شبحُ الأندلس المُخيِّم طويلاً: إسبانيا تقع على أطراف أوروبا ولكنها مركزية للجهاد الحديث

في 17 آب (أغسطس) الجاري هاجمت حافلة نقل متوسطة من نوع فيات تالينتو، يقودها المغربي موسى أوكبير،آلاف المارة الذين كان يغص بهم شارع “لا رامبلا ” الذائع الصيت في برشلونة، حيث واصل سائقها مهاجمة الراجلين على مسافة قُدرت ب 530 متراً، مما أدّى إلى مقتل 13 شخصاً جرّاء الدهس وشخص أخر طعنه السائق بالسكين، وإصابة ما لا يقل عن 100 شخص بجروح. وقد تبنّى تنظيم “داعش” المسؤولية عن العملية.
جيمس بادكوك، رئيس تحرير الطبعة الإنكليزية لصحيفة “إل بايس” الإسبانية، يحاول في المقال التالي إلقاء الضوء على هذه الحادثة وأسباب وقوعها.

مجزرة برشلونة: ليست الأولى ولن تكون الأخيرة…

بقلم جيمس بادكوك*
حتى الأسبوع الماضي، عندما، قبل بضع دقائق من الساعة الخامسة مساء الخميس (17/08/2017)، بدأت سيارة “فان” بيضاء تقتحم بسرعة درب المشاة في شارع “لا رامبلا” المشهور في مدينة برشلونة، كانت إسبانيا قد نجت من الموجة الأخيرة من الهجمات الإرهابية الجهادية الدموية التي إرتُكبت في أوروبا الغربية. في حين أن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا وإلمانيا واجهت وتحمّلت عبء هجمات متعددة إدّعى تنظيم “الدولة الإسلامية” المسؤولية عنها، فإن إسبانيا أُبعدت من شرب هذه الكأس – أو هكذا بدا.
الّا أن هجمات الخميس في برشلونة وبلدة “كامبريلس” الساحلية لم تضع البلاد بشكل مفاجىء كهدف للجماعات الجهادية. لقد كانت لإسبانيا ميزة خاصة بالنسبة إلى خيال المتطرفين الإسلاميين لأكثر من عشر سنين.
لقد عرف الإسبان منذ فترة طويلة الإرهاب، لكن غالبية عمليات العنف التي إرتُكِبَت في القرن العشرين قامت بها أساساً “إيتا” (“Euskadi Ta Akatasuna”, or Eta)، وهى منظمة تقاتل من أجل إقامة دولة مستقلة للباسك حيث قتلت اكثر من 800 شخص من طريق التفجيرات والإغتيالات. ولكن في أواخر تسعينات القرن الفائت – جزئياً نتيجة لهذا التركيز على منظمة إيتا، الذي إمتص موارد مكافحة الإرهاب في الدولة، وجزئياً نتيجة لموقع إسبانيا الجغرافي كمركز بين شمال إفريقيا وأوروبا ومن هناك إلى الولايات المتحدة – أصبحت البلاد واحدة من القواعد الأساسية لتنظيم “القاعدة” في أوروبا الغربية.
في البداية، إعتبر التنظيم إسبانيا أساساً كقاعدة لوجيستية: فهي مكانٌ سهلٌ نسبياً لإيواء الجهاديين ووضع الخطط. وتفيد المعلومات أن “أبو دحدح” أحد مؤسسي “القاعدة” فى المملكة الإسبانية قد أشار الى أن مقاتليه كانوا يتوجّهون الى مسارح القتال مثل البوسنة والشيشان من المطار، كما كان يُرسل الجرحى في المعارك للعلاج فى المستشفيات الإسبانية. لقد كانوا يتمتعون بما سمته صحيفة “إيل بايس” الإسبانية في حزيران (يونيو) الماضي ب”الحصانة الكاملة”. وكان على بعد أميال قليلة من كامبريلس على طول ساحل “ترّاغونا”، موقع الهجوم الثانوي الأسبوع الماضي، المكان حيث إلتقى زعيم المجموعة الإنتحارية لحوادث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإنتحاري محمد عطا ومنسّق “القاعدة” في هامبورغ رمزي بن الشيبة فى العام 2001 للإنتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على الخطة قبل ثمانية أسابيع من الهجوم على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في أميركا. وفي نهاية المطاف، تم إدانة 18 عضواً متعددي الجنسيات في خلية تابعة لتنظيم “القاعدة” في إسبانيا بتهمة المساعدة في تنظيم أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والإشتراك في أعمال دعم لوجستي أخرى للشبكة الإرهابية الدولية.
لكن إسبانيا ستنتقل في النهاية من قاعدة للعمليات إلى هدفٍ. إن تاريخ إسبانيا – تحت السيطرة العربية لأفضل جزء من ثمانية قرون حتى 1492 – حمل منذ فترة طويلة جاذبية معينة للجماعات الإسلامية؛ ثم، في العام 2003، أخذت الحكومة البلاد إلى الحرب في العراق، ضد رأي غالبية السكان.
وإذا لم تكن الإتصالات التي جرت بالنسبة إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) تحذيراً كافياً، فقد أدّى تفجير قطارات الركاب في مدريد في 11 آذار (مارس) 2004، والذي قُتل فيه 192 شخصاً، إلى فتح أعين السلطات الإسبانية بالنسبة إلى الحرية المقلقة التي كان يتمتع بها الجهاديون الذين لهم صلات بتنظيم “القاعدة” للسفر والقدوم إلى البلاد وتشكيل خلايا. وقد نفذت هذا الهجوم مجموعة دولية من الجهاديين من تونس والجزائر والمغرب بمساعدة من المهاجرين المسلمين الذين يتخذون من إسبانيا مقراً لهم ومجرمين صغار حصلوا على ديناميت مسروق من منجم في منطقة أستورياس الشمالية.
في السنوات التي تلت ذلك، كانت قوات الأمن الإسبانية مهووسة بمنع وقوع المزيد من الهجمات. وقبل 11 آذار (مارس)، كان عدد عناصر الأمن المُكَلَّفين بالتحقيق في التطرف الإسلامي أقل من عدد الضحايا في ذلك اليوم القاتم. الآن وصل عددهم إلى 3000 وهو في إرتفاع. وقد ألقي القبض على أكثر من 700 من المشتبه بهم بأنهم من الجهاديين منذ ذلك الحين؛ ومن هؤلاء، تم اعتقال نحو 200 شخص منذ أن رفعت إسبانيا آخر مستوى التهديد الإرهابي لديها – إلى أربعة من أصل خمسة – في حزيران (يونيو) 2015. وقد تم تحديد كاتالونيا على وجه الخصوص بإعتبارها نقطة ساخنة للإسلام الراديكالي في إسبانيا، مع ربع هذه الإعتقالات تمت في مقاطعة برشلونة وحدها.
وقد إتخذ المسؤولون الإسبان نهجاً – غير عادي في أوروبا – للتدخل في أقرب وقت ممكن عندما يحصلون على معلومة عن مؤامرة إرهابية مُحتَمَلة، حيث يقومون بتعطيل الخلايا تقريباً قبل أن تتشكّل. وفي بعض الأحيان، يؤدي إختيار تفكيك الخلايا بسرعة إلى نتائج قضائية غير مُرضية، مع وجود أدلة ضئيلة على توجيه تُهَم جنائية كبرى. وفي العام 2008، أفادت التقارير بأن السلطات الفرنسية قد إمتعضت عندما إستخدمت الشرطة الإسبانية شهادة من أحد عملائها لتفكيك خلية إرهابية تتألف أساساً من باكستانيين في برشلونة، على الرغم من عدم العثور على أي متفجرات. وأُدين 11 رجلاً في نهاية المطاف بالتآمر لتفجير نظام مترو الأنفاق في المدينة، ولكن كشف إسم المخبر والعميل الفرنسي سبّب غضباً في باريس. ولكن، في معظم الأحيان، نجح نهج إسبانيا: لمدة 13 عاماً، نجحت المملكة في تجنب أي خسائر في الأرواح على أرضها من الهجمات الإرهابية الجهادية.
لكن تنظيم “الدولة الإسلامية” (أو “داعش”) وجد كساحة معركة رئيسية تلك الأراضي التي تُسمى الأندلس، وهو الاسم الذي يُطلق على منطقة في جنوب إسبانيا الحالية عندما كانت تحت الحكم العربي حتى العام 1492.
وأشار تقرير لوزارة الداخلية الإسبانية في العام 2016 إلى أن عدد الرسائل على شبكات الدعاية الجهادية التي تُطالب المتطوعين بشنّ هجمات على إسبانيا و”تحرير” مدنٍ مثل توليدو (طليطلة) وكوردوبا (قرطبة) وإشبيلية تضاعف مقارنة بالسنوات السابقة، مشيراً أيضاً إلى أن “داعش” بدأ ترجمة مواده الإعلامية إلى اللغة الإسبانية. وقد تم تجنيد الكثيرين في البلاد، بمساعدة من الروابط السهلة بين المغرب – حيث يقدر أن أكثر من ألف متطوع سافر إلى مناطق المعركة في العراق وسوريا – وإسبانيا، من طريق مقاطعتين إسبانيتين سبتة ومليلة، وهما مدينتان صغيرتان على الجانب الجنوبي من مضيق جبل طارق وبحر البوران. ووفقاً لوزارة الداخلية الإسبانية، فقد سافر أكثر من 200 متطوع جهادي من الأراضي الإسبانية إلى سوريا والعراق؛ ويُعتقَد أن حوالي 20 شخصا عادوا. ولكن لم يكن أحد من أعضاء الخلية المسؤولين عن الهجمات في برشلونة وكامبريلس على قائمة المراقبة. وكان بعضهم من الرعايا المغاربة، وآخرون من المهاجرين المغاربة المولودين في إسبانيا، وكان معظمهم دون الخامسة والعشرين من العمر؛ وكان اثنان من القاصرين، ولم يكن لأيٍّ منهم أيّ سجل جنائي من أي نوع.
والإستثناء الوحيد هو عبد الباقي الساتي، وهو إمام مسافر قيل أنه من شمال المغرب، وكان قضى عقوبة بالسجن في إسبانيا بتهمة الإتجار بالحشيش، كما كانت لديه إتصالات مع مُجنَّدين جهاديين في كاتالونيا الذين إعتُقلوا في العام 2006. وتشير التقارير المُبكرة إلى أنه في غضون أشهر فقد إستطاع الساتي، كإمام في بلدة ريبول البيرينية، تجنيد مجموعة متماسكة من حوالي 12 رجلاً وفتى، الذين تعود أصول أسرهم إلى بلدة مريرت ذاتها في وسط المغرب. وفى نهاية الأسبوع كانت الشرطة الإسبانية تُحقّق في ما اذا كانت جثة الساتي، الذي قضى الجزء الاول من العام 2016 فى فيلفورد خارج بروكسل، بين الجثث التي عثر عليها بين أنقاض مخبأ المجموعة لصنع القنابل، وهو منزل على شاطئ البحر فى مقاطعة ترّاغونا دُمّر بسبب إنفجار عرضي في الليلة التي سبقت مجزرة ال”فان”. وقد تم تخزين أكثر من 100 اسطوانة من غاز البوتان جنباً إلى جنب مع بيروكسيد الأسيتون كمفجر – وهو “أم الشيطان” المتفجر غير المستقر الذي أصبح السلاح المفضل لمقاتلي “الدولة الإسلامية” في الغرب في كل مكان من مانشستر إلى بروكسل. ويبدو من المؤكد أن الإنفجار قد أجبر المجموعة على إتخاذ قرار في اللحظة الأخيرة للتبديل من القنابل إلى مجزرة الحافلة، ربما مع خطة إضافية تعتمد هجوماً شاملاً بالسكاكين في حالة كامبريلس.
وفي نهاية المطاف، ربما عمل سجل قوات الأمن الإسبانية الناجح في منع التهديدات بسرعة قبل فترة طويلة من الوصول إلى القدرة التشغيلية، على تجنب الفظائع الأسوأ في برشلونة. وقد يكون التسرع الشديد لبدء عملياتها قد أدى إلى فشل المجموعة في هدفها النهائي المتمثل في شنّ هجمات بالقنابل على المواقع السياحية الساخنة في برشلونة.
غير أن الهجوم يؤكد على أن الجهود الأمنية لا يُمكنها أبداً أن تضمن النجاح المُطلق. إن مجتمع إسبانيا المغربي يتكوّن أساساً من الجيل الأول من البالغين. لكن أطفالهم بدأوا في الظهور في مجتمع، في حين أنه متسامح عموماً، يُقدّم القليل من النماذج الإسلامية في الحياة العامة. ليس هناك عضو واحد من أعضاء الهيئات التشريعية الإقليمية والوطنية الـ19 في المملكة من ذلك المجتمع. ويتوقف الكثير على التطورات الجيوسياسية خارج إسبانيا، بالطبع. ولكن أفضل سياسة أمنية ينبغي أن تشمل التركيز على المساواة وإحترام جميع الإسبان.

• جيمس بادكوك هو محرر الطبعة الإنكليزية لصحيفة “إل بايس” الإسبانية.
• كُتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى