المشكلة مع التركيبة الديموغرافية في سوريا: كيف يُحبِطُ التغيير والتَهجير السكاني فُرَصَ السلام

يبدو أن كل المناقشات التي تدور حول حل الأزمة السورية تدور حول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي إعادة الهيكل السياسي الذي كان سائداً قبل الحرب الأهلية، حيث نسي المناقشون أن الوضع الديموغرافي قد تغير وأن أهداف النظام السوري غير أهداف المعارضة، وأنه بات من المستحيل العودة إلى الهيكلية السياسية قبل 2011.

الرئيس بشار الأسد: هل يستطيع تحقيق إستراتيجيته؟

بقلم طارق عثمان*

على مرّ السنوات الست الفائتة، كانت هناك محاولات عدة للتوسط من أجل إحلال السلام في سوريا. وآخرها كانت على هامش قمة مجموعة ال20، التي عُقِدت في هامبورغ في إلمانيا (7 -8 تموز/ يوليو 2017)، حيث ناقش الرئيسان الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين إتفاقاً مُحتمَلاً بين بلديهما حول الأزمة السورية. وكان الأمل هو في أن تؤدي الصفقة الثنائية إلى ضخّ بعض الحياة في محادثات السلام المُتوقّفة في جنيف وأستانا التي إستمرت لأكثر من عامين. لكن هذه المناقشة، وجميع الجهود التي بُذلت أخيراً، لإنهاء الصراع الذي دام الآن ست سنوات، إستندت إلى الإفتراض الخاطئ بأن إعادة سوريا إلى هيكلها السياسي الذي كان سائداً قبل الحرب سيُحقّق السلام.
بالنسبة إلى المبتدئين غير المُتابعين، فإن الحرب قد غيّرت التركيبة الديموغرافية في سوريا بشكل جوهري، ولهذا وحده، فإن العودة إلى سوريا ما قبل الحرب ستكون مستحيلة. على مدى السنوات الثلاث الماضية، نجح نظام الأسد وحلفاؤه في الحدّ من وجود السنّة في المناطق الأقرب إلى المراكز الحضرية الكبرى، وخصوصاً دمشق والساحل. وهذه هي المناطق التي يتمتع فيها المسيحيون والعلويون (الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد) بحضور قوي، وحيث يتم ويجري الجزء الأكبر من تجارة البلاد. لم تكن عمليات النظام وحلفائه هنا تهدف إلى قتل السنّة، بل إلى تحفيزهم على الرحيل. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الطرق التي تصل سوريا بالأردن ولبنان ظلت آمنة تماماً على مدى السنوات القليلة الماضية. كان هدف الأسد هو إنشاء منطقة جغرافية متجاورة ومتماسّة يتمتع فيها أهل السنّة بحصة من السكان أقل كثيراً مقارنةً بمستويات ما قبل العام 2011. والمنطق الكامن وراء ذلك هو أن أقليات عدة تدعم نظام الأسد لأنها تعتقد أنه هو وحده يستطيع حمايتها. ولكن هذا هو بالضبط ما يجعل التركيبة السكانية الجديدة تقف عقبة لا يمكن تجاوزها للعودة إلى الهيكل السياسي السوري الذي كان سائداً قبل الحرب.
إن سوريا الحديثة التي ظهرت بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية في عشرينات القرن العشرين، إقتُطِعت من سوريا الكبرى وشرق بلاد الشام، واللذين ولد منهما الجمهورية اللبنانية والأردن الحديث. وقد هيمنت المجتمعات السنية الكبرى في سوريا على المراكز الحضرية الكبيرة (وخصوصاً دمشق). وبعض المجتمعات السنّية، التي جعلها موقعها الجغرافي “لبنانية”، كانت تريد إتحاداً مع الجمهورية السورية وعاصمتها دمشق. بالنسبة إليها، كانت سوريا مركز السنّية العربية في بلاد الشام، تماماً بالطريقة نفسها التي إعتُبر فيها جبل لبنان ملاذاً آمناً للموارنة المسيحيين والدروز في المنطقة. ولكن مثل هذا الإتحاد لم يحدث. وقد أدى التوصّل إلى صفقة سياسية في لبنان، وفشل الهاشميين في تأمين وإنشاء مملكة في سوريا، إلى تدعيم وتعزيز التركيبة الإجتماعية للدولة السورية الجديدة.
وسرعان ما غرقت الجمهورية السورية التي أُنشئت حديثاً في فترة طويلة من الإضطرابات السياسية. ومن بين الإنقلابات العسكرية العديدة في سوريا، التي وقعت بين أواخر أربعينات وسبعينات القرن الفائت، لم يتمكن سوى الإنقلاب الذي قاده حافظ الأسد، والد بشار، من تحقيق الإستقرار. بيد أن ثمن السلام كان موت السياسات المُعارِضة. في ظل حكم الرجل الواحد، قام حافظ الأسد بإلغاء وإزالة أي مجموعة من شأنها أن تطعن في سلطته، ولاحقاً، بعدما تحوّل نظامه إلى قضية أُسَرية، حشد الدعم من خلال تشكيل كادر من المُقرّبين، في الغالب من الطائفة العلوية، وحصل على الشرعية من خلال إبرازه وإعتماده واجهة قومية عربية علمانية.
لقد خرّبت حرب السنوات الست الفائتة هذا السراب وأزالته. إن الدعم العسكري الإيراني لدمشق والنفوذ السياسي الذي تتمتع به طهران في سوريا، يجعل من المستحيل على نظام الأسد أن يستنجد بالعروية ويتوسّلها مرة أخرى لترسيخ شرعيته وإخفاء الهيمنة الطائفية الصارخة للأقلية على الغالبية. لقد كشفت الحرب الأهلية الآن كل هذا، تاركةً أهل السنة السوريين من دون أي أوهام حول طبيعة النظام. فالجَزَر والعصي والعنف والقمع الحاد يمكنها أن تجعل النظام يعمل لبعض الوقت. ولكن وضعه غير مُستدام ولن يصمد طويلاً.
كما أن العودة إلى نظام ما قبل العام 2011 ستكون مُكلفة جداً أيضاً. إن نظام الأقلية، إفتراضياً، سوف يركّز القوة الإقتصادية في القمة، الأمر الذي سيؤدي إلى ضعفٍ في إتخاذ القرارات الإقتصادية وتوليد الفساد. وهذا من شأنه أن يستنزف حتماً إقتصاد أي بلد إلّا إذا وهبه الله كمية هائلة من الموارد الطبيعية، وسوريا لم يهبها الله ذلك. وهذا يعني أن دمشق ستعتمد دائماً على دعم القوى الخارجية مثل إيران وروسيا، اللتين تواجهان بدورهما تحديات داخلية ومشاكل إقتصادية، وذلك أساساً بسبب إنخفاض عائدات النفط.
النظر إليها في ضوء ذلك، فإن إستراتيجية نظام الأسد تُصبح أكثر وضوحاً. إن تغيير التركيبة الديموغرافية للبلد من طريق تقليص حجم الغالبية السنّية يبدو وكأنه أفضل فرصة للنظام لخلق الظروف لجعل حكم الأقلية أكثر إستدامة. في الواقع، مع ذلك، إن هذا الأمر يبدو قصير النظر لأنه لن يدوم. بعد كل شيء، فإن نسبة كبيرة من السوريين من مختلف الخلفيات الإجتماعية والإقتصادية تلوم النظام لقتله مئات الآلاف من المواطنين، بالإضافة إلى تهجيره الملايين. هذه المشاعر عميقة وسوف تُغذّي الغضب على نطاق واسع لسنوات مقبلة.
كما أن الهوية السنّية التاريخية لسوريا ستُعيق إستراتيجية الأسد. إن الغالبية السنّية المُتَبقّية لن تقبل أبداً بتعديل السمة الرئيسية التي حدّدت موقع وهوية بلدها في المنطقة. وإذا عاد بعض الملايين من اللاجئين السوريين الموجودين الآن في الأردن ولبنان وتركيا إلى سوريا (سيناريو مُحتمَل، نظراً إلى الظروف الإقتصادية الصعبة التي يواجهونها في هذه البلدان، وأن موجات من اللاجئين في لبنان قد بدأت بالفعل العودة إلى المناطق التي تم التوصل فيها إلى وقفٍ لإطلاق النار)، فإنهم أيضاً لن يقبلوا الهوية غير التاريخية التي يحاول النظام خلقها.
لهذا السبب، لكي تكون محادثات السلام فعّالة وفاعلة، يجب أن ينظر جميع الأطراف بجدية إلى الهندسة الديموغرافية التي تجري في سوريا وتعمل على وقفها. هناك حافزان لروسيا، التي لديها أكبر نفوذ على نظام الأسد، للقيام بذلك. أولاً، إن وقف التغييرات الديموغرافية التي يعتمدها الأسد لن يهدد بالفعل قبضته على السلطة. لقد أدّى التدخل العسكري الروسي في سوريا إلى ضمان بقاء النظام السوري في المديين القصير والمتوسط. ثانياً، تريد موسكو حلاً سياسياً. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يشعر نظام الأسد ببعض الضغوط، وأن يكون لديه حافز للمشاركة الجادة في العملية السياسية. ويُمكن أن يأتي ذلك من وضع إجتماعي لا يميل إلى حد كبير لصالحه.
يجب على اللاعبين الدوليين الآخرين، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، ربط دعمهم للسلام مع وضع حدٍّ للهندسة الديموغرافية التي يحلم بها الأسد. ويأتي نفوذهم من كونهم المُمَوِّلين الرئيسيين المُحتَملين لمعظم جهود إعادة الإعمار والتنمية التي يُتوَقَّع أن تتبع أي وقف دائم لإطلاق النار. وهنا، ينبغي على واشنطن وبروكسل أن توضّحان أن دعمهما — المالي والإستشاري – مشروط.
وبطبيعة الحال، إذا لم يتم التصدي لتحركات الأسد التي تعمل على تغيير سوريا بشكل أساسي، فإن الحرب قد تتوقف في المدى القصير. لكنها لن تكون بشكل دائم. عاجلاً أم آجلاً، فإن عودة النازحين السوريين من الخارج، والرغبة القوية للإنتقام من نظام الأسد، أو الضغوط الداخلية من المجموعات التي تشعر بأن تُراثها فد سُرق، أو أي مزيج من هذه العوامل، سيجدد دورة العنف والصراع التي ستأخذ سوريا إلى حرب مدمّرة أخرى.

• طارق عثمان، باحث مصري، ومؤلف “الإسلاموية ومصر على حافة الهاوية” (Islamism and Egypt on the Brink)، وكاتب ومقدم العديد من المسلسلات الوثائقية على شاشة “بي بي سي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى