كيف أثّرت أزمة قطر في ميزان القوى في الشرق الأوسط

إذا لم تتم إدارة الأزمة القطرية بشكل رشيد، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تعقيد المخاطر الحالية في ميزان القوى الإقليمي، مع ما يترتب عن ذلك من عواقب على جميع دول المنطقة.

الرئيس التركي طيب رجب أردوغان مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: محور آخر لتغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط

بقلم خيرالدين المخزومي وعادل البدوي

إن الأزمة القطرية ليست قضية عابرة بالنسبة إلى التوافق الإستراتيجي للقوى في منطقة الشرق الأوسط مع وجود ثلاثة محاور رئيسية تتنافس على الهيمنة الإقليمية، حيث من المرجح أن تُعبّر هذه المحاور، التي تقودها إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا، عن أهدافها ومصالحها بشكل مختلف ومتناقض، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة المنافسة والنزاع.
إن الهدف الرئيسي لكل محور هو إحتواء الآخرين، بما فيها دول إلى حدٍّ ما غير منحازة مثل العراق. وإذا لم تتم إدارة الأزمة القطرية بشكل رشيد، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تعقيد المخاطر الحالية في ميزان القوى الإقليمي، مع ما يترتب عن ذلك من عواقب على جميع دول المنطقة.

المحاور الثلاثة

يتكوّن أول هذه المحاور من إيران وسوريا، إضافة إلى جهات فاعلة غير حكومية مثل “حزب الله”، في لبنان، و”حركة أنصار الله” المعروفة بالحوثيين في اليمن، والقوات التابعة ل”الحشد الشعبي” في العراق. وتشكّل إيران القوة الرئيسية للتحكم والسيطرة في هذا المحور، الذي تدعمه روسيا سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً.
ويشمل المحور الثاني المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين واليمن (تحت قيادة عبد ربه منصور هادي)، بالإضافة إلى بعض الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل “جيش الإسلام” (الجبهة الإسلامية). ومع ذلك، فإن السعودية هي القوة الرئيسية في هذا المحور مع مصر بإعتبارها الركيزة الثانية. وعلى عكس المجموعة السابقة، فإن هذا المحور مدعوم من الولايات المتحدة الأميركية.
وربما يكون المحور الثالث هو الأكثر تعقيداً والأكثر تأثراً من الأزمة الأخيرة في العلاقات الديبلوماسية في المنطقة؛ وهو يتألف من تركيا وقطر والعديد من الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، وحركة “حماس”، وجماعات سلفية تكفيرية راديكالية مختلفة عدة. في خطاب أخير لوزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات الدكتور أنور قرقاش في “شاتام هاوس” في لندن، جعل العلاقة بين قطر والجماعات السلفية التكفيرية الراديكالية أكثر وضوحاً: “إن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت صراحة في تقريرها عن الإرهاب في العام 2015 بأن “كيانات وأفراد داخل قطر” قاموا بتمويل جبهة النصرة”، وهي منظمة إقليمية تابعة لتنظيم “القاعدة”. وأشار أيضاً إلى أنه “في ليبيا، دعمت قطر “الجماعة الليبية المقاتلة” الإسلامية و”أنصار الشريعة”. في الواقع، فإن رجل قطر الذي يُشرف على العلاقات مع “الجماعة الليبية المقاتلة” الإسلامية هو الآن رئيس القوات الخاصة القطرية”.
على الرغم من أن تركيا تُعتبَر قوة إقليمية كبرى، فإن القيادة في محورها تتناوبها مع قطر نتيجة لميزة نسبية يتمتع بها كل بلد في مختلف جوانب القيادة، فتركيا مع فائضها العسكري – البشري يقابله تمويل قطري لتشكيل هيكل القيادة المتكاملة الحالي. ويتشابه هذا المحور في العديد من الطرق مع المحور السعودي – المصري، إذ أن المحورين تدعمهما الولايات المتحدة وجزء من أهل السنّة.

تحالفات متقاطعة

وعلى الرغم من أن لكلِّ محورٍ مصالحه وأهدافه الخاصة، إلا أن هذا الأمر لم يوقف ويمنع التعاون والمشاركة عبر المحاور حول قضايا معينة. وقد حدثت أخيراً أمثلة على المعاملة بالمثل في المقام الأول بين المحور الأول (إيران) والثالث (تركيا)، وقد سهّل ذلك بشكل خاص إزدياد مشاركة روسيا لكلا الطرفين في قضايا الشرق الأوسط من سوريا والأكراد إلى العلاقات الإقتصادية.
وقد إحتلّ التقارب الإيراني – التركي بشكل خاص مكانة بارزة في العديد من القضايا الجيوسياسية التي لم يتم حلّها بعد في المنطقة مثل مكافحة الإرهاب وإستفتاء الاستقلال الكردي – وأخيراً حذرت كلٌّ من تركيا وإيران من إجراء مثل هذا التصويت، ودعتا إلى جهود لتخفيف الحرب في سوريا.
أما في ما يتعلق بالتقارب الإيراني – القطري، فقد شملت قرارات أخيرة مصالح الطاقة والعمليات العسكرية والمواد الغذائية، وأهمها إدارة وتقاسم أكبر حقل للغاز في العالم.
في الوقت عينه، وفي مواجهة حصار السعودية والإمارات والبحرين ومصر الذي حظر عبور الطائرات القطرية عبر أجواء البلدان الأربعة، فتحت إيران مجاليها الجوي والبحري وقدمت أيضاً الغذاء إلى قطر. وفي كلتا الحالتين، كانت للتقارب الإيراني – القطري تداعيات على الشبكة الأوسع للعلاقات في المنطقة.
وقد أبرز إرتفاع الحرارة الأخير للعلاقات بين تركيا وقطر وإيران الإختلافات والتناقضات بين أهداف هذين المحورين وأهداف محور المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من الدعم الأميركي المتبادل والإنتماء الإسلامي المشترك، فإن لكل من السعودية وتركيا رؤى وأهدافاً مختلفة جوهرياً تجاه قطر وإيران.

معضلة خطيرة للولايات المتحدة

إن الولايات المتحدة على وعي وإدراك لعواقب تفاقم الصراع بين حليفتيها الرئيسيتين في المنطقة، المملكة العربية السعودية وتركيا. والخيارات الأميركية هنا تبدو عاجزة في هذا الخلاف بين الحلفاء.
إن التخلّي عن قطر في مثل هذه الأزمة من شأنه أن يضر سواء بفقدان ركيزة مهمة في الشرق الأوسط أو بالفرصة التي سيوفّرها للروس الذين يبحثون عن الوصول إلى المياه الدافئة. وتدرك واشنطن أن قطر، بمساعدة روسيا وتركيا وإيران، قادرة على خلق إحتكار للغاز، الأمر الذي سيؤدي إلى عواقب على النمو الإقتصادي العالمي.
الواقع أن الصورة الأكبر هنا هي أن تفاقم الصراع بين الحلفاء يُمكنه أن يؤدي إلى تفكك التحالف بقيادة الولايات المتحدة في المنطقة إلى مجموعتين منفصلتين، واحدة تشمل جماعة “الإخوان المسلمين” مع العاصمة القطرية والقوى العاملة التركية، والأخرى (وهابية) مع العاصمة السعودية والقوى العاملة المصرية.
في نظر وزارة الخارجية الأميركية، إن أي تهديد لأمن دول مجلس التعاون الخليجي يشكل تهديداً للمصلحة الوطنية الأميركية. إن الأمن الخليجي هو جزء طويل الأمد من الأمن القومي الأميركي منذ عهد الرئيس جيمي كارتر، الذي أوجز في العام 1980 في خطاب حالة الاتحاد: “إن محاولة اي قوة خارجية السيطرة على منطقة الخليج ستُعتبر إعتداء على المصالح الحيوية الأميركية، ومثل هذا الإعتداء سيتم ردعه بأي وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية”.
وبالنظر إلى الموقف الأميركي، فإن مخططي السياسة الأميركية يراقبون الأحداث في الخليج بقلق، خصوصاً في ما يتعلق بالعراق.
إن إدارة االحلفاء في الأزمة القطرية قد وضعت الولايات المتحدة في مأزق خطير، لأن أي رد فعل أو عمل قوي لصالح أيٍّ من الجانبين يجب موازنته مع التداعيات على عشرة آلاف أميركي في قاعدة العيديد في قطر، أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط.

الجغرافيا السياسية للعراق

يقع العراق في وسط المحاور الثلاثة: إيران من الشرق، المملكة العربية السعودية من الجنوب الغربي، وتركيا من الشمال. وفي مواجهة المنافسة والصراع الحار بين هذه المحاور، فإن العراق في وضعِ ضُعفٍ وقوة، مع أخذ التهديدات والفرص على السواء في الإعتبار.
إن التدمير الأخير للبلد يتناقض مع مركزيته التاريخية في المنطقة، مما يجعله حيازة ممتازة وشريكاً مُستضعفاً لكل محور. كل المحاور الثلاثة تبحث عن نفوذ لها في العراق. وإستناداً إلى منظوراتها الجغرافية الإستراتيجية الجماعية، يمكن للعراق أن يعمل كدولة عميلة حاسمة ومنطقة عازلة.
في مقابلة مع السفير السابق ألبرتو فرنانديز، رئيس شبكات الإذاعة في الشرق الأوسط في مجلس محافظي البث، فقد أوضح ماهية إحتياجات الدولة العراقية في المستقبل القريب: “إن المفتاح هو تعزيز النزاهة المؤسسية والكفاءة للدولة العراقية وجميع مؤسساتها وجاذبيتها لجميع مواطنيها. إن تعزيز العراق كحكومة وكمجتمع يجعل من الصعب تدخل القوى الأجنبية العدائية في شؤونها”.
الواقع أن هناك نافذة حاسمة بعد تحرير الموصل لتعزيز المكاسب وتشديد السيطرة على العراق. إن المنافسة على النفوذ في بلاد الرافدين تهدد بتقسيم الأمة على خطوط طائفية وإيديولوجية ومادية. إن الوحدة الوطنية الهشّة ستواجه تحديها الأكبر إذا دخلت المملكة العربية السعودية وإيران في مباراة صفرية النتائج للتأثير. ومن المحتمل أن تقع وطأة حربهما بالوكالة على العراق وشعبه.
من جهتها تشعر الولايات المتحدة بالقلق من مواصلة إيران لهجومها السياسي فى العراق. ومع تحرير الموصل، قد تستنتج طهران أنها لم تعد تستفيد من أي وجود أميركي في العراق. ولدى الجمهورية الإسلامية مجموعة واسعة من الوسائل لممارسة الضغط على صنّاع القرار السياسي العراقي الرئيسيين، وخصوصاً من خلال الجهات الفاعلة غير الحكومية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات الإستراتيجية والتاريخية الإيرانية مع القوى السياسية الشيعية تعطيها موطئ قدم لتوجيه الشعب العراقي نحو محورها.
أما بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، فإن لديها وسائلها الخاصة لمنع بغداد من التوافق بشكل وثيق جداً مع طهران. يمكن للمملكة أن تمتنع بشكل سلبي عن دعم إعادة إعمار المناطق المحررة، أو أن تدعم بنشاط الجماعات والأحزاب الراغبة في زعزعة السلام وإعاقة العملية السياسية في العراق. وعلى نطاق أوسع، قد يضغط السعوديون على بلدان أخرى في العالم العربي والإسلامي ضد تقديم الدعم للعراق.
وأخيراً، تمتلك تركيا أيضاً وسائل لممارسة الضغط على الساحة السياسية العراقية. إن سد أتاتورك على نهر الفرات، وهو واحد من أكبر السدود في العالم، مملوك لتركيا.
وفي العام الفائت، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تحقيقاً تحت عنوان “مشروع السد التركي يهدّد بإغراق آلاف السنين من التاريخ”، الذي ناقش قرب الانتهاء من العديد من مشاريع السدود التركية، ولا سيما “سد إليسو”. ويبدو أن العواقب بالنسبة إلى مستويات المياه في أجزاء من العراق كبيرة، مع جفاف الأهوار والصناعات الزراعية ككل آخذة في الإنخفاض. إن إستخدام المياه كبطاقة سياسية قد تلعب لصالح تركيا مع العراق.
وبالمثل، فإن أنقرة قد تستخدم القضية الكردية وروابط محورها مع مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لصالحها في مواجهة بغداد. وقد تدفع وتؤيد كلٌّ من قطر وتركيا مطالب بارزاني بالإستقلال. وعلى الرغم من أن تركيا تعارض الاستقلال الكردي، إلّا أن هذا لن يستبعد رغبة أردوغان في استخدامه كإمكانية ضغط على الحكومة العراقية.
كما أن المال القطري لعب دوره أيضاً وأُنفِق يسخاء على الجماعات المسلحة مما جعل العراق غير قادر للوصول إلى أي عملية مصالحة وطنية أو تحقيق أي مشروع مفيد وصالح للبلاد. وذكرت وزارة الخزانة الأميركية في العام 2014 أن “قطر تلتمس تبرعات لتمويل المتمردين المتطرفين، وليس لتلبية الإحتياجات الإنسانية المشروعة. وكثيراً ما يكون المتلقّون لهذه الأموال من الجماعات الإرهابية، بما في ذلك تلك التابعة لفرع تنظيم “ألقاعدة” السوري، “جبهة النصرة”، وتنظيم “داعش”، وهي الجماعة التي كانت تُعرف سابقاً بإسم تنظيم “القاعدة في العراق””.
بالإضافة إلى ذلك، أشار الدكتور أنور قرقاش في خطاب ألقاه في “شاتام هاوس” في لندن إلى أن “دولة قطر دفعت فدية هذا العام فقط نحو مليار دولار لتحرير مجموعة من الصقور القطريين في جنوب العراق. وأكدت مصادر متعددة لصحيفة فايننشال تايمز أن 700 مليون دولار دُفعت للحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية التي تسيطر عليها”، مما يدل مرة أخرى على إستعداد قطر لتمويل الجماعات المتطرفة في المنطقة.
لقد وفّرت الأزمة القطرية، والخطاب الديبلوماسي الأوسع نطاقاً الذي تسببت به، قوة دفع للسباق من أجل السيطرة على بلاد الرافدين. ونظراً إلى القيمة الجيوسياسية للعراق والإنفتاح على مختلف التكتلات في المنطقة بعد تحرير الموصل، فإن التنافس على توازن القوى في الشرق الأوسط في المستقبل يجري فعلياً وحالياً بين إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى