نبيل المقدم ينبش أسرار الحرب اللبنانية من أفواه وجوهها

على مدى 590 صفحة حاول الصحافي اللبناني نبيل المقدم نبش أسرار الحرب اللبنانية في كتاب “وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية” من خلال المشاركين فيها أو المطلعين عليها أو متتبعيها، فنجح حيث فشل كثيرون، وصار هذا الكتاب، الذي سيكون له جزء ثان قريباً، وثيقة للباحثين عن الحقيقة لأسباب تلك الحرب التي تنوّعت أسماؤها وأهدافها.

بقلم الياس فرحات*

الحربُ اللبنانية إنتهت. لم تنتهِ بعد. ربما إنتهت. هي حربٌ غريبة يصعب تحديدها. هي حربٌ أهلية، وهي حربُ الآخرين على ارض لبنان. هي حربٌ طائفية، سياسية، طبقية، مناطقية… لبنانية – إسرائيلية، لبنانية – فلسطينية، لبنانية – سورية … أوصافٌ كثيرة، صحيحة في جانب ومخطئة في جوانب. الجيش، الأحزاب، الطوائف، الميليشيات، مُفرَدات الأزمة التي ضَرَبت لبنان لا تزال بأشكال مختلفة. ربما قدرُ هذا البلد الصغير أن يكون مُختَبراً للأزمات وساحة تصفية للحسابات.
سبقت إنشاء لبنان الكبير بحدوده الحالية مفاوضات في مؤتمر الصلح في باريس في العام 1919 تمحوَرت حول تقسيم سوريا بإعتبار أنها كانت من نصيب الإنتداب الفرنسي. تمّ إقتراح إقامة وطن للمسيحيين بقيادة الموارنة يشمل متصرفية جبل لبنان ومدينة بيروت في ولاية بيروت التي كانت تضم بيروت وطرابلس واللاذقية وصيدا.في بعض المصادر أن المسيحيين رفضوا هذه المساحة وطالبوا بضم البقاع وعكار وجبل عامل، والسبب ان أهالي جبل لبنان مات 15% منهم من المجاعة في العام 1916 فيما كان أهل البقاع يطحنون القمح وأهالي عكار يأكلون الخضار. إحتجت الأقضية الاربعة (حاصبيا، البقاع الغربي، بعلبك، راشيا) وطرابلس ورفضت الدخول في لبنان الكبير ثم أذعنت بعد فترة.
هكذا لضمان القمح والخضار إبتُدِعَت حدود سياسية لهذا الوطن وضعته في فالق زلزالي.
نحو ثلاثين عاماً من السلم الفرنسي مكّنت من بناء مؤسسات، لكنها لم تَبنِ وطنية لبنانية. بقيت الطوائف حذرة من بعضها البعض. رحل الفرنسيون ولم يحضر اللبنانيون. دستورٌ صارمٌ وميثاقٌ وطني غير مكتوب. نستعين بالميثاق لتطبيق الدستور وبالدستور لتبرير الميثاق. عند أول هزّة خارجية في العام 1956 إنقسم اللبنانيون، وعندما إشتدّت في العام 1958 تقاتلوا ثم توصّلوا الى لا غالب ولا مغلوب.
إنفجرت في العام 1975 وعجزت قدرات الدولة والشعب على تطويق الأزمة وإنهائها فإنفَلَت العقال.
عشرات الكتب لمؤلفين عرب وأجانب نُشرت، من بينها مذكرات شخصية بالإضافة الى العديد من الإفلام والمسلسلات الوثائقية عن حرب لبنان. كلها لم تُقنِع نبيل المقدم فإنبرى الى الشخصيات الوجوه وإستخرج منها أسرار الحرب اللبنانية فكان كتابُ “وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية”.
سوف أُعلّق على ما ورد عن الجيش تاركاً لكُتّابٍ آخرين التحدث عن السياسة.
هناك سر غريب في الجيش اللبناني إسمه المناقبية العسكرية. يجتمع في الجيش رجالٌ من كل الطوائف والمناطق ويكوّنون وحدات متراصّة. تقودهم سياسة الدولة. كلّما إتّسع الخلاف السياسي بين مكوِّنات الوطن صعب على الجيش تنفيذ مهماته.
في العام 1958 حصل تمرّد محدود على القيادة غطّى عليه تمرّد القيادة السياسي على رئيس الجمهورية فأنقذ لبنان. في العام 1976 حصل تمرّد واسع النطاق تطلّب تدخّلات عربية ودولية أعادت اللحمة الى الجيش. في العام 1984 حصل تمرد مُنَظّم ومدروس وهادف سياسياً أسهم في تعديل قانون الدفاع. في العام 1988 حصل طلاق بدرجة الهجرة والإلتحاق بالحكومتين حتى عندما توحّدت الحكومتان توحّد الجيش. وفي كل مرة كان الضباط والعسكريون يسارعون الى التوحّد ويدهشون العالم بمناقبيتهم.
من أسرار الكتاب ما يثير الدهشة، ومنها ما يصدم. أميركيون يقودون عمليات سياسية وعسكرية، ويتدخّلون في التعيينات العسكرية، وإسرائيليون يدلون بدلوهم، وسوريون يتدخلون بدورهم، وطوائف تنتفض لحقوقها ومصالحها، أين الوطن؟ لا جواب.
علينا أن نعترف وعلى ضوء الأسرار الرهيبة، لا سيما التي أوردها الراحل العماد إبراهيم طنوس في كتاب نبيل المقدم باننا لم نصل الى الحكمة السياسية التي تُجنِّب البلاد حروباً داخلية، وخصوصاً خلافاته مع الرئيس أمين الجميل التي لأول مرة يكشف النقاب عنها، وإتصالاته بالمسؤولين السوريين الذين حذّرهم من كمين أعدّه لهم كمال جنبلاط في صوفر تحت اوراق الحور، كما وضع السوريون قواتاً تحت تصرفه عندما كان برتبة مُقدّم في إحدى المرات في العام 1976.
لا يُمكن لأحد أن يقود الجيش لحفظ الأمن ووقف النزاعات الداخلية من دون أن يتسلّح بالتوافق السياسي، وإلّا سوف يكون مصيره الفشل ودمار البلاد.
بين قيادة الجيش والقيادة السياسية يقع التفاهم الوطني، وبين قيادة الجيش والوحدات العسكرية يقع الإنضباط العسكري. لا يُمكن إستعمال الإنضباط العسكري لتنفيذ إجراءات لا تحوز على التوافق الوطني. هذا ما توصّلنا إليه بعد حروب وإنشقاقات عسكرية أدمَت البلاد.
يشدد اللواء لطفي جابر على أن إعادة العمل بالمجلس العسكري كانت خطوة في الإتجاه الصحيح لضمان حسن أداء المؤسسة العسكرية وتوازنها.
بعد قصف الضاحية الجنوبية وحرب الجبل ومأساة التهجير والتدمير كان لا بدّ من وضع إطار سياسي توافقي يحمي الجيش فكانت إعادة العمل بقانون الدفاع الوطني، وإنشاء المجلس الأعلى للدفاع والمجلس العسكري بعدما ألغتهما حكومة الرئيس الراحل شفيق الوزان في عهد الرئيس أمين الجميل، ووُضِعت الصلاحية عند قائد الجيش والقائد الأعلى رئيس الجمهورية.
تَقرأ شهادات الشخصيات العسكرية فتظن ان الجيش هو أداة بيد الرئيس والقائد. قد يصح ذلك في بلدان عديدة إنما في لبنان فانه لا يصحّ، والتجارب أثبتت خطره على وحدة البلاد وإستقرارها. إنطلاقاً من الديموقراطية التوافقية المثبتة في دستور الطائف أضحى التوافق سيد المسافة بين قيادة الجيش والقيادة السياسية. جرّبنا التفرّد فكانت أحداث 6 شباط (فبراير) وجرّبنا التوافق فكانت أحداث 14 شباط (فبراير و8 و14 آذار (مارس) وهي أقوى من سابقاتها وبقي الجيش وبقيت الدولة وبقي الوطن. نحن نعيش قدراً من التوافق غير كافٍ، لكنه ما زال يحمي البلاد من التفكك والإنهيار. جيشنا مُحصَّن بمبادىء عمل ثلاثة تعتمدها القيادات المعنية:
* توافر الغطاء السياسي للجيش في أية عملية عسكرية أو أمنية؛
* توازن قرارات القيادة العسكرية والأمنية؛
* دمج العسكريين بحيث تصبح اي وحدة في الجيش تُمثّل لبنان بكامل مكوّناته.
أما ملاحظتي كقارىء، على أصحاب الشهادات الذين أكنّ لهم إحتراماً كبيراً فإن رؤية كل منهم تنحصر في شعاع شخصي يضيق حينا ليظهر جانباً ضيقاً من الحقيقة، ويتّسع أحياناً ليفسح المجال لرؤية جوانب أخرى من المسألة المطروحة.
بمعنى آخر أحياناً تظهر أبعاد شخصية، وأحياناً أخرى تظهر أبعاد إقليمية ودولية.
في سرد الوقائع العسكرية، نرى الواقعة بشكلٍ في شهادة وبشكل معاكس في شهادةٍ أخرى في الكتاب. الجيش هاجم، “القوات اللبنانية” هاجمت، حركة “أمل” هاجمت، الإشتراكيون هاجموا، السوريون هاجموا، الفلسطينيون هاجموا. الكل مُدافِع، والكل يسعى الى مصلحة الوطن، والكل لا يريد التصعيد.
اذا كان بعض الكتب يشكل سردية للحرب اللبنانية، فإن هذا الكتاب يطرح في كل شهادة إشكالية ونقاش. يمكن من الشهادات المذكورة في الكتاب إكتساب خبرات مهمة حول ما جرى في الحرب اللبنانية، وتعلم كيفية إتخاذ القرارت وكيفية تنفيذها.
لا يسعني أن أقول إلّا شكراً لنبيل المقدم على عمله الجبار، وهنا أكشف سراً هو إني كنت بدأت شخصياً بمثل ما بدأه نبيل وحصلت على شهادات كثيرة ومهمة لكني أُصبت بإحباط وحرت في ما إذا كنت اقوم بعمل ينعكس شراً او ينعكس خيراً، فتجمدت إرادتي وإنصرفت الى أمور أخرى. ومن هنا أقدّر صلابة نبيل في إعداد الكتاب، وأدعوه الى إكماله في مزيد من الشهادات التي تبقي مُستنداً محفوظاً نعود إليه لدراسة أزمات بلادنا.

• الياس فرحات عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث في الشؤون الإستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى