الخِياراتُ الأميركيّةُ المحدودةُ والساحةُ السوريّةُ المفتوحة

بقلم سجعان قزي*

منذ تولّى دونالد ترامب الرئاسة، زادت الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ عمليّاتِها العسكريّةَ في سوريا من دون أن تُـغيّرَ سياستَها حيالَ جوهرِ الصِراع. ومع أنَّ تكرارَ هذه العمليّاتِ يؤدّي إلى إنزلاقٍ أميركيٍّ تدريجيّ في المِنطقة، فهو حتى الآن لا يزال ضِمنَ خطوطٍ حمراءَ وَضعَتها إدارةُ أوباما: القضاءُ على “داعش”، ومنعُ نظامِ الأسد من إستعمالِ السّلاحِ الكيماويّ. أما القضايا الأساسيّةُ، فلم تُعلن إدارةُ ترامب مواقفَ جديدةً منها ما خلا رفعَ اللهجةِ ضِدَّ إيران و”حزبِ الله”. ويبقى القصفُ الإنتقائيُّ من حينٍ إلى آخَر من دونِ فائدةٍ لأنّه لم يُـغـيّر في موازينِ القوى على الأرض، ولم يَندرِج ضِمنَ إستراتيجيّةٍ أميركيّةٍ جديدةٍ تُجيب فيها واشنطن عن الأسئلةِ المصيريّةِ التالية:
• ما هو موقِفُها الفعليُّ من إعادةِ توحيدِ أو تقسيمِ الدولةِ السوريّة؟ وبالتالي، ما هو موقفُها من مصيرِ النظامِ السوريّ والرئيسِ بشّار الأسد ومن عودةِ النازحين السوريّين إلى بلادِهم؟
• ما هو موقِفُها الفعليُّ من دورِ روسيا المتنامي في سوريا والمِنطقة؟ وبالتالي، هل ستواجِهُها أم ستَتقاسَمُ وإيّاها النفوذَ بين الخليجِ والمشرِق في إطارِ تفاهمِ جون كيري ـــ سيرغي لافروف (المُفترَض) على حسابِ الدورِ الإيرانيِّ في العِراق واليمن وسوريا ولبنان؟
• ما هو موقِفُها الفعليُّ من التمدُّدِ الإيرانيِّ في سوريا؟ وبالتالي، هل تريد إنهاءَ الهلالِ الشيعيِّ أم تُفضِّل أن يَتنافسَ مع هلالٍ سُـــنّي آخَر فتستغلُّ الإثنينِ لتزيدَ محصولَها من طاقاتِ دولِ المِنطقة؟
• ما هو موقِفُها الفعليُّ من مشروعِ الدولةِ الكرديّةِ في شمالِ شرقِ سوريا؟ وبالتالي، هل تؤيّدُ الإتّحادَ بين أكرادِ سوريا والعراق وتركيا، ما يهدّدُ الحدودَ الدوليّةَ للدولِ الثلاثِ وغيرِها لاحِقاً؟
• ما هو موقِفُها من “حزبِ الله” وجيشِه في لبنانَ وسوريا؟ وبالتالي، هل ستتركُ لبنانَ في المِحورِ الإيرانيِّ / السوريِّ في إطارِ القرارِ 1701، أم تُزمِعُ تغييرَ هذا الواقِع؟
ليست واشنطن على عجلةٍ من الجواب والخلافُ مُستفحِلٌ حولَ سوريا والخليجِ بين البيتِ الأبيض من جهةٍ ووزارتَي الخارجيّةِ والدفاعِ من جهةٍ أخرى. ورُغم تَحصيلِها نحوَ 480 مليارَ دولارٍ من السعوديّة في 21 حزيران (يونيو) الماضي، لا تزال واشنطن توزّع مواقفَها على الجميع وكأنّها لا تريد أن تَخسَرَ أحداً بمن فيهم الأخصام: لا النظامَ السوريَّ ولا المعارَضةَ، لا إيرانَ ولا السعوديّة، لا قطرَ ولا السعوديّة، لا تركيا ولا الأكراد، لا إسرائيلَ ولا العربَ، لا روسيا ولا حلفَ شمالِ الأطلسيّ، وذلك بإنتظارِ دُفعةٍ صراعاتٍ جديدةٍ. فإذا كانت الحربُ في سوريا دَخلَت مرحلةَ الخِيارات، فالشرقُ الأوسط والخليجُ أمام سنوات من الإضطرابِات القاتلة (ماتت الحربُ عاشت الحربُ).
غير أنَّ ترامب سيكون مُضْطرًّا إلى إتخاذِ مواقفَ جديدةٍ، ولو بالتقسيط، لسببين على الأقلّ: وجودُ أطرافٍ على الساحةِ السوريّةِ هم ضِمنَ أولويّاتِه الدوليّةِ (روسيا، إيران، الإرهابُ، الطاقةُ، اللاجئون) ولأنّ التطوّراتِ العسكريّةَ الحاليّةَ في سوريا بَلغت مرحلةً إستراتيجيّةً مرتبطةً بالأسئلةِ أعلاه. لم يَحصُل أن تجمَّعَ في حربٍ واحدةٍ وفي زمنٍ واحدٍ هذا العددُ من الأطرافِ المتقاتِلةِ، ولم يَحصُل أن كانت مجموعةُ قضايا إستراتيجيّةٍ قيدَ تقريرِ المصيرِ في ساحةٍ واحدةٍ وزمنٍ واحدٍ مثلما هي الحالُ الآنَ في شمالِ شرقِ وجنوبِ شرقِ سوريا. فبموازاةِ المعركةِ ضِدَّ “داعش”، اي ضِدَّ الإرهاب، تدور معاركُ أخرى وتَبرز رِهاناتٌ كبرى.
على طولِ وعرضِ المِنطقةِ الممتدّةِ من الرَقّةِ عبرَ وادي نهرِ الفُرات إلى الحدودِ السوريّةِ مع العراق والأردن مروراً بالباديةِ السوريّة، يَتصارع الأميركيّون والروسُ والإيرانيّون والأتراكُ والأكرادُ والسنّــةُ والخليجيّون و”حزبُ الله” والجيشُ السوريُّ وقوّاتُ المعارَضةِ العسكريّةِ والتنظيماتُ الإرهابيّةُ، إلخ. مِن هناك سيتقرّرُ مستقبلُ الحدودِ والأنظمةِ والأكثريّاتِ والأقليّاتِ الطائفيّةِ وأدوارِ القِوى الإقليميّةِ والدوليّة. ومِن هناك ستُحسَم التساؤلاتُ التي كانت مَدارَ تخمينٍ منذ سنةِ 2011 حيالَ تقسيمِ المنطقةِ أو بقاءِ دولِها موحَّدةً. ومِن هناك سيُعرَفُ مستقبلُ الهلالِ الشيعيِّ حيث لا يُعارضُ الروسُ محاولةَ أميركا إغلاقَ خطِّ العبورِ البَريِّ على الحدودِ العراقيّةِ / السوريّة.
ترفضُ واشنطن أن تحتلَّ إيرانُ (و”حزبُ الله”) المناطقَ السوريّةَ والعراقيّةَ التي سيندَحِرُ منها تنظيم “داعش”، وتفضِّلُ أن تسيطرَ قِوى سنّيةٌ عليها وهي مليئةٌ بحقولِ النفط، مقابلَ سيطرةِ النظامِ على الداخلِ والساحِل (غربَ البلاد) والأكرادِ على الشريطِ الحدوديِّ شمالَ الفُرات وعدمِ المسِّ بالمِنطقةِ الدُرزيّةِ المحاذيةِ للجولان. لا يبدو هذا السيناريو الأميركيُّ مُيسَّراً سلميًّا لأنّ إيران مصمِّمةٌ على إعتمادِ أشكالٍ قتاليّةٍ تصعيديّةٍ للاحتفاظِ بمكتسباتٍ جغرافيّةٍ توسّع سيطرةَ النظامِ وتُـعزّز الهلالَ الشيعيَّ من جهةٍ، وتقوّي موقِعَها التفاوضيَّ مع الولاياتِ المتّحدةِ والسعوديّةِ وتركيا من جهةٍ أخرى. وتراهِنُ إيران على خَشيةِ الإدارةِ الأميركيّةِ أنْ تتورَّطَ في مغامرةٍ عسكريّةٍ داخلَ الأراضي السوريّة.
ترتكزُ إيران في تفاؤلِها على تجاربِها السابقةِ مع إداراتِ كلينتون وبوش وأوباما، وعلى ثقتِها بأن سياسةَ أميركا في سوريا تَقتصرُ حاليًّا على دعمِ القِوى السُنّيةِ والأكراد من أجلِ دحرِ “داعش”، ودَفعِ بشّارِ الأسد إلى التفاوضِ وتقديمِ تنازلات. لكنْ، هل يَتنازلُ النظامُ السوريُّ اليومَ ووضعُه جيدٌّ، ولَم يَفعلْ حين كان في ضِيقةٍ عسكريّةٍ وسياسيّة؟ وهل تَتراجعُ إيرانُ والاتّفاقُ النوويُّ مُوقَّعٌ والعقوباتُ مرفوعةٌ، ولَم تَفعلْ حين كانت محاصَرةً؟ وهل تَنكفِئُ روسيا وقوّاتُها وقواعدُها في سوريا، ولَم تفعلْ حين كانت غائبةً ومتهاوية؟
لذلك، تبدو الولاياتُ المتّحدةُ أمامَ خِيارين: تخفيفُ التصعيدِ السياسيِّ والإعلاميِّ أو تحويلُه عملاً عسكريّاً يُغيِّر المعادلات. حتّى الآن، نرى تردُّداً أميركيّاً وشراسةً سوريّةً وإيرانيّةً وروسيّة. لكنَّ ترامب رجلُ المفاجآتِ “المحسوبة”.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى