بعد الرقة: التحدّيات التي تشكّلها شبكات القبائل والعشائر السورية

بعد أربعة أشهر على بداية الأزمة السورية أطلق البعض على وسائل التواصل الاجتماعي تسمية “جمعة العشائر”، محاولين إستنفار القبائل والعشائر ضمن حملة سياسية إنتهت بمؤتمرات متعددة لها حيث تكوّن بنتيجتها “مجلس العشائر السورية” المعارض، وذلك في مقابل تكتلات عشائرية أخرى ظهرت في حمص وحلب كانت محسوبة كقوى موالية للنظام السوري. والآن بعد أكثر من ست سنوات على الحرب الأهلية السورية، أين تقف هذه العشائر والقبائل، وما هو دورها في تشكيل نظام سوريا المقبل في مواجهة القوى المحلية والخارجية الكثيرة خصوصاً بعد تحرير الرقة من “داعش”؟

جيش الصناديد الشمّري: إنضم إليه عرب كثيرون.
اسةة

دمشق – محمد الحلبي

فيما تقترب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) من الضواحي الشمالية في الرقة، فإن النقاش السياسي، الذي يدور منذ فترة حول مدى صوابية إستخدام ميليشيات تهيمن عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية كشريك رئيسي للولايات المتحدة، وصل إلى درجة عالية من الحرارة. وقد وُجِّهت تحذيرات شديدة بالنسبة إلى المخاطر التي تهدّد الإستقرار في شرق سوريا في المستقبل، والتي قد تنجم من الإعتماد على قوة يقودها أكراد تربطهم علاقات مع حزب العمال الكردستاني، لإقتحام المدينة، وربما حتى حكمها بمجرد أن يتم السيطرة عليها.
إن النبرة المريرة المتزايدة للنقاش هي فقط إنعكاس للديناميات الإجتماعية والثقافية المُعقّدة لمختلف سكان شمال وشرق سوريا. وهي في المقام الأول نتيجة للصراع المُستعصي الدائر إلى شمال الحدود السورية، في المقاطعات التركية المضطربة في جنوب شرق البلاد والتي تقطنها غالبية ساحقة من الأكراد. لقد أدّى فشل تركيا في إنشاء قوة متمرّدة قابلة لتنفيذ عملية الرقة إلى تعميق مشاركة الولايات المتحدة مع “وحدات حماية الشعب”، مما زاد مخاوف أنقرة من أن يصبح شمال بلاد الشام مركزاً للتدريب والإمداد ل”حزب العمال الكردستاني”.
في بحثها عن حل محلّي لمشكلة شمال شرق سوريا، وجدت الولايات المتحدة نفسها على نحو متزايد رهينة لديناميات خارج سيطرتها، مع تزايد خطر إجتذاب أو جذب القوات الأميركية إلى صراع لا يُمكنها أن تديره على نحو كاف. في محاولةٍ لهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” وإقامة حكم مستقر في ما أصبح بسرعة تحمل مسؤولية إقليم غير رسمية، فإنه سيكون على واشنطن إدارة توقّعات كلٍّ من حلفائها الأكراد والأتراك، وكذلك وكلائها من القوات العربية.

توسيع الثنائية العربية – الكردية

ولأسباب سياسية في المقام الأول – على حد سواء محلياً في ضمان إمتثال السكان العرب وإقليمياً في تهدئة مخاوف تركيا من الهيمنة الكردية – فقد ركّزت “قوات سوريا الديموقراطية” بشكل كبير على وضع وجه عربي لعملية الرقة، حيث قامت بتجنيد مقاتلين عرب بأعداد كبيرة أكثر من أي وقت مضى.
إنضم بعض العرب إلى ميليشيات عربية بحتة، مثل مجلس منبج العسكري أو جماعة شمّر القبلية “جيش الصناديد”. ومع ذلك، فقد إنضم آخرون بشكل متزايد إلى صفوف “وحدات حماية الشعب” وقوات الأمن “الأسايش” الكردية. ولكن التوازن العرقي الدقيق بين الأكراد والعرب داخل “قوات سوريا الديموقراطية”، على الرغم من أهميته السياسية والتكتيكية، فإنه لا يزال غير معروف بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين، مع إختلاف التقديرات التي أُعطيت حتى من قبل التحالف.
لقد أصبح من البديهي بين مؤيدي المتمردين السوريين أن القوات التي تتكوّن من غالبية عربية هي التي يمكنها أن تأمل أن تأخذ وتقتحم الرقة وتسيطر عليها. ولكن ليس هناك دليل يُذكر على هذا الموقف. إن إدعاءات متطابقة أُطلقت حول قدرة “وحدات حماية الشعب” على الإستيلاء على مدينتي تل أبيض ومنبج. ومع ذلك، في السنوات والأشهر منذ أخذ المدينتبن من “داعش”، لم تكن هناك أي مقاومة عسكرية أو وجود سياسي لحزب الإتحاد الديموقراطي الكردي في الحكم.
بدلاً من ذلك، قام حزب الإتحاد الدیموقراطي الکردي بتحویل الحکم إلی المجالس المدنیة المؤلفة من أعضاء عرب، كما أخذ التجنید في میلیشیات قوات سوريا الديموقراطية التي غالبيتها من العرب يزيد بمعدل ثابت. ومن المعقول أن نعتبر بأن التركيز المُفرِط على الصراع العرقي بين الأكراد والعرب في شمال شرق سوريا، الذي تُغذّيه التغطية التبسيطية أو البسيطة في كثير من الأحيان، التي تُقلّل من تعقيدات المنطقة بالنسبة إلى العداء الثنائي الكردي – العربي، هو جهد مدهش لمنع توسع حزب الإتحاد الديموقراطي بقدر ما هو مرتكز على أساس إهتمام حقيقي بالاستقرار المحلي، أو في الواقع بأي تقدير للحقائق المحلية.
ومع إنتقال قوات سوريا الديموقراطية جنوبا ًإلى قلب المعاقل القبلية العربية فى الرقة ودير الزور، فإن القوات الأميركية المُصاحِبة لها والتي تدعمها تنتقل إلى مناطق مجهولة حيث كُلِّفت بمهمة ضمان تهدئة وإمتثال السكان العرب القبليين الذين لا يُعرَف ولاؤهم ولا تطلعاتهم السياسية تماماً. وفي المناقشة السياسية التي أعقبت ذلك، تم التعامل مع القبائل العربية في شمال وشرقي سوريا بمثابة أوراق فارغة التي تمّ على أساسها توقّع رغبات الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية. إن ما يريدونه هم لا يزال مجهولاً إلى حد كبير.

الولاء للنظام

لم تُدرَس قبائل شمال وشرق سوريا إلا قليلاً قبل الحرب، ولم يتمكن الباحثون المُحايدون من الوصول إليها بعد. وقد شدّت إنتباه العالم فقط كأدوات دعائية عندما كانت تمنح الولاء للنظام السوري أو “داعش” أو “حزب الإتحاد الديموقراطي”، وذلك كما تحدّد تغيّرات الخطوط الأمامية. ومن غير الواضح إلى أي مدى أدّت مصاعب الحرب إلى إحياء روابط الدفاع المُتبادَل بين رجال القبائل التي تقترحها النظرية التقسيمية؛ أو ما إذا كانت المجموعة المتزايدة بإستمرار من الرعاة الخارجيين شجّعت على زيادة الإنقسام داخل الوحدات القبلية، فيما القادة المتنافسون يتصارعون على الهيمنة والسيادة؛ أو أن الشباب يتجاهلون الولاءات القبلية القديمة لروابط الواجب والمودّة الجديدة التي تُقدّمها الجماعات المُسلّحة مع أهداف أكثر طموحاً .
أما في المناطق الريفية في دير الزور، فإن حالة قبيلة الشعيطات تعطي مثالاً حياً على الخيارات التي تتخذها الوحدات القبلية تحت ضغوط الحرب. في البداية إنضمت قبيلة الشعيطات، التي تُعدّ من أقوى قبائل شرق سوريا حيث تضم نحو 90 ألف عضو، إلى التمرّد، وتولّت السيطرة على العديد من آبار النفط المُربِحة في المنطقة.
ومع غزو تنظيم “داعش” تقريباً لجميع أنحاء سوريا الشرقية في العام 2014، تحمّلت عشيرة “الشعيطات” وطأة بعض أشد المعارك بين الجهاديين على إمتداد وادي الفرات السفلي. وقُتل ما لا يقل عن 800 مقاتل من قبيلة الشعيطات على أيدي قوات “داعش”. وقد فرّ العديد من الناجين إلى أراضي النظام، ومنذ ذلك الحين أعادوا تشكيل أنفسهم كميليشيات موالية للرئيس بشار الأسد تُدافع عن حامية “دير الزور” العسكرية المُحاصَرة من هجمات “داعش” المتكررة.
في الحسكة، في الوقت عينه، كان حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي يكافح من أجل كسب ولاءات القبائل المؤيّدة للنظام منذ عقود بسبب سياسات المحسوبية والزبائنية. وعلى الرغم من إستمرار جهود التواصل القبلي العربي من جانب حزب الاتحاد الديموقراطي، فقد ظلت قبيلة “طي” موالية لدمشق، موفّرة الأساس، جنباً إلى جنب مع جزء من السكان المسيحيين المُقسّمين في المنطقة، لميليشيا قوات الدفاع الوطني الموالية للنظام.

مخاطر “تسليح” الهياكل القبلية

إن الإشاعات عن وجود ميليشيات موالية تعمل سراً تحت الأرض بعد سنوات على سقوط المدينة في أيدي المتمردين وأشهر من حكم تنظيم “الدولة الإسلامية” تشير إلى أنه عند إقتحامه للرقة، فإن حزب الإتحاد الديموقراطي، بعد تحرير المدينة من “داعش”، سوف يجد نفسه يتنافس مع النظام السوري على ولاء السكان. وعلاوة على ذلك، يمكن للقبائل المحلية إستخدام القوة النسبية متخطيةً النظام والإتحاد الديموقراطي والوصول إلى الجهات الراعية الخارجية كروسيا وإيران والولايات المتحدة كوسيلة مساومة فيما هي تزن وتحسب تكاليف وفوائد الولاء لفصيل أو لآخر، أو في الواقع للمنافسة الداخلية بين القبائل.
وحتى داخل القبيلة العربية الأكثر إلتزاماً بمشروع حزب الاتحاد الديموقراطي، المتمثل بكونفيديرية شمّر، من الواضح أن مظلة قوات سوريا الديموقراطية (قسد) تحتوي على ميليشيتين متمايزيتن سياسياً مع رغبات وتطلعات سياسية مختلفة على الأرجح.
فمن ناحية، تستخدم “قسد” حليفها منذ فترة طويلة، “جيش الصناديد” بقيادة زعيم قبيلة الشمّر وعشائرها الشيخ حميدي دهام الهادي الجربا، أساساً كقوات شرطة متحركة لتوفير الأمن في المناطق الصحراوية ذات الكثافة السكانية غير العالية، ويبدو أن هذا يُعتبر فرصة من أجل إعادة تأسيس سلطة “الشمّر” التاريخية المفقودة منذ فترة طويلة في صحراء سوريا الشرقية. من جهة أخرى، يبدو أن قوات النخبة السورية، المكوّنة من رجال من قبيلة شمّر والشعيطات بقيادة رئيس المجلس الوطني السوري السابق والأرستوقراطي الشمّري أحمد الجربا، حريصة على إنشاء حكم ذاتي متمرّد في إطار حكم قوات سوريا الديموقراطية. وقد تكون هذه الميليشيات قد ركزت على دورٍ لها للحكم في الرقة أو دير الزور.
وسعياً إلى تسليح الهياكل القبلية السورية ضد “داعش”، سيتعيّن على الولايات المتحدة أن تتعامل مع السياسة القبلية بعين أنثروبولوجية حريصة، مع الحرص على ضمان عدم إرساء الأساس لإشتباكات مستقبلية بين فصائل القبائل والعشائر في أعقاب النزاع الحالي . إن إدارة التطلعات السياسية المتباينة للفصائل المختلفة في إطار تحالف عريض متعدد الأعراق مهمّة معقدة، وينبغي على واشنطن تحليل الانقسامات السياسية المحلية بعناية قبل صرف المال وتوزيع الأسلحة والذخائر بكميات كبيرة.
إن قدرة أميركا وحلفائها من قوات سوريا اليموقراطية على كسب ولاء القبائل، مثل “طي” أو “الشعيطات”، أو على الأقل تجنب الحاجة إلى مواجهتها سوف تعتمد إلى حد كبير على المزايا الملموسة التي ستمنحها لها السلطة الحاكمة الجديدة في مجال الثروة أو تأثير التعاون، وكذلك على أمل أن لا تسعى روسيا أو إيران أو دمشق – أو حتى بعض أشكال جديدة من التمرد الجهادي – إلى عملية إفساد ونشر الفوضى في وادي الفرات لتحقيق أهدافها الخاصة.

فك إرتباط حذر

فيما تجتاح قوات سوريا الديموقراطية مدينة الرقة، وربما ريف دير الزور، فان القوات الأميركية التى تدعمها سوف تجد نفسها تُقدّم الدعم العسكرى واللوجيستي لمشروع حكم يقوده الأكراد بطريقة غير مباشرة لفترة غير مؤكدة على القبائل العربية المحلية. إن الرغبات السياسية لهذه القبائل غير معروفة إلى حد كبير، وقد تكون القبائل نفسها مُنقسمة بشدة.
وبالنظر إلى أن النظام السوري، والعديد من فصائل المتمردين وتنظيم “جبهة النصرة” التابع ل”القاعدة” جاء كثير من عناصرها من قبائل محلية لم تتمكن من السيطرة على هذه المناطق، فإن القدرة لما يُمكن إعتباره قوة إحتلال أجنبية مزدوجة للقيام بذلك من دون أن تضطر إلى إطلاق حملة مكافحة شاقة للتمرّد هي مسألة مفتوحة.
الواقع أنه يتعيّن على واضعي السياسات في واشنطن أن يكونوا واضحين بشأن إستراتيجية خروج الولايات المتحدة من هذا المستنقع، وما هي الحالة النهائية المرجوة لمنطقة وادي نهر الفرات، قبل أن يتم سحبها وأخذها إلى إحتلال مفتوح بسبب فراغ السلطة الذي يخلفه القضاء على “داعش”.
إن التعايش الطويل الأمد، ولو كان هشاً، بين حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي والنظام السوري في مدينتي القامشلي والحسكة قد يتيح الفرصة للقوات الأميركية للإنسحاب من المنطقة في المستقبل القريب أو المتوسط.
وفي حين أن المدافعين من المتمرّدين السوريين سيرون على الأرجح الوجود الأميركي في المنطقة كفرصة لإقامة شكل من أشكال حكم لهم في ظل حماية عسكرية، فإن صوابية إنفاذ هياكل حكم فاشلة للمتمردين في هذه المنطقة الحدودية المُتقلّبة بقوة السلاح الأميركي لا تزال موضع شك في أفضل الأحوال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى