لماذا يختلف ترامب والبابا على السعودية: الفاتيكان يعارض الهيمنة الإقليمية للرياض

يبدو أن البابا فرنسيس لم يكن راضياً عن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية والتقارب معها بهذا الشكل، الأمر الذي لم يخبئه الحبر الأعظم عند إستقباله سيد البيت الأبيض أخيراً في الفاتيكان. ولكن لماذا يُعارض البابا الرياض؟

حرب اليمن: يقف الفاتيكان بقوة ضدها.

بقلم فيكتور غايتان*

إجتذب الإجتماع الذي عُقد في 24 أيار (مايو) بين زعيمين مُتَضَادَين، الرئيس الأميركي دونالد ترامب والبابا فرنسيس، إهتماماً، أساساً، بسبب الإختلافات الأسلوبية والموضوعية بين الرجلين، وليس بسبب توقّع حدوث أي شيء خطير خلال لقائهما المُختَصَر الذي دام 30 دقيقة. في الواقع، بالنظر إلى التبادلات السابقة بين البابا وترامب، قد يبدو من المُستغرَب أن يُضاف الفاتيكان إلى مسار رحلة الرئيس الأميركي الأخيرة. في شباط (فبراير) 2016، تحدّى الحبر الأعظم ضمناً إيمان المرشح الرئاسي الأميركي آنذاك بقوله للصحافيين بأن “الشخص الذي يُفكّر فقط في بناء الجدران … وليس في بناء الجسور فهو ليس مسيحيا”. وقد ردّ ترامب على ذلك من خلال وصفه تعليقات البابا ب”المُشينة”، لكن هذا لم يمنع البابا من تكرار تصريحه مُجَدّداً قبل بضعة أشهر فقط. لكن البابا فرانسيس قد حثّ طوال حياته على اللقاء والحوار، لذا كان من الطبيعي ان يترك الأبواب “مفتوحة قليلاً على الأقل … والسير خطوة خطوة” مع ترامب.
وهناك عاملان ساهما في جَمع المُتعَارِضَين معاً. الأول هو التقليد: كل رئيس أميركي منذ هاري ترومان يزور الكرسي الرسولي عندما يقوم بزيارة إيطاليا. (ترامب كان هناك لحضور قمة مجموعة السبعة في صقلية). والثاني هو أن البيت الأبيض وضع أول جولة رئاسية لساكنه إلى الخارج كجولة على مراكز الأديان الثلاثة: المسيحية، واليهودية والإسلام. لذلك كانت زيارة ترامب الفاتيكانية هي العمل النهائي في إنتاج مسرحي إفتُتِح في الرياض.
في النهاية، مع ذلك، قد يكون الإطار هو المشكلة. في الواقع، لقد إنزعج الفاتيكان في أواخر الشهر الفائت عندما ظهر ترامب مُفتخراً جداً بما حققه في المملكة العربية السعودية، وهي واحدة من الدول القليلة التي لا تُقيم علاقات ديبلوماسية مع الكرسي الرسولي. من معاملة المملكة للمسيحيين الذين يعيشون داخل حدودها، إلى تصديرها الدولي للتعصّب الديني، إلى الدمار الذي أحدثته حربها في اليمن، يتخذ فرانسيس والفاتيكان بالنسبة إلى هذه المسائل خطاً إنتقادياً تجاه الرياض أكثر بكثير من إدارة ترامب. لقد تعاونت الإدارات الأميركية في مجموعة من المبادرات الديبلوماسية مع الكرسي الرسولي، مثل تطبيع العلاقات الأميركية – الكوبية في العام 2014. كما يتشارك مسؤولو الكنيسة الكاثوليكية في جميع أنحاء العالم بإنتظام المعلومات مع الديبلوماسيين الأميركيين. لكن الجهاز الفاتيكاني بأكمله حَذِرٌ وغير مرتاح من سياسة خارجية أميركية مُلتزمة بالملكية السعودية المُطلقة.

شك الفاتيكان بالسعودية

من المصادر الرئيسية للتوتر بين آل سعود والكرسي الرسولي هي حدود التعبير الديني المسيحي في السعودية. يُقيم حالياً نحو 1.5 مليون كاثوليكي في المملكة، معظمهم من العمال الضيوف من الفليبّين. ليست لديهم أي وسيلة أو مكان لممارسة إيمانهم. الذبيحة الإلهية (القدّاس) متاحة فقط للديبلوماسيين المسيحيين في عدد قليل من السفارات الأجنبية، وهي ممنوعة للعمال الوطنيين الأجانب. (البابا الفخري بنيديكت السادس عشر إلتقى الملك الراحل عبد الله في العام 2007، حيث كان متوقَّعاً مناقشة إفتتاح بعض الكنائس الكاثوليكية، ولكن لا شيء نتج من اللقاء). إن علامات التفاني الديني غير الإسلامية، من المسابح إلى الإنجيل، محظورة. وفي الوقت عينه، فقد تعاون الكرسي الرسولي مع حكومات البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة، حيث تزايد عدد المسيحيين – والتسامح للمسيحية – على مدى السنين العشر الماضية، لإنشاء أماكن للعبادة الكاثوليكية.
ثانياً، يعتبر الخبراء الكاثوليكيون في مجال الإرهاب أن الوهّابية، المنهج الديني السعودي الرسمي، والحركة السلفية التي تأسست في القرن الثامن عشر في شبه الجزيرة العربية، هي مصدر مزعزع للتطرف. بالنسبة إلى الكرسي الرسولي، فإن التهديد الوهّابي هو وجودي: إن التعصّب والمال الوهّابيين يُشعلان العنف ضد المسيحيين وغيرهم من المجتمعات الدينية في الشرق الأوسط وخارجه. ولمعالجة هذا التهديد، يقوم الفاتيكان ب”زراعة” وإقامة العلاقات مع المراكز الثقافية الإسلامية غير الوهّابية مثل جامعة الأزهر في القاهرة، التي زارها البابا فرانسيس في الشهر الماضي. كما أن الإمام الأكبر للأزهر الشيخ أحمد الطيب كان زار الحبر الأعظم في روما في العام الفائت، وهو تطور مهم بشكل خاص نظراً إلى أن الطيّب كان قاد مقاطعة ضد الفاتيكان في العام 2011 بعدما علّق البابا السابق بنيديكت على العنف المناهض للمسيحية في مصر. ويأمل الكثيرون في أن تُعطي العلاقة المُتجدِّدة زخماً جديداً للحوار المسيحي – الإسلامي.
إن الخِشية من الوهّابية تنطبق أيضاً على سوريا، حيث لا يزال القادة الكاثوليك المحليون هناك متشكّكين بشأن سياسة تغيير النظام المدعومة من السعودية. إنه حساب بسيط: المجتمعات المسيحية، سواء الأرثوذكسية أو الكاثوليكية، كانت محمية من قبل الرئيس السوري بشار الأسد ووالده حافظ الأسد قبل ذلك؛ فالتطرف السنّي يمكن أن ينفّذ الشريعة ويجعل المسيحيين مواطنين من الدرجة الثانية. في رأي الكنيسة، فإن الأمر لا يُبشّر بالخير إذا وضع ترامب نفسه تماماً في المعسكر السعودي.
ثالثاً، عارض الفاتيكان الحرب السعودية العدوانية بشكل خاص في اليمن، وهي دولة مُتسامِحة نسبياً مع بعض الإحترام للحرية الدينية. ويُصنّف الفاتيكان حرب المملكة العربية السعودية في اليمن بإعتبارها “حرباً ظالمة” نموذجية – غير جوهرية لبقاء البلاد، أُطلقت من دون التفاوض أولاً، وتُدمّر بلا رحمة غير المُقاتلين. وفي حملة جوية تعتمد إعتماداً كبيراً على الدعم الأميركي، أسقطت المملكة القنابل العنقودية وغيرها من الذخائر المُدَمّرة على السكان المدنيين اليمنيين، بما في ذلك المدارس والعيادات الطبية.
وقد أقام الكرسي الرسولي علاقات ديبلوماسية مع اليمن منذ العام 1998. والغرض الرئيسي من العلاقات الثنائية كان لتعزيز المصالح الفُضلى للمؤمنين المسيحيين المحليين، بمن فيهم رجال الدين والمُبشّرين؛ لذلك، وبصرف النظر عن الإضطرابات السياسية، فإن الفاتيكان يشعر بالقلق إزاء الحرب التي تُدمّر الظروف المعيشية. وقد عانى الكاثوليك في اليمن من جرّاء حملة القصف المستمر التي تقوم بها السعودية والعنف الإسلامي المتطرف الذي زاد بشكل خاص في المنطقة الجنوبية من اليمن التي يسيطر عليها الرئيس عبد ربه منصور هادي الحليف للسعودية الذي هرب من العاصمة اليمنية صنعاء في العام 2015 إلى الرياض حيث شكّل حكومة في المنفى حيث عاد قسماً منها إلى عدن.
وعلى غرار المدنيين الآخرين، عانى الكاثوليك في اليمن كارثياً. فعلى سبيل المثال، كانت راهبات جمعية الأم تيريزا الخيرية نشيطات في اليمن منذ العام 1973، وكانت هذه الجمعية أول نظام كاثوليكي في البلاد منذ مئات السنين. وتُدير الراهبات منزلاً للأطفال وساعدن على تنظيم مركزٍ للفقراء ومرضى الجذام. وتُحافظ الجمعية على أربعة مراكز على الرغم من الإضطهاد المتزايد الذي تواجهه: ففي آذار (مارس) 2016، قتل إرهابيو “داعش” أربع راهبات وثمانية عمال في دار تمريض في عدن لأنهم مسيحيون. كما إختطف الجهاديون قسيساً سيليزياً، الأب توم أوزوناليل، الذي لا يزال في الأسر. ومن بين المواقع الأخرى التي قصفتها الغارات الجوية السعودية إحدى الكنائس الكاثوليكية القليلة في البلاد. وقد تحدثت إذاعة الفاتيكان عن الأثر المميت الذي يواجهه الأطفال اليمنيين؛ فهناك أكثر من مليون منهم يعانون من الجوع بسبب الحرب.
يصف المحللون عادة الصراع السعودي – اليمني بتنافس سني- شيعي، حيث تواجه السعودية المتمرّدين الحوثيين، ومعظمهم من المسلمين الزيديين، الذين، على الأقل أصلاً، لديهم روابط مع إيران الشيعية. على الرغم من أن الفاتيكان ليست له صلة بالحركة الحوثية، إلا أنه يتعاطف عموما مع الإسلام الشيعي، الذي لديه رجال دين متعلمون تعليماً عالياً ومُنَظَّمون هرمياً، ولاهوت (الفقه) موازٍ للاهوت المسيحي، وإحترام عام للكنيسة الكاثوليكية ومؤمنيها. وقد طوّر الفاتيكان علاقة متعاطفة مع القيادة الدينية الإيرانية، وكان مؤيداً للغاية للإتفاق النووي الأميركي – الإيراني. إن العلاقات الديبلوماسية الحديثة بين البلدين تعود إلى العام 1954، وتم الحفاظ عليها طوال الثورة الإسلامية. وتُعتَبر السفارة الإيرانية في روما إحدى أكبر البعثات النشيطة الى الكرسي الرسولي الذي يعتبر إيران مفتاحاً لحل الأزمة في سوريا.
وكان آخر مصدر للتوتر بين ترامب والحبر الأعظم هو إعلان الرئيس الأميركي عن صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار مع المملكة. وتخشى الكنيسة الكاثوليكية من أن يكون المؤمنون المسيحيون وقادتهم المحليون وعمال المؤسسات الخيرية مُعرَّضين لخطر العنف المُموَّل من السعودية والذي ينتشر بشكل متزايد في أجزاء من الشرق الأوسط. وإنتقد الكاردينال الغاني بيتر توركسون، الذي يرأس المجلس البابوي للعدالة والسلام، قرار ترامب على “تويتر” في اليوم الذي هبط فيه الرئيس الأميركي في روما. وكان البابا فرانسيس نفسه إنتقد بشدة وعلناً تجار الأسلحة، مثل الولايات المتحدة، الذين قال عنهم أنهم أخلاقياً مُذنِبون ومسؤولون عن القتل والدمار اللذين تُسبّبهما الأسلحة. ووفقاً لمعهد إستوكهولم الدولي لبحوث السلام، فإن أميركا هي أكبر تاجر للأسلحة في العالم، حيث وفّرت وأمدّت 33 في المئة من إجمالي صادرات الأسلحة من العام 2012 إلى العام 2016، وقد ذهب 47 في المئة من مبيعاتها إلى الشرق الأوسط. وتُعدّ المملكة العربية السعودية، ثاني أكبر مشترٍ للأسلحة في العالم (وراء الهند)، أكبر زبون للولايات المتحدة في هذا المجال.
بالنسبة إلى البابا فرانسيس، إن الأسلحة تُشعِل الحروب. “لماذا يتم بيع الأسلحة الفتّاكة إلى أولئك الذين يُخطّطون لإلحاق معاناة لا توصف بالأفراد والمجتمع؟”، سأل في خطبته أمام الكونغرس في العام 2015. “ببساطة من أجل المال: المال الذي يتجرّع من الدم، وغالباً من دم الأبرياء … فمن واجبنا وقف تجارة الأسلحة”، مضيفاً. وهذا هو السبب أيضاً لتقديم البابا إلى ترامب هدايا تحمل عنوان السلام في زيارته: ميدالية تصوّر الحرب على أنها تمزّق الأرض؛ ونسخة مُوقَّعة من رسالته في مناسبة رأس السنة الميلادية، “اللاعنف: نمط سياسة من أجل السلام”؛ وتوقيعه غير الدوري “لوداتو سي”، الذي يطرح السلام كوجه من الصالح العام الذي يحتاج الجميع إلى البحث عنه؛ و”إيفانجيلي غوديوم”، وهو توجيه رسولي يصف السلام بأنه ليس مجرد غيابٍ للصراع، وإنما هو نتاج لزراعة دائمة للعدالة والوحدة والكرامة الإنسانية.
هل سيتطور الحوار؟
غالباً ما يشير البابا فرانسيس إلى الحرب العالمية الثالثة “المُجزّأة” الجارية حالياً. في رأي الفاتيكان، بدلاً من نزع فتيل زمن الحرب، فإن دعم إدارة ترامب للرياض قد أثار وغذّى إنقسام الإسلام السني – الشيعي الخطير. في نصيحته الثابتة ضد الصراع الطائفي، فقد وجد الحبر الأعظم حلفاء بين الدول الإسلامية مثل سلطنة عُمان وباكستان وقطر التي هي أيضاً مستاءة من سيطرة السعودية وما تعتبره هاجسها المناهض لإيران. وبطبيعة الحال، لقد بدأ البابا فرنسيس الحوار فقط مع ترامب. إن الوقت هو دائماً إلى جانب مؤسسة تقيس ذلك بآلاف السنين.

• فيكتور غايتان هو كبير المراسلين الدوليين ل(The National Catholic Register).
• كُتِب المقال بالإنكليزية وعَرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى