له أمرُ البلد ولغيرِه أمرُ اليوم

بقلم سجعان قزي*

منذ سنةِ 2000 و”حزبُ الله” يَحكُم لبنان. لم يَحصُل شغورٌ في ولايتِه سوى بِضعةِ أشهرٍ بعدَ المغفورِ لها “ثورةِ الأرز” سنة 2005. يُشغِلُ الآخرين بتداولِ السلطةِ. يُنظِّمُها ويُشرِف عليها وعليهم. لا يَـأبَـه للشغورِ الرئاسيِّ وللتمديدِ النيابيّ. هذه أحداثٌ ثانويّــةٌ في دولةٍ إنتقالـيّـةٍ ولا تؤثّر على مَجرى التحوّلاتِ الإستراتيجيّـةِ في المِنطقة، خصوصاً حين تكون المَلاءةُ صِنوَ الشغور.
“حزبُ الله” يَحكم عمليّاً لبنانَ من القصورِ والساحات، من الحكوماتِ والمؤسّسات. لَم يَــعُد “حزبُ الله” عدوّاً أو حليفاً، ولا حتى شريكاً، إنه الحاكِم. على خلفيةِ سلاحِه يُدير البلدَ على أساسِ الديموقراطـيّـةِ التوافقـيّـة من دونِ توافُقٍ ديموقراطيّ. واللبنانيّون يَنتظرون خِطاباتِ السيد حَسن نصرالله لا خطاباتِ غيرِه، وبياناتِ “حزبِ الله” لا بياناتِ غيرِه. له أمرُ البلد وللجيشِ أمرُ اليوم. له البلدُ وللدولةِ البلديّـةُ. ما يُحرِّمه يُجمَّد وما يُحلِّله يُــقَــرّ. يَخوض المعاركَ حسَبَ توقيتِه ويُنهيها حسَبَ مصالحِه. يُحدِّد ساعةَ الإستحقاقاتِ الدستوريّةِ والسياسيّةِ فتُحتَرم “على الدقيقة”. هو الشرعيّةُ والشريعةُ بثلاثيّةٍ أو من دونِها، لا بل أصبحت معادلةُ “الجيشِ والشعبِ والمقاومة” عِبئاً عليه. من دونِها هو حزبٌ ومقاومةٌ وسلاح، فلا يَضطرُّ إلى التنسيقِ ورفعِ علمَين بدلَ عَلم.
قال “حزبُ الله”: لا رئاسةَ جمهوريّةٍ فحَصل الشغور. هذا هو مرشَّحي الوحيد فإنتُخب الجنرال ميشال عون رئيساً. لا مانعَ من سعد الحريري رئيساً للحكومةِ فعادت السرايا وآلَت إليه. لِتؤَلَّفِ الحكومةُ بثلاثينَ وزيراً قبل رأسِ السنةِ الماضية فتألّفت هكذا. كفى سِجالاً حول البَيانِ الوزاريّ فصَدر البيان. صارَ وقتُ توزيعِ المُربّعاتِ النَفطـيّةِ فنال كلُّ طرفٍ نصيبَه منها. لِيوقَفِ الاحتكامُ إلى “إعلانِ بعبدا” فتوقَّفَ الحديثُ عنه. لا بدَّ من النسبيّةِ الموسَّعةِ في قانونِ الإنتخابات فحَلَّت النسبيةُ قانوناً مقدَّساً. السلاحُ خارجَ التداولِ فصار السلاحُ أمراً مَنسِيّـاً. هذه هي حدودُ تطبيقِ القرار 1701 فجُرِّد القرارُ من فاعِلـيّتِه. هذه صلاحيّاتُ القوّاتِ الدوليّةِ فصار وجودُها سياحيّاً. نَسِّقوا مع النظامِ السوريِّ فبدأ التنسيقُ جوًّا وبرًّا. لا للمحكمةِ الدولـيّـةِ فصارت المحكمةُ شهيدةً تَبحثُ عن ضريح. وغداً يَسأل: أين شهداؤكم؟ فيُجيبونه: ليس لدينا شهداءُ، بل ضحايا موادَّ غذائيّةٍ غيرِ مطابِقةٍ لمواصفاتِ هذا الزمن.
لا نَلومنَّ “حزبَ الله”، بل الّذين يتراجعون أمامَه: يَطلُب فيُستجاب، يَقرَعُ فيُفتَح له، يَرفع الإصبعَ فتَنحني الرؤوس. طَرح هؤلاء وجودَ سلاحِه في لبنان ثم قبِلوا به شمالِ الليطاني. طالبوا بوضعِ سلاحِه في كـنَفِ الشرعيّةِ فأصبحت الشرعيّـةُ في كنفِه. نادوا بنزعِ سلاحِه فأصبح أقصى مُناهُم أن يعودَ بسلاحِه من سوريا إلى لبنان. وَصفوا سلاحَه بغيرِ الشرعيِّ ثم كلّفوه عمليّةَ جرودِ عِرسال. رفضوا الإعترافَ بشهدائِه ضِدَّ إسرائيل ثم نَظّموا اليومَ مِهرجاناتٍ لإستقبالِ أَسْراه العائدين من معاركِ سوريا. رَجَوا أميركا أن تَضعَ عقوباتٍ عليه، ثم هَرولوا إلى واشنطن يَستعطِفونها أن تُرجِئَ صدورَها. فَرِحوا بأن يَشمُلَ بيانُ قِمّةِ الرياض فقرةً تَصِفُه بالإرهابيِّ ولما إستُجْوِبوا في بيروت أنكروا عِلمَهم (ما شِفْتِ حاجَة).
حتى الأمسِ القريب، كان “حزبُ الله” يبرِّر سلاحَه بمقاومةِ إسرائيل، فصار بعد عِرسال يُبـرّره بمقاومةِ الإرهاب أيضاً. وحين شاركت الدولةُ في إستقبال أَسراه الّذين اعتُقلوا أثناءَ قتالِهم في سوريا أعطَته إعترافاً آخرَ بمشروعيةِ تدخُّلِه في حربِ سوريا.
ويأتي مَن يُحدِّثُ الناسَ عن تسويةٍ وطنـيّـة أَحيَت الجمهوريّةِ، في حين أنَّ الأمرَ لا يتعدّى إعترافَ الفريقِ الآخَر (14 أذار) بإنتصارِ “حزب الله” وفريقِه الإقليميّ فقام يُهنّئ ويَحِدُّ من الخسائر. ما كان الأطرافُ المحليّون ليُسلِّموا بالأمرِ الواقع لو لم يَلمُسوا أنَّ حلفاءَهم العربَ غيرُ مستعدّين أنْ يُحرّكوا ساكِناً أو رِيالاً أو حتّى رصاصةً مَطَاطـيّةً من أجلهِم. فاليمنُ والعراقُ وسوريا وليبيا حاليّاً أهمُّ من لبنان. والصراعُ الكبيرُ أهمُّ من صراعاتِ اللبنانيّين، خصوصاً وأنَّ كلَّ ما فعله الغربُ والخليجيّون من أجلِ حلفائِهم اللبنانيّين كان تعبئةَ ماءٍ في وعاءٍ مَثقوب.
لقد نَجح “حزبُ الله” في وضعِ أخصامِه في موقعِ الدفاع برغم أحقيّةِ مواقِفهم، وأنْ يجعلَ الدولةَ اللبنانيّـةَ أداةً تفاوضيّـةً يَستخدِمها لتحقيقِ مشروعِه الإستراتيجيِّ الرامي إلى توسيع حِصّةِ الشيعةِ في نظامِ لبنان الجديد وفي دولِ الشرقِ الأوسط الجديدة. دولةُ لبنان الحاليّةُ هي جِهازُ العَلاقاتِ العامّةِ والتواصُلِ الدوليّ ل”حزبِ الله”. ولولا الشَماتةُ، لكانت الدولُ الغربيّةُ تتفاوض معه لا مع أركانِ الدولة، فهو إن وَعدَ وفى وإن إلتزمَ نفَّذ. هو حزبٌ يَحترمُ نفسَه، ولا يَتخلّى عن ثوابتِه ومبادئِه وحلفائِه وشهدائِه. أجل، سيأتي يومٌ تَـكـفُر فيه الدولُ الغربيّةُ بتخاذلِ الدولةِ اللبنانيّة فتستديرُ نحو “حزبِ الله” ما دام حلفاؤها اللبنانيّون سَبقوها إلى ذلك.
السوابقُ كثيرةٌ في هذا المجال: السابقةُ الأولى لبنانيّةٌ وتعود إلى ثمانيناتِ القرن الفائت حين إعتمدَت إسرائيلُ “الخِيارَ الدرزيَّ” في الجبل ثم “الخِيارَ الشيعيَّ” في الجنوب بعدما نَكَث الزعماءُ الموارنةُ بوعودِهم تجاهَها. والسابقةُ الثانيةُ لبنانيّـةٌ أيضاً حين وافقَت دولٌ خليجيّـةٌ وغربيّـةٌ في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 على إنتخابِ حليفِ “حزبِ الله” رئيساً لجُمهوريّـةِ لبنان. والسابقةُ الثالثةُ عراقـيّـةٌ حين نَقلت أميركا سنةَ 2003 حكمَ العراق من السُنّةِ إلى الشيعة. والسابقةُ الرابعةُ إقليميّةٌ حين وقّعت الدولُ الخمسُ زائدة واحدةً سنةَ 2015 الإتفاقَ النوويَّ مع إيران وسْطَ ذهولِ المملكة العربية السعوديّـة. والسابقةُ الخامسةُ سوريّـةٌ حين سَحبت أميركا وفرنسا سنةَ 2017 شرطَ إسقاطِ (الرئيس) بشار الأسد بعدما تَيقَّنت من فشلِ حلفائِهما في المعارضةِ السوريّة. ويُخطئ من يَظنُّ أنَّ العقوباتِ الأميركيّـةَ والأوروبيّـة ضِدَّ “حزبِ الله” ستكون عائقاً، فحين يَصدُر القرارُ السياسيُّ، تُصبحُ العقوباتُ المدخَلَ الجاهزَ لإجراءِ مفاوضاتٍ مع “حزبِ الله” وإيران بمنأى عن الدولةِ اللبنانية والمكوِّناتِ السياسيّةِ الأخرى.
صار صعباً التعاطي مع “حزبِ الله” كأنّه حزبٌ عاديٌّ أو ميليشيا مسلّحةٌ أو حتّى مقاومة. لست سعيداً بذلك، لكنّه واقعٌ أَسهمَ تحالف 14 أذار في صناعتِه بضعفِه وجُبنِه وتسوياتِه ومساوماتِه وخلافاتِه وتنازلاتِه. والمكابرةُ مستمرّة.
لكنَّ هذه القوّةَ الإقليميّةَ التي جمَّعها “حزبُ الله” تبقى غيرَ مُسيَّلةٍ بسببِ الواقعِ اللبنانيّ الديموغرافيِّ والجغرافيِّ والتاريخيّ. إذ يستطيعُ “حزبُ الله” الإنتصارَ على الولاياتِ المتّحدةِ الأميركيّة وروسيا وبريطانيا والصين، لكن حين يعودُ إلى لبنان، يرجِعُ لبنانيّاً بين اللبنانيّين وحزباً بين الأحزاب وكُتلةَ نيابيّةً بين الكُتل. ولأنّـه يدرك هذه الثوابت ـــ الموانع، يَمتنعُ “حزبُ الله” ـــ حتّى الآن ـــ عن تحويلِ قوّتِه من أمرٍ واقعٍ إلى حالةٍ دستوريّـة.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى