زيارةٌ أم غارة؟

بقلم سجعان قــزي*

فيما كان الرئيسُ الأميركيُّ دونالد ترامب يَطَـأُ أرضَ السعوديّـةِ، كانت إيران تُـعلن فوزَ حسن روحاني بولايةٍ رئاسيّـةٍ جديدة. فوزٌ تجاهلته قِممُ الرياض رغم أنّـه يوحي بثباتِ الخطِّ الإصلاحيِّ الـمُـحـبِّـذِ الإنفتاحِ على الغربِ والعرب وتحديداً على الولاياتِ المتّـحدةِ الأميركـيّـةِ والسعوديّـةِ؛ ولكنه خطٌّ مكـبَّـلٌ بـتصلُّبِ النظامِ الإيراني الذي يُــقَــنِّـنُ التحوّلاتِ الإيجابـيّـةَ.
لذلك لا ليونةَ أميركــيّــةً وخليجـيّـةً تجاه إيران ما لم يَـتمكّن الرئيسُ روحاني من نقلِ “الخطِّ الإصلاحيّ” من الداخلِ الإيرانيِّ إلى الخارج، فيعيدُ النظرَ في التموضُعِ الإيرانيِّ في العراقِ واليمنِ والبحرين وسوريا ولبنان، وهو أمرٌ مستَبعَدٌ حالياً، فالمِنطقةُ متَّجهةٌ نحو مزيدٍ من المواجهاتِ العربـيّـةِ ـــ الفارسيّـة، ولبنانُ إحدى ساحاتِـها، لا سيما وإن المؤتَـمِرين وضعوا “حزبَ الله” اللبنانيَّ في ذاتِ السلّةِ الإرهابـيّـةِ مع “جبهة الـنُصرةِ” و”داعش” والحوثـيّين بحضورِ وفدٍ لبناني حكوميٍّ رسميٍّ إستمَع إلى ترامب يَشكر لبنان “لإستضافتِه اللاجئين”، وبالشكرِ يدومُ اللاجئون.
بعيداً عن الصُدفةِ الإيرانـيّـةِ، أنْ يزورَ ترامب “السعوديّـةَ أوّلاً” فسابقةٌ ما كانت لتحصلَ في تاريخِ زياراتِ الرؤساءِ الأميركــيّين لو لم يَـضمَن ترامب أنَّ الصفقاتِ الإقتصاديّــةَ التي سيوقّـعها ستكون أيضاً سابقةً في تاريخِ العقودِ الدولـيّـة. وإذا كانت هذه العقودُ تؤكِّد ثقةَ السعوديّـةِ بإقتصادِها، فإنها تُـفشي، بالمقابل، عدمَ الثقةِ بأمنِـها الذاتيّ وحاجتَـها إلى مِظلَّـةٍ أميركــيّـة. يبقى أن تَـضمَنَ السعوديّـةُ مردوداً سياسيّـاً وأمنـيّـاً بمستوى هذا السخاءِ الفريد، وهو مردودٌ محتَملٌ لأن نوعـيّـةَ العقودِ العسكريّـةِ والنِفطـيّـةِ والاستثماريّـةِ ستُحـتِّم حضوراً أميركــيّـاً مُستداماً على أرضِ المملكةِ أشبهَ بـــ”إنزالٍ” يجعل أمنَ أميركا الإستراتيجيِّ من أمنِ العائلةِ المالِكةِ السعوديّـة. غير أنَّ الأمنَ الموعودَ يَــنقُصه السلامُ الإقليميُّ بعد خطابِ الرئيسِ الأميركيِّ المشحونِ بالوعيدِ والتهديدِ مع تأكيدِه، وحِبرُ العقودِ الفــيّـاضةِ لم يَجِفُّ بعد، بأنَّ على دولِ المِنطقةِ أنْ تدافعَ هي عن نفسِها أولاً.
لذا لا بدّ للسعوديّـةِ من أن تُسوِّقَ توقيعَ عقودٍ بقيمةٍ تناهِز ألــ 450 مليارِ دولارٍ لدى الرأيِ العامِّ السعوديِّ في وقتٍ دَعت شعـبَـها إلى التقشّفِ وفَرضت عليه ضرائبَ جديدةً وأصدَرت سنداتِ خزينةٍ لتغطيةِ عجزِ موازنَــتِـها السنويّـة البالغةِ 87 مليارَ دولار. ولا بدَّ لها أيضاً من أنْ تُــبرِّر للرأيِ العامِّ العربيِّ، بحكمِ زعامتِـها، هذه المبالغَ الخيالـيّـةَ فيما بَـلغت نسبةُ البطالةِ في العالمِ العربي 30.6% حسْبَ منظّمةِ العملِ الدولــيّـةِ، وفاقت نسبةُ الفقر فيه 13% أي حوالى 40 مليونِ شخصٍ، وتعدّى ألـــ100 مليونِ عربيٍّ الذين يعيشون تحت خط الفقر حسْبَ منظّمةِ التغذيةِ العالميّـة. الجوابُ السعوديُّ واضحٌ: هذه العقودُ ستولِّد 72 ألفَ فرصةِ عمل.
مهما يكن، إنَّ لقاءَ ترامب والملك سلمان سنةَ 2017 أسّس لعهدٍ ثانٍ في العلاقاتِ بين البلدين بعد العهدِ الأوّلِ الذي أرساه لقاءُ الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبدِ العزيز بن سعود سنةَ 1945. وأهميّـةُ اللقاءِ الجديد أنّــه يَـعقِبُ فترةَ إضطرابِ الثقةِ بين الدولتين نتيجةَ سياسةِ بارااك أوباما ثم تصريحاتِ ترامب العدائــيّـةِ، وهو يَكشِف ما يلي:
1) إنَّ واشنطن ما زالت تعتبرُ السعوديّـةَ، علاوةً على إسرائيل، البلدَ المحوريَّ في الشرقِ الأوسط بعدما حاول الرئيسُ الأميركيُّ السابق، باراك أوباما، إقامةَ توازنٍ مُـلتبِسٍ بينها وبين إيران، وبعدما تَــطلَّـعَ ترامب نفسُه إلى مصر في أيّــامِ ولايتِه الأولى. ونجاحُ المملكةِ في جمعِ 55 ملكاً ورئيساً وأميراً وزعيماً، وبخاصّةٍ لبنان، هو رسالةٌ للرئيسِ الأميركيِّ وللمجتمعِ الدوليِّ مفادُها أنَّ السعوديّـةَ لا غيرَها هي زعيمةُ العالَمَين العربيِّ والإسلاميّ. وها هو وزيرُ التجارةِ الأميركي، ويلبور روس، يعترف في الرياض: “لا دولةَ كالسعوديّـةِ تستطيع أنْ تُحضِّـرَ هذا الحشدَ بهذه السرعة”.
2) إنَّ دونالد ترامب نفسَه عدّلَ موقِفَه من السعوديّـةِ، فبعد أن كان، وهو مرشَحٌ، يظنُّ بها مَصدراً فِقهـيّـاً للمتطـرّفين، يَـعترف بها اليومَ، وهو رئيسٌ، شريكاً مركزيّــاً في محاربةِ الإرهاب. وأساساً، إنَّ المملكةَ لم تَنتظر ترامب لتشتركَ بــ”التحالفِ الدوليِّ ضِدَّ الإرهاب” (آب/ أغسطس 2014)، ولـتُــنِشئَ “التحالفَ العسكريَّ الإسلاميَّ ضِدَّ الإرهاب” (كانون الأول/ ديسمبر 2015). لقد كانت المملكةُ قبل سواها ضحيّـةَ الإرهاب منذ أواخرِ سبعينات القرن الفائت إلى اليوم.
3) إنَّ واشنطن ستتولّى الحدَّ من النفوذِ الإيرانيِّ في الشرقِ الأوسط مقابل أنْ تتولّى السعوديّـةُ تشجيعَ السلام العربيِّ ـــ الإسرائيليّ، وتعديلَ مفهومِ “الأرضِ مقابلَ السلام”، والتغاضي عن التطبيعِ العربيِّ الجاري مع إسرائيل لأن جوهرَ الصراعِ إنتقل من مصيرِ الشعبِ الفِلسطينيِّ إلى مصيرِ الدولِ العربيّــةِ وأنظمتِـها وإلى الصراعِ مع إيران ومكافحةِ الإرهاب. وفي هذا الإطارِ يَـعمل ترامب على تحضيرِ لقاءِ مسيحيٍّ / إسلاميٍّ / يهوديِّ يُـغطّي الإنعطافَ العربيَّ نحو صلحٍ واقعيٍّ قبلَ سلامٍ رسميّ.
4) إنَّ واشنطن تَخلَّت عن مشروعِ تغييرِ الأنظمةِ ونشرِ الديموقراطـيّـة في العالم العربي (هل كانت جِديّــةً)، وإنتقلت إلى سياسةٍ واقعــيّـةٍ تقوم على تطويرِ الأنظمةِ وإقامةِ تحالفاتٍ إستراتيجـيّـةٍ معها، وذلك في ضوءِ فشلِ “الربيعِ العربيّ” من المحيطِ إلى الخليجِ والذي شَرّعَ الأبوابَ أمام الإرهابِ من جهةٍ وإيران وروسيا من جهةٍ أخرى. ورهانُ واشنطن على مشروعِ الأميرِ محمد بن سلمان “رؤيةُ السعوديّـةِ 2030” تجربةٌ قابلةُ التعميم.
5) إنَّ واشنطن بصددِ وضعِ إستراتيجـيّـةٍ جديدةٍ لسياستِـها في الشرقِ الأوسط وأسيا الصغرى محلَّ الإستراتيجياتِ الأميركـيّـةِ المُــتَّــبعةِ منذ سنةِ 1990، لا سيما تلك التي إتَّــبعها أوباما. لكن إذا كان ترامب يعرف الآن ما لا يريد، فإنه لا يعرِف بعدُ ما يريد. وواجبُ مخطِّطي الإستراتيجياتِ في واشنطن أن يضعوا خطّـةَ عملٍ وآلـيّـةً ووسائلَ تنفيذها، لأن أميركا التي كانت تُـدرك الفارقَ بين الخيرِ والشرِّ لم تكن مستعدَّةً لدفعِ ثمنِ دفاعِها غن الخير فإنتشَر الشرُّ ووصلَ إلى عُقرِ دارِها.
السعوديّـةُ خرجَت مطمئنَّــةً من هذه القِمم، والولايات المتحدة أيضاً. فعدا العقودِ المالـيّـةَ، نالت إلتزامَ المملكةِ بالأمورِ التالية: مواصلةُ تعديلِ المناهجِ التربويّــة، ضبطُ التوجيهِ الدينيّ بما يتلاءمُ مع الاعتدالِ والانفتاح، نقلُ الإسلامِ من إيديولوجيا يَستغلّها الإرهابُ إلى حقيقتِه الدينيّــة، عصرنةٌ تدريجــيّـةٌ للمجتمعِ السعودي بما يتوافقُ مع حقوقِ الانسانِ، وقف المساعداتِ عن مؤسساتٍ إسلامـيّـةٍ مشبوهةٍ في العالم، الحفاظُ على أسعارٍ متدنـيّـةٍ للنفط، إعتبارُ الولاياتِ المتّحدة الأميركــيّـة الشريكَ الأوّل على الصعيدِ الصناعيّ، بما فيها الصناعاتِ العسكريّــة.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى