مشروعُ إبدالِ الشعبِ اللبنانيّ: ما قيمةُ المناصفةِ و67,5% من سكّانِ لبنانَ سوريّـون وفِلسطينـيّـون؟

بقلم سجعان قزي*

النازحون السوريون: يجب إعادتهم إلى بلادهم في أقرب فرصة

بقاءُ النازحين السوريّين أمرٌ مرفوضٌ من منطقِ خصوصيّـةِ الكِيانِ اللبنانيِّ وفلسفةِ ومبرِّرِ وجودِه من جهة، ومن مَنطوقِ الدستورِ الوطنيِّ ومنطَلقِ القانونِ الدوليِّ من جهةٍ أخرى. إنَّ خصوصيّـةَ لبنان الإجتماعـيّـةِ والإنسانـيّـةِ في هذا الشرق الإحاديِّ الهويّـةِ تَـلـفُـظُ أيَّ فائضٍ سكانيٍّ من شأنه أن يَـقضيَ على هذه الخصوصيّـةِ كما تَـلـفُـظُ السِمفونـيّـةُ اللحنَ الـنَّـشاز والطائرةُ الحُمولةَ الزائدةَ. لقد تأسّس لبنانُ الوطنُ والدولةُ على قاعدةِ التوازنِ بين جماعاتِه الدينـيّـة، وجاء الإعترافُ بالمناصفةِ ليؤكّدَ ثباتَ هذه الخصوصيّـةِ بمنأى عن التحوّلاتِ الديموغرافـيّـةِ بين مكـوِّناتِ شعبِه. لكنْ، ما قيمةُ المناصَفةِ بين اللبنانـيّـين أمامَ التوطينِ السوريِّ والفلسطينيّ؟
لذا وَجَب التمييزُ بين إستقبالِ النازحين السوريّين الهاربين من الحرب، وهذا واجبُـنا الأخويُّ والإنسانيُّ، وبين تحوُّلِــهم مهاجِرين ثابتين يَبحثون عن حياةٍ جديدةٍ ونمطِ عيشٍ مختلِفٍ عن ذاك الذي عرَفوه في سوريا، وهذا ما نقاومُـه.
وتزدادُ المخاوفُ حين تؤكّد دراسةُ منظّمةِ العملِ الدوليِّ: “إنَّ النازحين الذين تتوَلّى الأممُ المتّحدةُ أمرَهم يَـبقَون نحو 17 سنةً في بلدانِ النزوحِ بحكمِ غيابِ الحلولِ للأزماتِ والحروبِ التي أدّت إلى نزوحِهم، ما يجعلُ إندماجَهم في المجتمعاتِ المُضيفةِ أمراً حتمـيّـاً بفعلِ الأمرِ الواقعِ الناتجِ من الوجودِ المُستدام”. وتصبحُ المخاوفُ يَـقيناً حين نَـقرأ تقريرَ الأمينِ العامّ السابقِ للأممِ المتّحدةِ، بان كي مون، الذي يدعو فيه الدولَ المُضيفةَ إلى “دمجِ اللاجئين والنازحين عموماً وإعطائِـهم الجِنسيّـةِ في الوقتِ المناسِب”.
لا أنظرُ إلى النازحين السوريّين بعينٍ طائفـيّـةٍ، لكنَّ نظرتي، كمسيحيٍّ حريصٍ على إستمراريّـةِ وجودِه هنا وعلى وِحدةِ لبنان الميثاقـيّـةِ، تأخذ بُـعداً طائفـيّـاً حين يَتحوّل النازحون مستوطِنين. وهذا الإعتبارُ الطائفيُّ ليس طائفـيّـاً، بل هو الموقفُ الوطنيٌّ والإنسانيٌّ بإمتيازٍ لأنَّ توازنَ الوجودِ اللبنانيِّ يُـحـتِّم الإكتفاءَ بشعبِ واحدٍ على أرضٍ لبنان. إن َّ حركاتِ النزوحِ تُغـيِّـرُ المجتمعاتِ أكثرَ مما تُـغـيِّـرها الحروب.
إنتهى زمنُ كان لبنان، وتحديداً جبل لبنان، ملاذَ الجماعاتِ المُضْطـهَدةِ في هذا الشرق. يومَها كانت المساحاتُ مُشاعةً لا سيادةَ لها ولا إستقلالاً، لا كيانَ لها ولا حدوداً، لا دولةَ شرعـيّـةً تُديرها ولا شخصيّـةً خاصّـةً تُمـيّـزُ مجتمعاتِها. يومَها كانت غائبةً مفاهيمُ الديموغرافيا والإستقرارِ والإقتصادِ والنموِّ والتضخُّمِ وميزانِ المدفوعاتِ والبطالةِ وفُرصِ العملِ والضمانِ الإجتماعيِّ. كانت الشعوبُ تعيش على مبدأِ “إحْمِلْ سيفَك أو إيمانَـك وإتْـبَـعني”. كانت الجماعاتُ المغضوبُ عليها تَـلجأ إلى أيِّ مِنطقةٍ تَجِد فيها أمنَـها ومورِدَ رِزقِـها فـتَستوطِـنُـها من دونِ سِمةِ دخولٍ أو سندِ إقامةٍ أو بطاقةِ هوّية. وكانت جبالُ لبنان وِجهةَ أقلـيّـاتِ هذا الشرق عبرَ العصورِ والعهود، فإندمَجت تدريجاً مع سكّانِـه الأصليّين الأراميّين والكنعانـيّين والفينيقـيّين (صارت خيانةً أنْ نَـتذكّـرَ أصلَنا).
أما اليوم، فنشأت الدولُ بحدودِها، بهويّـاتِـها الخاصّـة، بحُرمتِـها الدستوريّـة، بأنظمتِـها السياسيّـةِ، بتوازناتِـها الداخلـيّـةِ، بمميِّـزاتِـها الثقافـيّـةِ والإجتماعـيّـةِ والحضاريّـة. أصبح هناك سيادةٌ وطنـيّـةٌ وإقليمـيّـةٌ بـرّاً وبحراً وجـوّاً. وبالتالي لا يستطيعُ أيُّ شعبٍ أنْ يجتاحَ شعباً أخَرَ تحتَ أيِّ ذريعة.
والمؤسفُ في هذا المجالِ أنَّ الأممَ المـتّـحدةَ التي أُنشئت لحمايةِ سيادةِ الدولِ تَـنقُض عِلَّـةَ وجودِها حين تَطرحُ توطينَ الفلسطينـيّـين وتَـثبيتَ النازحين السوريّين فتجنيسَهم من خلالِ مشاريعَ ظاهرُها إنسانيٌّ وباطـنُـها سياسيّ. وإذا كانت هذه المشاريعُ نتيجةَ عجزٍ عن إيجادِ حلٍّ آخَر فتلك مُصيبةٌ، وإذا كانت جُزءاً من إعادةِ رسمِ خريطةِ دولِ الشرقِ الأوسط وشعوبِـها فالـمُـصيبةُ أعظَم.
التفاهمُ الميثاقيُّ بين أباءِ الكيانِ تَضمَّن إعترافاً عملـيّـاً بــ”الإستثناءِ اللبنانيِّ” في الشرقِ مع كلِّ ما يَستَتبِـعُ ذلك من ضوابطَ وممنوعاتٍ، وفي طليعتِـها الضوابطُ القاسيةُ التي وُضِعت في قانونِ منحِ الجنسيّـةِ اللبنانـيّـةِ للأجانب. غير أنَّ الصيغةَ اللبنانـيّـةَ، بوجهِها العدديِّ والتعدّديِّ، تَـعـرّضَت لستّـةِ خُروقاتٍ سبَّبتها حركاتُ الدمجِ واللجوءِ والحروبِ والنزوح.
• الخرقُ الأوّلُ حصلَ سنةَ 1920 حين ناضل المسيحـيّـون للإنتقالِ من نظامِ المتصرفـيّـةِ حيث كانوا 83% من السكّانِ إلى دولةِ لبنان الكبير، فإنخفَضت نسبتُـهم إلى 60%.
• الخرقُ الثاني حصلَ بين سنتَي 1926 و1936 حين هَرب ألوفُ اللاجئين الأرمن إلى لبنانَ بعد مجازرِ الإبادةِ التي إرتَـكبها العثمانـيّـون الأتراك بحـقّـِهم، فــتَـمَّ تجنيسُـهم للتعويضِ عن إنخفاضِ عددِ المسيحـيّـين فكانوا مواطنين مُسالِمين وبنّـائين.
• الخرقُ الثالثُ حَصل سنةَ 1948 مع إغتصابِ إسرائيل أرض فلسطين، فإستَـضاف لبنانُ لاجئين فلسطينـيّين فـبَـقَوا فيه وبلغَ عددُهم اليومَ نحو نِصفِ مليونِ فلسطينيٍّ توطَّنوا لبنانَ بفعلِ الأمرِ الواقع.
• الخرقُ الرابعُ حَصل بعد إندلاعِ الحربِ في لبنان سنةَ 1975 ما سبّبَ هجرةً مسيحـيّـةً كبيرةً إلى مختلَفِ أصقاعِ العالمِ وإختلَّ الميزانان الجغرافيُّ والديموغرافيُّ لمصلحةِ المسلمين.
• الخرقُ الخامسُ حَصلَ سنةَ 1994 حين صَدر أخطرُ قانونِ تجنيسٍ جَماعيٍّ لنحو 250 ألفِ أجنبيٍّ غالِـبـيَّـتُـهم من السوريّين والفلسطينيّين والعربِ وباتوا اليومَ نحو 800 ألفٍ مع العائلاتِ والولاداتِ على مدى 23 سنةً.
• أما اليومُ فنشهَد حدوثَ الخرقِ السادسِ والأخطرِ مع وجودِ نحو مليونٍ و700 ألفِ نازحٍ سوريٍّ يُشكِّل بقاؤهم هنا إنتهاكاً للصيغةِ اللبنانـيّـةِ ونهايةً لوِحدةِ لبنان إستناداً للمعطيات التي أوردتُها آنِفاً، خصوصاً وأنَّ 95% من هؤلاءِ النازحين يَـنتمون إلى فئةٍ دينـيّـةٍ واحدةٍ ويَحملون معهم أفكاراً وعقائدَ مناهضةً للكِيان اللبنانيّ من الوِحدةِ العربـيّـةِ مروراً بالوِحدةِ الإسلامـيّـةِ وصولاً إلى التنظيماتِ الأصولـيّـةِ والتكفيريّـةِ والجِهاديّـةِ، وتَـفوق نسبةُ إنجابِهم نسبةَ ولاداتِ اللبنانـيّين؟
معدَّلُ مجموعِ هذه الخروقاتِ الستَّـةِ يَــكشِف رقماً مُـخيفاً: 67،5% من سكّانِ لبنانَ هم سوريّـون وفِلسطينـيّـون بين لاجئٍ ونازحٍ ومُجـنَّس. ورغم ذلك لا نَـبني جُدراناً فاصلةً ولا نَـضع أسلاكاً شائكةً بعد. لكنَّ الدولةَ اللبنانيةَ مطالَبةٌ بإحترامِ دستورِها وميثاقِـها وقوانينِـها لحمايةِ شعبِـها ومجتمعِـها وكيانِـها، كما أنَّ الأممَ المتّـحدةَ مُطالَبةٌ بإعادةِ النازحين السوريّين إلى سوريا سريعاً من خلال إنشاءِ مناطقَ آمنةٍ داخلَ سوريا. خلاف ذلك، سوريا لن تعودَ سوريا، ولبنانُ لن يبقى لبنان. أهلاً بالقرنِ التاسعِ عشَر.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى