قانونٌ وَليدُ صيغةٍ بَلغـَت “سِنَّ اليأس”

بقلم سجعان قزي*

ليس لديَّ أدنى شكٍّ بأنَّ قانونَ الإنتخابِ الجديد “صُنعَ في لبنان”، فمِثلُ هذا القانونِ العنكبوتيِّ لا يُمكن أن يكونَ إلا لبنانيّاً نظراً لما إحتواه من بنودٍ خَدماتـيّـةٍ وفقَراتٍ على القياسِ ودوائرَ مزاجـيّـة.
بعيداً مِن موقعِ الموالاةِ والمعارضَةِ ومن موقِفِ التزلّفِ والشعبويّـة، ليس هذا هو قانونَ الإنتخاباتِ المُنتظَر منذ سبعٍ وعشرينَ سنةً. لا أحدَ سعيداً بهذا القانونِ سوى التُعَساء. ولا أحدَ مُقتنِعاً به سوى الذين يَجهَلونه. وبغضِّ النظر عن مدى جودتِه أو رداءتِه، ما هكذا تُوضعُ قوانينُ الإنتخابات وتُـقـرُّ في الحكوماتِ والبرلمانات التي تَحترم نفسَها وشعبَها. ليس قانونُ الإنتخاباتِ قانونَ زيادةِ رسمٍ على عُلبةِ دُخانٍ صُنعَت خارجَ لبنان. إنه أهمُّ قانونٍ بعد الدستور. منه تَنـبَـثق السلطتان التشريعـيّـةُ والتنفيذيّـة ومنهما تَنشأ كلُّ المؤسّسات.
وبالمناسبة، إنّ قانونَ الستّين الذي نتسابَق على رَجمِه، كان أفضلَ قانونٍ في زمانِه مقارنةً بالواقعين الديموغرافيّ والميثاقيّ اللذَين كانا سائدَين في لبنان بين سنتَي 1926 و1975. لقد خَرّجَ أهمَّ شخصيّاتٍ وطنيّـةٍ لا يزال اللبنانـيّـون يَـتنَسَّمون ذِكراها ويعيشون على أمجادِها ويُعلِّلون النفسَ بعودةِ أمثالِها. لكن، كان لا بُـدَّ من إبدالِه في ضوءِ المتغيّراتِ القاهِرة التي طَرأت على لبنان في سنواتِ الحربِ والإحتلالِ والوصاية بين 1975 و2005. قانونُ الستّين كان قانوناً لشعب. القانونُ الجديدُ هو قانونٌ لسياسيّين.
والطريفُ أنَّ عَرّابي القانونِ الجديد (شو هالشرف)، الذين يَتبارون بالإشادةِ بحسناتِ سيّـئاتِه ويجاهدون لتبريرِ نواقصِه ويَعِدون بأفضلِ منه في الآتي من العصور، يأخُذ على خاطرِهم إذا إنتقدَه الناسُ وأبرزوا مساوئِه، وبخاصّةٍ على المكـوَّنِ المسيحيّ؟ العَــرّابون، والدولةُ عموماً، يُمنِّنون الناسَ بأن هذا القانونَ سينقُل البلادَ إلى مرحلةِ إستقرارٍ فيما الإستقرارُ موجود. لقد أصبح شعارُ الإستقرارِ “شماعةً” تُغطّي كلَّ الانجازاتِ الفاشلة. ولو كان الإستقرارُ فقط هدفَنا، لا الإستقلالُ والكرامة، ما كـنّـا صَمَدنا وقاومْنا وخَسِرنا كلَّ الشهداء.
لا يَتحمَّل رئيسُ الجمهوريّـةِ العماد ميشال عون مسؤولـيّـةَ الإخفاقِ بوضعِ قانونٍ جديدٍ بمستوى آمالِه وآمالِ الناس؛ وأساساً، ما كان ليخرجَ أيُّ قانونٍ لولا عنادُ الرئيس. لكنَّ صيغةَ النظامِ اللبنانيّ باتت عاجزةً عن إنتاجِ مشاريعَ إصلاحيّةٍ جديدة. بَـلَغت “سِنَّ اليأس”. لاحظت الصيغةُ أنّ التعديلاتِ التي أُدخِلت عليها منذ الطائف إلى اليوم أَقعدَتْها عِوضَ أن تُـزخِّمَها، فتقاعَدت. كانت الصيغةُ اللبنانـيّـةُ على صورةِ اللبنانـيّـين ومثالِـهم. اليوم سقَط الشَـبَه. هُم يُشبِـهون صيغةً مضمورةً، وهي تُشبه شعباً مفقوداً. ومختلَفُ القوى السياسيّـةِ تتصرّف على أساسِ أنّ صيغةَ النظامِ تهاوت، وتتموضَع لحجزِ مقاعدِها في الصيغةِ الآتيةِ كَناسٍ يَصلون إلى إحتفالٍ قبلَ الموعدِ لئلّا يَجلِسَ آخَرون مكانَهم.
بإنتظارِ ولادةِ صيغةِ النظامِ الجديد، تُـكرِّر الطبقةُ السياسيّـةُ / الطائفـيّـةُ نفسَها. تَظنُّ أنّها في الوقتِ الضائعِ فيما الضائعُ هو لبنانُ ومصيرُ الأجيال. تضعُ الفيتواتِ المتبادَلةَ فـتَتعَطّلُ الصلاحـيّـاتُ الدستوريّـة. تَبتدِعُ الديموقراطـيّـةَ التوافقـيّـةَ فـتَضيعُ الديموقراطـيّـةُ الدستوريّـةُ ولا تَتعزَّزُ الروحُ الميثاقـيّـة. كان اللبنانـيّـون يعيشون في ظِلّ دُستورٍ وميثاقٍ، فإذ بهم اليومَ خارجَ الإثنين. يَحصُل توافقٌ على هامشِ الدستور، وتُـطـبَّق الميثاقـيّـةُ بمنأى عن المساواة. الديموقراطـيّـةُ التوافقـيّـةُ ميثاقـيّـةٌ وهميّـةٌ تغطّي هيمنةً غيرَ شرعيّـةٍ على النظام والبلاد.
بسبب سوءِ تطبيقِ الطائف والسلاحِ، إنتقل مركزُ القرارِ في لبنان من الشرعـيّـةِ إلى قوّةِ الأمرِ الواقع، وإنتقل مصدرُ التشريعِ من الميثاقـيّـةِ إلى المصلحـيّـةِ فتغـيَّـر الوجهُ الحضاريُّ الذي ميَّـز الدولةَ اللبنانـيّـة. إنَّ قراراتِ المؤتمرِ التأسيسيِّ أصبحت قيدَ التنفيذِ قبل صدورِها، بل قبلَ إنعقادِ المؤتمرِ رسمياً تحت مُسمَّياتٍ أخرى. وهذا يُذكّرنا بإزدواجـيّـةِ بعضِ الأنظمةِ العربية السابِقة حيثُ كان الآمرُ الناهي في العراقِ صدّامُ حسين فيما الرئيسُ هو أحمد حسن البَكر، وفي مِصرَ جمالُ عبد الناصر فيما الرئيسُ محمد نجيب إلى أنْ سَنحت الفرصةُ فاستولى الرجلان القويّـان على الحكمِ في بلديهما. والمُخزي أنَّ غالِبيّـةَ المكــوِّناتِ اللبنانـيّـةِ، بمواطنيها وقياداتِها، مُشمئزَّةٌ من هذا الواقعِ لكـنّـها تَطيعُ، بعدَ معاندةٍ مؤقّتةٍ، لتسجيلِ موقِفٍ ولحُفظِ خطِّ الرجعة. وآخِرُ ترجمةٍ لهذا الواقعِ القاهِر هو قانونُ الإنتخابات.
صحيحٌ أنَّ كلَّ قوانينِ الإنتخاباتِ في العالم تُراعي الوضعيّـةَ السياسيّـةَ إلى جانبِ إحترامِ العِلمِ الدُستوريّ، أما في لبنان، فالهدفُ الأساسُ لواضعِي هذا القانونِ هو تحسينُ حظوظِ القِوى السياسيّـةِ الحاكِمة والمتحالِفةِ مع بعضهِا البعض. فمَن ليسوا مُتحالفِين على أساسِ المواثيق متحالِفون على أساسِ المصالح. إنَّ واقعَ العَلاقاتِ السياسيّـةِ حاليّـاً يقومُ على تفاهمٍ موضوعيٍّ بين كلِّ القِوى الحاكِمة على المشاركةِ في الحكمِ بغضِّ النظرِ عن إختلافِ النظرةِ الوطنيّـة، وكأنَّ الصيغةَ اللبنانيّـةَ هي مشروعُ حكمٍ لا مشروعَ وطن.
لديَّ قناعةٌ بأنّ كلَّ ما يَجري هو عودةٌ إلى ما بعدَ الطائف وما قبلَ الإنسحابِ السوريّ، وليس إلى ما بعدَ إنتفاضةِ الأرز وخروجِ الجيشِ السوريّ. لقد إنتقلنا فقط من الإحتلالِ الخارجيّ إلى الإحتلال الذاتيّ.
الشعوبُ التي تصلُ إلى هذه المرحلةِ تَختار طريقاً من ثلاثة: الإفتراقُ والتقسيم، أو التقاتلُ والتدمير، أو الصبرُ بإنتظارِ معطياتٍ جديدةٍ وموازينَ قِوى مختلِفة. يبدو أنَّ اللبنانيّين فضّلوا الصبرَ بعدما إختَبروا الإفتراقَ والتقاتل. الصبرُ هو الصوتُ التفضيليُّ على مستوى الوطن، فلنمدِّد له.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى