متى يعترف المغرب بمسيحييه؟

على الرغم من أن المغرب لا يلاحق أو يُعاقب الأشخاص الذين يغيّرون دينهم، فإن المغاربة الذين تحوّلوا وإعتنقوا المسيحية ما زالوا يواجهون ضغوطاً إجتماعية وقانونية.

جماعة من مسيحيي المغرب تُصلي بالسر في أحد منازل أعضائها.

تحقيق شيماء بخساس وهيكل مهدي

في تقريرها عن الحريات الدينية حول العالم للعام 2016، إنتقدت وزارة الخارجية الأميركية السلطات المغربية لتضييقها الحرية الدينية على المسيحيين المغاربة.
هذا التقرير الذي إعتادت الوزارة إصداره كل عام، والأوّل منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يضم معطيات ومعلومات عن الأقليات الدينية والمذهبية في المغرب الذي لا يعترف بوجود أقلية مسيحية مغربية على أرضه. فوفقاً للرواية الرسمية المُعترَف بها، لا يوجد في المغرب سوى مسلمين مغاربة وبعض اليهود، لذا فإنّ أي مسيحي مغربي هو بالضرورة في نظر الدولة مُرتدّ، وتُطبّق عليه أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بذلك، والتي كانت حتى شهور قليلة ماضية، وفقاً لفتوى المجلس العلمي الأعلى، هي الإعدام.
ورغم أنّ تقرير الخارجية الأميركية قال إن الدستور المغربي يضمن حرية الفكر والتعبير وممارسة الإعتقاد بحرية، إلا أنّه إستدرك بأنّ السلطات المغربية تقوم بممارسات “تُسيء إلى المسيحيين المغاربة بصفة خاصة”، مُشيراً إلى عمليات الإعتقال التي يتعرّض لها هؤلاء المسيحيون، والإستجواب الذي يواجهونه بشأن معتقداتهم.
ومما رصده تقرير الخارجية الأميركية، وما سبق وأن رصدته تقارير صحافية وحقوقية عدة، هو ضغط السلطات المغربية على مسيحيين مغاربة للتخلي عن معتقدهم والعودة إلى الإسلام، فضلاً عن التضييقات التي يتعرّض لها المسيحيون المغاربة وصولاً إلى درجة الإعتقال لحمل الإنجيل أو إقتنائه.
وعلى مدار سنوات، تحديداً منذ 2007، تكرّر إعتقال وإحتجاز مسيحيين مغاربة بسبب معتقدهم، لكن أحدث ما رصده التقرير الأميركي الرسمي، هو إحتجاز مسيحيين في آذار (مارس) الماضي في مدينة كلميم جنوبي المغرب، إتهمتهما الشرطة بالردة إثر إستجوابهما حول المعتقد، بعدما أُعلِنت مسيحيّة أحدهما أمام ركاب حافلة كان يستقلها، وذلك من باب التشهير به!
ولكن إلى أي حد يصدق التقرير الأميركي؟ وبالتالي ما هو تاريخ المسيحية في المغرب؟ وكيف يعيش المغاربة المسيحيون حالياً؟
تاريخياً إنتشرت المسيحيَّة في المغرب أولاً إبتداءً من القرن الثاني الميلادي، وكان أوَّل إنتشارها في إقليمُ برقة، حيث إعتنق العديد من سكانه، خصوصاً من الأمازيغ، الديانة المسيحية وقد بُنيت الكنائس على مساحة المنطقة التي أنتجت العديد من الشخصيات التي كان لها تأثير كبير في العالم المسيحي، بمن فيهم مرسيلوس من طنجة. ولكن بدأ تقلص الجماعات المسيحية في البلاد مع وصول الفتوحات الإسلامية إلى شمال إفريقيا بقيادة عقبة بن نافع حوالي سنة 681. وصمدت الجماعات المسيحية الأمازيغية في المغرب حتى القرن الخامس عشر. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين أعيد إحياء الحضور المسيحي في المغرب، وذلك مع قدوم عدد كبير من المستوطنين الأوروبيين، وإنتعشت المسيحية في المغرب فبُنيت الكنائس والمدارس والمؤسسات المسيحية، وإعتنق عدد من السكان المحليين المسلمين المسيحية. وقبيل الإستقلال وصلت أعداد الكاثوليك إلى حوالي النصف مليون نسمة. الاّ أنه عقب إستقلال البلاد سنة 1956؛ إضطّر عدد كبير من المسيحيين ورجال الدين الى الهجرة. بين السنوات 1956-2005 بلغ عدد المسيحيين المقيمين في أسقفتي الرباط وطنجة حوالي 478 ألف نسمة؛ ويُذكر أن ثلثي المسيحيين في المغرب هم من الكاثوليك، في حين أنَّ الثلث الآخر معظمه من البروتستانت.

الوضع الحالي

بحسب كتاب حقائق وكالة الإستخبارات الأميركية عن العالم بنسخته الصادرة في العام 2009 شكّل المسيحيون حوالي 1.1% أي حوالي 350,000 نسمة؛ ويشمل هذا العدد كل من المغاربة ذوي الأصول الأوروبية والمقيمين الأجانب والمهاجرين خصوصاً من دول إفريقيا جنوب الصحراء والمتحولين إلى المسيحية. ويتكون المجتمع المسيحي المغربي من كنيستين رئيسيتين وهي الرومانية الكاثوليكية والبروتستانتية، ويقيم معظم المسيحيين في الدار البيضاء والمناطق الحضرية مثل الرباط وطنجة وأغادير ومراكش. والقسم الأكبر من مسيحيي المغرب هم من ذوي أصول أوروبية خصوصاً الفرنسيّة والإسبانيّة ممن سكنوا إبّان الإستعمار ويتوزعون بين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية، بالإضافة إلى سكان محليين من أصول مسلمة عربية وأمازيغية، وغالباً ما يمارسون شعائرهم الدينية بسريَّة وفي كنائس منزليَّة خاصة بهم ويعتنق معظمهم البروتستانتية. في الآونة الأخيرة إزدادت أعداد المهاجرين المسيحيين للمغرب؛ خصوصاً من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
حتى 2017 تم تسجيل حوالي ستين مكاناً للعبادة المسيحيَّة رسميّاً في المغرب، 40 منها تابع للكنيسة الكاثوليكية، وأكثر من 12 تابعة للكنائس البروتستانتيَّة المختلفة الى جانب حفنة من الكنائس الأرثوذكسية الشرقية. وتملك الكنائس المسيحيّة خصوصاً الكنيسة الرومانية الكاثوليكية العديد من المؤسسات الإجتماعية والتعليميّة. على سبيل المثال تضم مؤسسات التعليم الكاثوليكي في المغرب ست عشرة مؤسسة موزعة على الأراضي المغربية: أربع مؤسسات في القنيطرة، وخمسٌ في الدار البيضاء، وثلاثٌ في مدينة الرباط ، وواحدة في مكناس، وإثنتان في المحمدية، وواحدة في مراكش. فضلاً عن عدد من دور الأيتام .

وضع المغاربة المسيحيين

وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل والدور الإجتماعي والثقافي الكبير الذي يقوم به المسيحيون الغربيون في المملكة المغربية فإن المغاربة المسيحيين ممنوعون حتى من ممارسة حقوقهم وشعائرهم الدينية ويعيشون في عالم آخر يلفه الخوف وعدم الإستقرار…
بسبب التضييق عليهم، من الدولة أولاً والمجتمع ثانياً، يحافظ المسيحيون المغاربة على أسماء إسلامية، ومن هؤلاء مصطفى، الذي تحدّث إلينا، رافضاً الإفصاح عن كنيته خشية “إحراج” أسرته المسلمة المحافظة، وهو رئيس “تنسيقية المسيحيين المغاربة” المطالبة بحقوقهم في المغرب.
في شقة في منطقة الطبقة العاملة في مدينة أغادير الجنوبية، كان مصطفى يستمع إلى تراتيل دينية مسيحية مُنبعثة من مذياع تحت صليب من الفضة مُعلّق على الحائط. وكان هذا الموظف المدني البالغ من العمر 46 عاماً، وإبن خبير في الشريعة الإسلامية من مدينة تارودانت القريبة، عضواً ناشطاً في جماعة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة ولكن المتسامَح معها.
وعندما تسأله لماذا كان إعتناقه للمسيحية؟ يقول أنه تحوّل إليها في العام 1994 ل”ملء فراغٍ روحي”. مضيفاً: “لقد تعبتُ من التناقضات في الإسلام”. وأوضح بأنه زاد إهتمامه بالمسيحية بعدما ” راسل لفترة طويلة مركزاً دينياً في إسبانيا في أواخر ثمانينات القرن الفائت”. وقد تابع بالتالي تعاليمه الدينية للتأهل كقس بروتستانتي وحصل على شهادة بذلك من الولايات المتحدة بعدما أنهى دورته بالمراسلة.
وقد حافظ مصطفى على إيمانه سراً لأكثر من عقدين، لكنه نشر قبل عام ونصف شريط فيديو على الإنترنت تحدّث فيه علناً عن تحوّله وإعتناقه المسيحية. وكان رد الفعل على ذلك فورياً.
“أدار جمبع أفراد الاسرة والاصدقاء المقربين ظهورهم في وجهي، وطُردت من العمل، وتعرّض أطفالي للمضايقات والتخويف في المدرسة”، حسب قوله.

أعداد المسيحيين المغاربة

ليست هناك إحصاءات رسمية لأعداد المسيحيين المغاربة الآن بسبب عدم الإعتراف بهم رسمياً من قبل الدولة، وهو ما تسبب في تضارب الأعداد المذكورة والمقدرة من كل جهة، فوفقًا لعليّ (…)، وهو مسيحي مغربي، في حديثه لنا، فإنّ المسيحيين المغاربة لا يستطيعون الخروج إلى العلن والإفصاح عن دينهم، خوفاً من نظرة الآخرين إليهم، خصوصاً إن كانوا في الماضي مسلمين”.
ويقدر تقرير لوزارة الخارجية الأميركية لعام 2015، أنّ أعداد المسيحيين المغاربة ربما يصل إلى 50 ألفاً، وبحسب موقع “فايس نيوز” ، فربما يصل عددهم إلى 40 ألف مسيحي مغربي، وبحسب الموسوعة المسيحية العالمية الصادرة عن مطابع جامعة أوكسفورد لعام 2001، فإن أعداد المسيحيين المغاربة قد تصل إلى 150 ألفاً.

“الإضطهاد”

خلال عطلة عيد الفصح، إلتقى مصطفى ودزينة من زملائه المتحوّلين إلى المسيحية لتلاوة “صلوات بعد الظهر” في غرفة الإستقبال في منزل رشيد، الذي هو مثل مصطفى لا يرغب في إعطاء إسمه الكامل.
الأخ رشيد، الذي ينحدر من عائلة صوفية، الإتجاه الروحاني في الإسلام، إعتنق المسيحية في العام 2004، وأصبح في نهاية المطاف قساً بروتستانتياً.
وقال رشيد، وهو والد لطفلين، إنه بدأ إهتمامه بالمسيحية عندما كان مُراهقاً بعد الإستماع إلى برنامج بثته محطة إذاعية مقرها باريس. ومن ثم أخذ يبحث عن ماهية المسيحية في مقهى للإنترنت، حيث إتصل بموقع متخصص الذي أرسل له القيمون عليه نسخة من الكتاب المقدس (الإنجيل).
“لقد قرأت كل شيء، ودرستُ كلمات الله، وتابعت دورات دينية”، قال، “وفي سن ال24، تعمدت مسيحياً في شقة في الدار البيضاء”.
في نيسان (إبريل) الفائت، قدّم مصطفى ورشيد وغيرهما من المتحوّلين إلى المسيحية المغاربة طلباً إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يطالب ب”إنهاء الإضطهاد” ضدهم.
وفي الآونة الأخيرة طالب عدد من المغاربة المسيحيين بسبعة حقوق للمسيحيين من بينها: حق تغيير العقيدة، حق تسمية الأطفال تسمية مسيحية، حق زواج المغربيات المسيحيات بمسيحيين أجانب، حق الاجتماع والعبادة، حق الحصول على الكتاب المقدس (الإنجيل) باللغات المحلية، حق تدريس أبناء المغاربة المسيحيين في مدارس خاصة وإعفائهم من التربية الإسلامية.
وبشكل عام، فإنّ “الصعوبات” التي يواجهها المسيحيون المغاربة، وفقاً لمصطفى، هي عدم السماح بممارسة الشعائر الدينية بحريّة، إذ يُمنع عليهم “إقامة قُدّاس أو التحوّل إلى أساقفة”، وهو أمر “يُزعج المسيحيين المغاربة، فالقداس أو الكنيسة يُديرهما أجانب وليس مغاربة”، على حد قوله.
مع ذلك، كان مُثيراً للإهتمام أن ينفي مصطفى وُجود مضايقات ممنهجة على المسيحيين المغاربة من طرف السلطات، وإن كان أكّد على أنّ عاملين بالدولة، كموظفين أو شرطيين هم الذين يتعاملون مع المسيحي المغربي بـ”شكل سيئ”، كحالات فردية، أو بتعبيره: “هذه التصرفات المسيئة تبقى إستثناءات”، مُطالباً السلطات في هذا الصدد ب”حمايتنا من هؤلاء الأشخاص الذين يضعون أنفسهم أحياناً فوق القانون”.
الإسلام هو دين الدولة في المغرب، ولكن دستور البلاد لعام 2011، الذي صيغ بعدما هزّت البلاد مظاهرات مستوحاة من “الربيع العربي”، يضمن حرية الدين.
ومع هذا، ليس ثمّة قانون يُنظّم للمسيحيين المغاربة أحوالهم المدنية وفقاً لمعتقداتهم، وهو أمر لم يُنكره مصطفى أو التنسيقية، التي تطالب به، لكن على ما يبدو من دون رغبة في الصدام مع الدولة. لذا فإنّ التصريح المُعلن من قبل التنسيقية، هو التأكيد على أنّ الممارسات التضييقية عليهم “حالات فردية”، ولمزيد التأكيد على ذلك، شددوا على الأمر في مراسلة لرئيس الحكومة الحالي سعد الدين العثماني.
من جهتهم يمارس المسيحيون الأجانب والجالية اليهودية الصغيرة في البلاد (حوالي 2500 شخص) شعائرهم الدينية علناً. وتتوفر لهم كنائس ومراكز عبادة عدة حول البلاد، لكن في المقابل لا يحظى المسيحي المغربي بهذا الحق، وهو ما يُمكن إعتباره إرتباكاً وعدم إنصاف من قبل السلطات المغربية في ما يخص التعامل مع الحرية الدينية للمسيحيين في البلاد. ويقول مصطفى “هناك فراغٌ قانوني، وموقف غير واضح من طرف المسؤولين حول الحق في ممارسة الشعائر الدينية عند المسيحيين المغاربة”.
تفخر السلطات المغربية بتعزيز التسامح الديني وبشكل الإسلام المعتدل المتبع في المملكة، وقانون العقوبات في البلاد لا يُحظّر صراحة الردة، وفعل رفض الإسلام أو أيّ من مبادئه الرئيسية.
إلى جانب الدولة والسلطات المغربية، هناك المجتمع الذي يعرف تحفظاً بشكل عام مع كل ما يمس الدين من وجهة نظره، لذا فهو بالضرورة متحفظ مع تغيير الدين، وعليه يقول مصطفى إنّه “يجب على باقي المغاربة إستيعاب أننا قد نختلف معهم في الفكرة أو في الدين، لكن ذلك لا يعني أننا نختلف معهم في المواطنة”.
من ناحية أخرى، تقوم في بعض الحالات الكنائس المسيحية الأجنبية نفسها بمنع المغاربة من حضور الخدمات الدينية. وقال جيلبرت بونوفري، الكاهن الفرنسي في كنيسة القديسة آن الكاثوليكية في أغادير: “هناك العديد من المغاربة يبحثون عن طريقة جديدة للإيمان والإعتقاد. نحن ببساطة نقول لهم من فضلكم لا تأتوا إلينا لأنكم سوف تخلقون صعوبات لنا مع المسؤولين في الدولة”.
والمغرب لا يأخذ التبشير بخفة. في العام 2010، طردت الحكومة حوالي 150 من المقيمين الأجانب المسيحيين المُتَّهمين بالتبشير. كما أغلقت دار الأيتام، “قرية الأمل”، بشكل دائم بسبب إتهام القيِّمين عليها بتعليم المسيحية.

“موضوع فائق الحساسية”

لكن في المغرب من المعروف أن القانون يُعاقب على التبشير المسيحي، وأيّ شخص تُثبَت إدانته ب”محاولة تقويض إيمان مسلم أو تحويله إلى دين آخر” يُمكِن أن يُسجَن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.
وقال عالم إجتماعي وديني لوكالة “فرانس برس” أن “هذا الموضوع حساسٌ جداً لانه يتعلّق بتاريخ الإستعمار وفكرة أن المسيحية تُشكّل خطراً على وحدة المغرب”. رغم ذلك يقول رشيد ان الوضع بدأ يتحوّل. وقال أن “الإعتقالات توقّفت تقريباً وهي خطوة كبيرة. والمضايقات أصبحت نادرة”.
رشيد، الذي يقول “أنا مغربي قبل أن أكون مسيحياً”، يمارس إيمانه علناً ويعيش حياة طبيعية في منطقة الطبقة العاملة في أغادير جنباً إلى جنب مع جيرانه المسلمين. علماً أن معظم المغاربة الذين إعتنقوا المسيحية يعيشُون في الدار البيضاء، والرباط وطنجة وأغادير ومراكش.
وبإستثناء اليهود المحليين، يُعتبر المغاربة تلقائياً مسلمين، ويحمل الملك محمد السادس لقب أمير المؤمنين.
وقال مصطفى إن دستور 2011 والإجراءات التي إتخذها الملك “لصالح التسامح والتعايش” ساعدت على تعزيز حقوق الإنسان في المغرب. وأضاف بأن “قانون العقوبات، والاحزاب السياسية، والمجتمع لم تحذُ حذوه بعد” … للأسف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى