لماذا من المرجح أن تؤدي الإنتخابات في ليبيا إلى عدم الإستقرار بدلاً من السلام

دعا رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا فايز السراج إلى إنتخابات برلمانية ورئاسية في آذار (مارس) 2018 وذلك وسط جهود ليبية ودولية أخرى لإنهاء الصراع في البلاد. وفي هذا السياق أكد السراج أنه سيتقدم بخارطة طريق بدافع إصراره على الخروج من الأزمة الحالية وتوحيد الليبيين، داعياً إلى وقفٍ لإطلاق النار ودمج تدريجي للكيانات البرلمانية المتنافسة المتمركزة في طرابلس وشرق البلاد.

عارف علي نايد: هل يكون الرئيس المقبل لليبيا؟

بقلم عماد الدين زهري المنتصر*

عادةً ما تكون الدعوة إلى الإنتخابات في أي بلد علامةً على ديموقراطية نابضة بالحياة. أما في ليبيا، فإن الإندفاع الحالي لإجراء تصويتٍ في غضون بضعة أشهر من الآن — وهو إقتراح أيّده الجميع من أمراء الحرب إلى الأمم المتحدة – سيحمل إلى الشعب الليبي مستقبلاً من الفصل العنصري وعدم الإستقرار. ويكمن الخطر في الطريقة التي تُجري على أساسها ليبيا الإنتخابات: القانون الحالي يمنح أقلية الناخبين على نحو سخيف سلطة أكثر على الغالبية، ويحرم بشكل فعلي فئات واسعة من المواطنين الليبيين ويسمح للعناصر المتطرفة والموالين للنظام السابق معمر القذافي بكسب حصة غير متناسبة في البرلمان.
وعلى الرغم من هذه العيوب الخطيرة، فقد دعت الجماعات الحزبية في داخل ليبيا وخارجها إلى إجراء الإنتخابات كوسيلة للهروب من الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة — الذي فشل في توفير الأمن والإستقرار وحكومة شرعية — وتأمل في الإستفادة من الوضع الراهن من أجل زيادة تأثيرها ونفوذها. ودعا فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني الفاشلة المدعومة دولياً، الى إجراء إنتخابات في آذار (مارس) من العام المقبل، في حين أن عارف نايد، المرشح للرئاسة والمدعوم من الإمارات العربية المتحدة، دعا إلى إجراء إنتخابات في غضون بضعة أشهر. وليس هناك ليبيون كثيرون مُتحَمِّسين لإجراء الإنتخابات أيضاً. يُذكر أن بعثة الامم المتحدة في ليبيا تجري محادثات سرية مع كبار اللاعبين الليبيين، ومنهم سياسيون في مدينة مصراتة الساحلية، في حين إستضاف الرئيس الفرنسي المُنتخب حديثاً إيمانويل ماكرون إجتماعاً الشهر الماضي بين امير الحرب الليبي (الجنرال) خليفة حفتر و(رئيس الحكومة) السراج، حيث أصدرا على الأثر بياناً دعيا فيه إلى إجراء “إنتخابات عاجلة”. وفي بلدٍ لا تستطيع فيه الفصائل حتى الإتفاق على كيفية إبقاء الأضواء مشتعلة ومضاءة على مواطنيها، فإن الشك يحوم حول قدرة الإنتخابات في أن تجلب السلام والإستقرار.
والسبب في هذا الإندفاع لإجراء الإنتخابات بسيط. إن النخب السياسية الحالية ترغب في الحفاظ على ميزتها على المرشحين الآخرين، وهو أمر من الأفضل القيام به وهم ما زالوا متربعين في مناصبهم. فالآلات السياسية للمرشحين الرئاسيين مثل محمود جبريل وعارف نايد وعلي زيدان تعمل بنشاط لكسب الثروة في البيئة الفاسدة على نطاق واسع في ليبيا، وقد قامت ببناء شراكات سياسية منذ سنوات. ولكثيرٍ من الأسباب نفسها التي سمحت لهم بالوصول إلى السلطة في المقام الأول، يتمتع هؤلاء الذين يشغلون المناصب الرفيعة بزخم سياسي يتيح لهم الفوز والنجاح. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم مُتَّحدون في قلقهم حول كيفية ومدى تأثير ترشيح حفتر في صناديق الإقتراع. والمعروف أن حفتر حالياً مُنشغلٌ بالعمليات العسكرية، وهو أقل قدرة على تحدّي محاولات النُخب السياسية للحفاظ على السلطة.
ولكن لكي تَستَهِلّ الإنتخابات حقبة من السلام والإستقرار، فيجب عليهم أن يحصلوا على درجة من الشرعية للإستناد إليها. وإن العمليات الإنتخابية الحالية في ليبيا، التي طوّرتها بالتحديد الفصائل التي تقف على أهبة الإستعداد للفوز بالسلطة، ليست شرعية.
كانت الموافقة على القواعد التنظيمية الحالية للإنتخابات في ليبيا تمت في آذار (مارس) 2014 في الفترة التي سبقت إنتخابات مجلس النواب. وكان من المفترض أن تكون تحسيناً لقانون إنتخابات العام 2012. ولكن عدداً من المواد خدم مصالح الجماعات الهامشية، بما في ذلك الإسلاميين، من خلال ضمان تمثيلهم على الرغم من أنهم لم يحصلوا سوى على عدد قليل من الأصوات.
ويتمثل أحد الشواغل أو المخاوف الرئيسية في أن الأصوات ترجّح بشكل مختلف تبعاً للمنطقة. ووفقاً لمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن الفكرة القائلة بأن تصويت شخص واحد يجب أن يحمل القوة الفعلية نفسها التي يتمتع بها أي فرد آخر هو أمر بالغ الأهمية لتأمين الديموقراطية. بالإضافة إلى ذلك، فإن طريقة توزيع الأصوات “يجب ألّا تُشوِّه توزيع الناخبين”. وعلى الرغم من دعوات الأمم المتحدة للمضي قُدُماً في الإنتخابات، فإن النظام الليبي الحالي يفشل في كلتا الحالتين. إن قانون الانتخابات الحالي يُشوّه توزيع الناخبين من طريق رسم الحدود الإنتخابية إستناداً إلى إعتبارات إقليمية وقبلية وليس من خلال عدد السكان. ويؤدي ذلك إلى تخصيص مقاعد برلمانية لا تتناسب مع التركيبة الديموغرافية في بعض المناطق.
إن النظام الإنتخابي في ليبيا هو ضحية للخلافات الإقليمية. وينقسم البلد تقليدياً إلى ثلاث مناطق هي: برقة في الشرق، وطرابلس في الغرب، وفزان في الجنوب. وعلى الرغم من أن عهد القذافي كان وحشياً في جميع أنحاء البلاد، إلا أن كلاً من برقة وفزان كانتا مُستهدَفَتين بشكل خاص. إن العامل القبلي، الذي لا يزال أقوى بكثير في شرق وجنوب ليبيا، وبموجب قانون الإنتخابات، تلقت هذه المناطق شكلاً من أشكال العمل الإيجابي في ليبيا بعد القذافي، مع تمثيل أكبر في البرلمان لم يكن يتصوره أحد. وعلى الرغم من كون طرابلس من أكثر المناطق إكتظاظاً بالناس، حيث يقطن فيها ثلثا السكان، فقد وافقت على ترتيبٍ ترك لناخبيها فقط 52٪ من إجمالي المقاعد النيابية على أمل تجنب البلقنة في ليبيا. وفي مثال فظيع على وجه الخصوص، لم تحصل مدينة مصراتة في منطقة طرابلس (450,000 نسمة) سوى على ثمانية مقاعد، في حين تلقت بلدة فزان في سبها (96,000 نسمة) تسعة مقاعد. ونقلاً عن تقريرٍ لمركز كارتر لعام 2012 عن قوانين الإنتخابات الليبية، التي لا تزال تشكل الأساس لقانون الإنتخابات الحالي الذي يقول: “في حين أن النظام الحالي قد يكون قد حقق مصالح سياسية، إلا أنه فشل في الوفاء بإلتزامات ليبيا بموجب القانون الدولي العام لضمان المساواة في الاقتراع من طريق منح كل ناخب وتصويت وزناً متساوياً”.
في نهاية المطاف، فإن النتائج تعني أن الناخبين في الجزء الشرقي من ليبيا يحصلون على ثلاثة أضعاف تمثيل المواطنين في الجزء الغربي. في جنوب فزان، يرتفع هذا العدد إلى ست مرات. ورغم جميع أخطاء نظام الكلية الإنتخابية الأميركية (American electoral college system) المعتمد في الولايات المتحدة، ستكون هناك مخاوف جدية إذا سُمح مثلاً لولاية “تينيسي” إرسال 27 ممثلاً إلى الكونغرس وولاية “ماساتشوستس” تسعة فقط، على الرغم من وجود أحجام سكانية مماثلة. ولكن هذا هو النظام الإنتخابي الذي تريده الأمم المتحدة والرئيس الفرنسي وغيرهما من اللاعبين الرئيسيين أن يستخدمه الشعب الليبي في إنتخاباته المقبلة، من دون أي حديث عن إصلاح مشاكله البائسة.
والتخوف الثاني من القوانين الإنتخابية في ليبيا يكمن في الطريقة التي يتم فيها إنتخاب ممثلي كل مقاطعة. في الولایات المتحدة، لا یملك الناخبون سوى ممثل واحد عن منطقتھم، ولا یستطیعون الإقتراع إلّا لمرشح واحد. في ليبيا، يوجد في المقاطعات ممثلون متعددون، وهناك عدد من المرشحين خلال الانتخابات، ولكن لا يمكن لكل مواطن أن يصوّت إلّا لمرشح واحد. وهكذا، على الرغم من أن المرشح المؤيد للديموقراطية قد يكون يملك شعبية كبيرة، وعلى سبيل المثال، حصل على 80 في المئة من الأصوات، فلا يمكنه إلّا أن يملأ مقعداً واحداً داخل دائرة إنتخابية لديها ثلاثة مقاعد. والمرشحون الأقل شعبية الذين قد يكونوا قد حصلوا على حصص من رقم واحد فقط، فسيفوزون بالمقعدين المتبقيين. وبهذه الطريقة يصل المرشحون الهامشيون إلى البرلمان، ويسرقون بالفعل الإرادة الديموقراطية للشعب. ومن خلال هذه الثغرة، تمكن المرشحون المتشددون بسهولة من إيجاد طريقهم إلى السلطة. فعقيلة صالح، على سبيل المثال، هو رئيس مجلس النواب، الذي يشكل سلطة حكم بديلة تتحدّى سلطة حكومة الوفاق الوطني من طبرق في شرق ليبيا. والمعروف أن صالح كان مؤيداً متشدّداً لنظام القذافي السابق. وقد إنتُخب في حزيران (يونيو) 2014 ب913 صوتاً فقط.
من ناحية ثانية، يؤدي إختلاف أنظمة الناخبين بين الدوائر الانتخابية إلى إضعاف المساواة بين الناخبين. وقد خلص تقرير مركز كارتر إلى أنه في 50 دائرة من أصل 73 دائرة إنتخابية، سُمح للناخبين بالإدلاء بإقتراعين بدلاً من تصويت واحد، في إنتهاكٍ للمعايير الدولية التي تتطلب حق الاقتراع على قدم المساواة. ونظراً إلى إنتشار السياسة القبلية والمركزية في المنطقة، فقد أدّى ذلك إلى مزيد من الإنحراف في التوازن، مما منح بعض المناطق مزيدا من التأثير.
ولم يتم تناول أيّ من هذه العيوب في الدستور الذي إقتُرِح أخيراً. وذلك لأنه لا يوجد أي دافع لجمعية صياغة الدستور، التي تم إختيار أعضائها من قبل النظام المعيب نفسه، لتغيير أي شيء. وأعضاؤها مُدينون لهذه العيوب المنهجية التي أوصلتهم إلى تولي مهامهم. ولكن قبل أن تُقدم ليبيا على إجراء إنتخابات جديدة، يجب معالجة هذا الخلل. إن إجراء الإنتخابات في ظل نظام التصويت الحالي ومن دون دستورٍ مُصادَقٍ عليه سيوفّر للسياسيين قشرة من الشرعية من دون وجود ضوابط دستورية أو ضمانات أو رقابة وتوازنات. في الشرق الأوسط، هذه وصفة للعودة السريعة إلى الحكم الإستبدادي.
بالإضافة إلى العمل الملح لمعالجة هذه المشاكل في قانون الانتخابات الليبي، هناك حاجة إلى مزيد من الوقت للسماح لمرشحين إضافيين مؤيدين للديموقراطية بأن يُنشئوا أنفسهم لأنهم عادة ما تكون لديهم موارد محدودة للغاية. فمعظم السياسيين الليبيين الذين يطالبون بإجراء إنتخابات، على سبيل المثال، لهم صلات مع قوى خارجية مثل مصر أو روسيا أو الإمارات العربية المتحدة.
وعلى الرغم من أنه يبدو من قبيل التناقض، فإن إجراء الإنتخابات في ليبيا في الوقت الحالي سيتيح للمؤسسات المناهضة للديموقراطية أن تتجذّر. وقد يبدو قرار إلغاء الانتخابات متطرفاً، ولكن بالنظر إلى أن مجموعة القوانين الحالية تُحرِم الملايين من الليبيين في حين تخلق طريق السلطة لمجموعات هامشية، فإن العودة إلى لوحة الرسم ستكون أفضل لجميع الليبيين ولمنطقة البحر المتوسط ككل.

• عماد الدين زهري المنتصر هو مؤلف ومحلل سياسي متخصص في الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية. وهو عضو مؤسس في مجلس الشؤون العامة الأميركية الليبية ولجنة الوقوف مع ليبيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى