. وكان بالتالي عاجزاً عن التدخل سياسياً أو عسكرياً لأنه إستبعد بالفعل أي تدخل عسكري في سوريا قبل سنوات عدة ولم يعد له أي تأثير حقيقي على النظام السوري (الذي قطع العلاقات معه قبل سنوات) ولا على حليفتيه روسيا وإيران لتغيير سياساتهما المتعلقة بسوريا. وعلاوة على ذلك، يبدو أنه لم يزود الجماعات المعارضة بما يكفي من الدعم العسكري لكي يتمكن من كسب المعركة في حلب.
في العام 2012، كانت شخصيات بارزة في المجلس الوطني السوري ما زالت تتحدث عن تفضيلها للتدخل العسكري، كما لو كان ذلك إمكانية واقعية. وكان زعماء المنطقة يؤكدون للمعارضة على أن التدخل “آتٍ بالتأكيد”، لكنهم رفضوا قبول إمكانية أن تختار الولايات المتحدة فى النهاية عدم التدخل العسكري بعد عقود من عرض العضلات.
لقد إستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تبدأ المعارضة أن تُدرك بما فيه الكفاية أنها أصبحت ضحية للتوقعات الكاذبة التي خلقها ما يسمى بأنصارهم الأصدقاء في الغرب، الذين لا يريدون مواجهتها علناً، ومواجهة أنفسهم، لتقبل حقائق الوضع.

• هذه المقالة مأخوذة من كتاب نيكولاوس فان دام الجديد، “تدمير أمة: الحرب الأهلية في سوريا”.
• نيكولاوس فان دام متخصص في الشؤون السورية، عمل كمبعوث هولندي خاص لسوريا في 2015-2016. وقد شغل سابقا منصب سفير هولندا لدى إندونيسيا وألمانيا وتركيا ومصر والعراق.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى