حان الوقت لملء الفراغ في ليبيا وإيجاد حلٍّ سياسي لا عسكري وإلّا فعليها السلام

تشهد ليبيا أزمات متعددة الأبعاد، سياسية وإقتصادية وأمنية، وهذه الأزمات لم تشهد أي إنفراجة منذ توقيع إتفاق الصخيرات السياسي في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2015 بين أطراف ليبية عدة برعاية الأمم المتحدة، ودخول المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج إلى طرابلس في أوائل العام 2016. ومع تعيين الوزير اللبناني السابق غسان سلامة أخيراً مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة للجماهيرية السابقة، يامل كثيرون أن تكون هناك فرصة جديدة لإيجاد حل سياسي لا عسكري للأزمة التي طال أمدها.

لقاء المشير خليفة حفتر ورئيس الحكومة الليبية الوفاقية فايز السراج: لقاء أدى إلى إنفراج ولكن…

طرابلس – خالد الديب

منذ سقوط العقيد معمر القذافي في العام 2011، عانت ليبيا سنواتٍ من الحكم غير الفعّال والمُختَلّ. وقد مرّت سلسلة من الحكومات الضعيفة عبر طرابلس في أعقاب الثورة فيما كانت الميليشيات القوية تتنافس للسيطرة على الأرض. وإزدادت حدة الإنهيار في البلاد في العام 2014، عندما أدّت إنتخابات مُتنازَع عليها إلى إستيلاء سياسيين مدعومين من الإسلاميين والميليشيات المتحالفة معهم على السلطة في العاصمة طرابلس، وأجبروا مجلس النواب المُنتَخَب حديثاً على الفرار إلى الشرق وبالتحديد إلى طبرق، حيث تحالف بدوره مع القوى الشرقية المُعادية للإسلاميين. وعلى الرغم من الإتفاق الذي رعته وقادته الأمم المتحدة والذي أدّى إلى تأليف حكومة وفاق وطني في العام 2016، فقد واصلت الفصائل المتنافسة في جميع أنحاء البلاد القتال في ما بينها. ومما لا يثير الدهشة أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) والجماعات الجهادية عادت إلى الظهور مستفيدةً من عدم الإستقرار السياسي في البلاد، مما جعل ليبيا في الواقع ملاذاً آمناً وأرضاً خصبة للمتطرفين.
مع ذلك، هناك بالطبع مجالات شهدت فيها البلاد أخيراً بعض التقدم: كانت هناك زيادة في إنتاج النفط، وإنخفاض في مكاسب بعض الجماعات المُتشدّدة، وإجماع متزايد حول الحاجة إلى مراجعة الإتفاق السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة. ولكن يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بذل المزيد من الجهد للإستفادة من سياسة العصا والجزرة من أجل جلب الأطراف الليبية المتحاربة ومؤيديها الإقليميين إلى طاولة المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة من أجل التوصل إلى إتفاق سياسي دائم. وقد تكون مكافحة الإرهاب الهدف الغربي الرئيسي في ليبيا، لكن نجاح ذلك سيعتمد في نهاية المطاف على إستقرار البلد.

خطر عدم الإستقرار

من خلال الإستفادة من المناطق المُوالية تقليدياً للقذافي التي كانت مُهمَّشة بعد الثورة، إستطاع تنظيم “داعش” الحصول على موطئ قدم في سرت في أوائل العام 2015. وعلى الرغم من أن قوات الميليشيا المحلية الموالية لحكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الولايات المتحدة، نجحت في تطهير سرت من عناصر “داعش” في كانون الأول (ديسمبر) 2016 ، فإن الهجوم الإرهابي الأخير في مدينة مانشستر البريطانية الذي قام به إنتحاري ليبي الأصل، أظهر بشكل واضح أن الصراع في ليبيا المستمر سياسياً وعسكرياً، إلى جانب ضعف الإدارة المستمر، جعلا البلاد عرضةً لتوسّع تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي المدى القصير، سوف يستمر المتشدّدون بشكل سري في بناء الدعم داخل ليبيا في الوقت الذي يشنون هجمات في الغرب.
وقد حذّر قائد القيادة المركزية الأميركية في إفريقيا “أفريكوم”، الجنرال توماس والدوزر، بأن “عدم الإستقرار في ليبيا وشمال إفريقيا قد يكون الخطر الأكثر أهمية في المدى القريب على مصالح الولايات المتحدة والحلفاء في القارة”. وفي مواجهة هذا التهديد، فإنه سيكون من غير الحكمة أن يُنظَر إلى عدم الإستقرار في ليبيا فقط من خلال عدسة مكافحة الإرهاب. إن مثل هذا الرأي يحجب النبع الحقيقي لمشاكل ليبيا: فراغ الحكم فيها الذي تدهور وساء في السنوات الأخيرة.
أدّى تفكك البلد السياسي إلى تفاقم إنعدام القانون على الأرض. وفي غرب ليبيا، تقوم ميليشيات مختلفة بالحفاظ على الأمن في بلديات متعددة، وحروب العشائر بالتالي تُعتَبر أمراً شائعاً، لأنها تتنافس على الهيمنة على شبكات تهريب البشر والوقود المربحة. من جهتها تسيطر حكومة الوفاق الوطني بالكاد على العاصمة طرابلس، من خلال الميليشيات التي هي تحت سيطرتها فقط إسمياً. وعلى الرغم من أن حكومة الوفاق الوطني نجحت أخيراً في دفع بقايا الحكومة – التي تضم بقايا البرلمان الذي يسيطر عليه الإسلاميون والذي إنتُخِب في العام 2012 – إلى خارج العاصمة، وهو أمرٌ كان مُنتظراً منذ فترة طويلة، فإن هذه الفصائل المتنافسة لا تزال تُثبت بأنها تمثّل تهديداً لطرابلس. وفي الوقت نفسه، فإن المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي – الذي يضم إلى حد كبير إئتلافاً من الميليشيات الشرقية المُناهضة للإسلاميين – يتوافق مع مجلس النواب في الجزء الشرقي من البلاد الذي يرفض الإعتراف بحكومة الوفاق الوطني.
وقد شنّ الجيش الوطني الليبي معركة ضد الجماعات الإسلامية في بنغازي، وحاصر جماعات أخرى من الإسلاميين في درنة، وإستولى أخيراً على أراضٍ كبيرة في وسط البلاد بالقرب من حقول النفط في ليبيا. وزاد الوضع تعقيداً مع الدعم بالوكالة المٌقدَّم من جانب مختلف الميليشيات. وعلى الرغم من أن اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، مصر والإمارات العربية المتحدة، تؤيدان حكومة الوفاق الوطني كلامياً، فقد وفّرتا دعماً لوجستياً وعسكرياً كبيراً لحفتر وقواته، مما عزز موقفه كمُفسد للسلام. وتتفاقم هذه الفوضى بسبب الأزمة الإقتصادية الليبية: فقد أدى التفاوت الكبير بين أسعار الصرف الرسمية والسوق السوداء ونقص السيولة بالدينار الليبي إلى إقتصاد غير مستقر للغاية، وهو بالكاد يدعمه إنتاج النفط غير المنتظم.
وعلى الرغم من الإهمال والكآبة، فقد شهدت ليبيا العديد من التطورات الإيجابية المُحتمَلة في الأشهر الأخيرة. في أوائل أيار (مايو) 2017، قام داعمو حفتر في القاهرة وأبو ظبي بإحضار وجمع الجنرال الشرقي القوي ورئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج معاً للمرة الأولى منذ أكثر من عام. وعلى الرغم من عدم التوصل إلى إتفاق رسمي بينهما، فإن الإجتماع — الذي أعرب خلاله حفتر عن إستعداده للمشاركة في الإنتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في العام 2018 — يعكس إجماعاً مُتزايداً على أن الصراع في ليبيا يتطلب حلاً سياسياً وليس عسكرياً. وقد إعترف بعض القوى الموالية لحكومة الوفاق الوطني في مصراتة، التي كانت تُعارض بشدة أي مشاركة مع خفتر، بأن هذا الأخير سيؤدي حتماً دوراً، وإن لم يكن محدداً، في حكومة ليبية مستقبلية. وبالإضافة إلى ذلك، وافق لواء الدفاع في بنغازي، وهو يضم جماعة متشددة عملت مع القوات المدعومة من حكومة الوفاق الوطني ضد حفتر، على وقف التجنيد وتسريح قواته وحلّها والإنضمام إلى قوات مسلحة شرعية في حزيران (يونيو) الفائت. وفي الوقت نفسه، عزّزت القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني سلطتها في طرابلس من خلال إخراجها للقوات المعادية لهذه الحكومة من المدينة.
بالإضافة إلى هذه التحسينات الأمنية والسياسية، فقد شهد إنتاج النفط في البلاد إرتفاعاً في وقت متأخر. وقد تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط، التي يقودها التكنوقراطي مصطفى صنع الله، من تجنّب الإنغماس في الخلاف السياسي في البلاد، والتفاوض على إتفاقات مع الجهات الفاعلة المحلية والدولية لإعادة فتح حقول النفط وتسوية النزاعات التجارية الدولية. وعلى الرغم من التحديات التقنية المستمرة، فقد بلغ إنتاج النفط الليبي أخيراً مليون برميل يومياً، وهو إنقلاب كبير لمؤسسة النفط الوطنية، ودلالة على أن إنتاج النفط في البلاد يمكن أن يعود إلى مستويات ما قبل الثورة.

الحاجة إلى دعم الغرب

إن الفرصة المُتاحة للغرب للإستفادة من هذه التطورات الإيجابية تقفل أبوابها بسرعة. إن الخلافات الخارجية، مثل الخلاف الديبلوماسي المستمر في الخليج العربي بين قطر والكتلة الخليجية – العربية التي تقودها السعودية، يُمكن أن تحدّ من التقدّم وتُعثّر المفاوضات. وتؤيد قطر والكتلة التي تقودها السعودية أطرافاً مُتنافسين في ليبيا. وعقب قرار الكتلة السعودية – الإماراتية – المصرية قطع العلاقات مع قطر، حذا مجلس النواب في طبرق الذي يتهم الدوحة بتمويل الاسلاميين المتطرفين فى ليبيا، حذو الكتلة على الفور. داعمو حفتر والحكومة الشرقية، وبالتحديد الإمارات ومصر، قد تشجعان على مواجهة المصالح القطرية المتصوَّرة في ليبيا من خلال زيادة الدعم لحفتر. واشار الجيش الوطني الليبي الى أنه قد يتجرّأ على الإنسحاب من المصالحة نظراً إلى المواجهة بين داعميه وقطر، التي إتهمتها الكتلة السعودية – الإماراتية – المصرية بمساعدة الإرهابيين فى الجماهيرية السابقة. وفي هذا الصدد، قد تميل قوات حفتر إلى مهاجمة غرب ليبيا في محاولة لإضعاف حكومة الوفاق الوطني، كما أن الرد العسكري من كل الجماعات المتشددة المناهضة لحفتر والميليشيات الموالية لحكومة الوفاق الوطني يُمكن أن يُشعل حرباً أهلية واسعة النطاق.
أما بالنسبة إلى النفط، فإن زيادة الإيرادات من إرتفاع الإنتاج يمكن إما أن تكون نعمة عظيمة للبلد أو تؤدي إلى مزيد من المنافسة وعدم الإستقرار. وحتى لو تمكّنت ليبيا من مواصلة مستواها الحالي من الناتج – وهو إحتمال غير مؤكد في أفضل الأحوال – فإن البلد سيواجه تحديات إقتصادية خطيرة، بما في ذلك نضوب الإحتياطات الأجنبية، والإفتقار إلى الهياكل الأساسية الإقتصادية والمالية الأساسية، وسوق سوداء كبيرة. وأظهر إنقطاع التيار الكهربائي الكبير هذا الشهر (تموز/ يوليو) العواقب الخطيرة للبنية التحتية الضعيفة في البلاد.
لقد حان الأوان للغرب لكي يتصرف ويضطلع بدور قيادي في دفع المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة بشأن ليبيا إلى الأمام بدلاً من التعامل بشكل مُجزّأ مع التهديدات الأمنية مثل الإرهاب والتطرف والتهريب والهجرة. ولا يمكن المحافظة على “عدم الاستقرار المستقر” الحالي في ليبيا، لا سيما في ضوء التوترات الإقليمية المتزايدة. ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الإستفادة من تعيين المبعوث الخاص للأمم المتحدة غسان سلامة أخيراً لإضفاء الإحساس بالإلحاح على المفاوضات المتوقفة. يجب أن يكون هناك حل سياسي لتحقيق الإستقرار في البلاد، والتي إذا تُرِكَت في حالتها الحالية فسوف يؤدي الوضع إلى إستمرار نمو “داعش”، ولا محالة، إلى المزيد من الهجمات الإرهابية في الغرب. إن موازنة إدارة دونالد ترامب المُقتَرحة لعام 2018 لوزارة الخارجية الأميركية تعكس إعطاء الأولوية للأمن على الديبلوماسية. إنه بكل تأكيد نهج خاطئ؛ إن تركيز ترامب الضيّق على هزيمة تنظيم “داعش” لن يكون فعّالاً في معالجة عدم الإستقرار الكامن الذي يُغذّي الجماعات الإرهابية في ليبيا وأماكن أخرى. يجب أن تفهم إدارة ترامب أن الإستقرار في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه من خلال عمليات مكافحة الإرهاب والقوة العسكرية وحدهما. وفي غياب الحل السياسي للأزمة في ليبيا، ستبقى البلاد بؤرة للمتطرفين المناهضين للغرب، ومصدراً إقليمياً لعدم الإستقرار، ودولة فاشلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى