كتلة اللحم

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

على الخارجين من بلاط الحلم أن يتوقّفوا عن بذل وعود لن يستطيعوا يوماً الوفاء بها، لا سيما وأن الذين أخرجوهم من أرضهم وديارهم قادرون على مطاردتهم حتى آخر حدود اليأس. يمكنهم فقط أن يحملوا أوزارهم وأوزار قومهم، وأن يرحلوا في كنف الليل سراً وهم يرتّلون تعاويذ السفر، لكن لا يجب أن يشهروا حواجبهم وجوازات سفرهم الديبلوماسية وكتبهم الدينية في وجه أحد، لأن للخروج أبجدياته كما للبقاء. فليحمل البرجوازيون والديبلوماسيون والتجار والسياسيون والكتبة وزعماء الطوائف أمتعتهم إلى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشق التخلي، لكن عليهم أن يتوقفوا عن ترديد الأناشيد الحماسية وهم يتدحرجون ككرات ثلج باهتة أمام العاصفة.
ألا فليخرج المتمردون من بلاط أحلامنا غير مأسوف على معاطفهم الملوّنة وياقاتهم البيضاء، لكن عليهم أن لا يستديروا ليروا بريق الدموع في أعين صدّقتهم ذات وعد، وآمنت بهم حين كذّبهم الناس. “لن يتوحّدوا”، قالت زرقاء الميادين، وكذّبتها جلسات السمر. وحين أسقطوا المنصة المقدسة، ورقصوا عند قبور من ماتوا، وقالوا “نسقط جميعاً، لنقوم معاً”، لم يتبعهم أحد. وحين فرّوا جميعاً، وفرّوا أشتاتاً، لم يذكرهم أحد، وكأنهم سقط ريح أو غواية مرحلة. صدق الكاتب والروائي الفرنسي “غي دو موباسان” (Guy de Maupassant)، حتى وإن كذبت شخوص روايته الفذة “كتلة اللحم”.
من جحيم الهزيمة، يفرّ عشرة فرنسيين إختلفت مشاربهم في مركبة واحدة تجرّها الجياد. يقولون في أنفسهم “مرارة الرحيل خيرٌ من رغام المهانة”، وداخل عربةٍ ضيّقة لا تتسع لأطماعهم الكبيرة، يضم تسعة منهم ثيابهم البيضاء وأغطيتهم الوثيرة حول أجسادهم، ويُقطّبون جباههم في وجه عاهرة شاركتهم رقعة الوطن رغماً عنهم ذات يوم، وقاسمتهم الأنفاس في عربة الخيل هذا اليوم من دون رغبة منهم. لم تكن “كتلة اللحم” تقل وطنية عن أيٍّ منهم، وكانت تتحمس لنابوليون بونابرت كما لم يتحمّس له أحد، وكانت تحفظ النشيد الفرنسي عن ظهر قلب، لكنها لم تستطع الحفاظ على جسدها المُترهّل من الأيدي العابثة والعيون المتلصصة، وكانت تلك زلّتها.
ثم يبسط الجوع رداءه على الجميع، وتفرض وليمة “كتلة اللحم” واقعاً أخلاقياً مُغايراً. فينسى البرجوازي مبادئه، وينسى التاجر سمعته، وتتخلّى الراهبتان عن مسبحتيهما، ويستخدم البرلماني بيانه والسياسي شواربه لإقناع العاهرة بأنهم جميعاً كأسنان المشط وأن ظروف الوطن القاسية هي التي جرّت تلك “المسكينة” إلى الرذيلة من دون رغبة منها. وتطرب “كتلة اللحم” لقولهم، فتشاطرهم محتويات سلتها العامرة، لتعود سيرتها الأولى (مجرد كتلة لحم) بعد أن يمسح الركاب ما سال من شحم حول أفواههم القذرة.
وحين يستوقفهم جندي بروسي ليسألهم عن هوياتهم، يشيح البرلماني بوجهه، وقد نسي أن لا حصانة لأحد في زمن الهزيمة. فيشدّ الجندي ذو الوجه الصارم لجام خيولهم ليصلبهم على أعواد التذلل والخضوع، فيساومهم على جسد الغانية الفرنسية، فتتأبّى عليه وتغلي مراجل الوطنية في صدور الرفاق، فيثورون في وجه البروسي اللعين. وبعد إحتجازهم لثلاثِ ليالٍ كئيبة، تهدأ عروق الوطنية النافرة، ويحاول الجميع إقناع “الفاسقة” باللهو مع الضابط العنيد حتى يتحرّروا من قبضته اللعينة. وبعد ثلة من الحجج الواهية، توافق الفاسقة “الوطنية” على التضحية بلحمها المكتنز من أجل صالح المواطنين الفرنسيين “الشرفاء”.
ويجلس المرابطون حول حجرة المذلّة، ليسمعوا تأوّهات ماجنة لجندي لم يرقب في نخوتهم إلا ولا ذمة. وبعد أن يفرغ المنتصر من إقتحام آخر حصون الشرف في صدور الفارين من الميادين، تخرج الغانية، وتخرج عربة الجياد إلى عراء الوطن، ليصدح البرلماني الفرنسي وجوقة المناضلين بالنشيد الوطني وقد إنتفخت أوداجهم وصدورهم. وفي ركن قصي من عربة الجياد، تتكوّم “كتلة اللحم” بإعتبارها دَنَساً وطنياً يُستحَبّ التخلص منه.
وتنتهي القصة هناك .. لكنها لا تنتهي هنا، ويسدل الستار هناك .. لكنه مرفوع أبد النفاق هنا. وهنا، يقف الفارون بأطماعهم وسط كل الميادين وعند كل أطراف الوطن، يرددون النشيد الوطني في حماسة، من دون أن يُصدّقهم أحد. ويتكوّم الوطن تحت أقدامهم ككتلة لحم زهيدة يبكي شرفاً ضاع ودماً تفرّق بين البرجوازيين والسياسيين والديبلوماسيين والتجار والكتبة وزعماء الطوائف. وهنا تغتصب كتل اللحم كل يوم بإسم المروءة والشهامة والوطنية والشرف، ثم تُلقى في جب الخيانة من دون أن يبكي عليها أحد، أو يترحم عليها أحد.

• أديب، كاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى