دونالد ترامب وعملية السلام في الشرق الأوسط: مفاجأة المئة يوم!

بعدما كانت الدلائل الأولى تشير إلى أن إدارة دونالد ترامب لن تهتم بعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فاجأ الرئيس الأميركي الجديد العالم، خلال فترة المئة يوم الأولى في عهده، عندما أعلن أنه ملتزم تحقيق حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ومن أجل ذلك إستقبل أولاً رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ومن ثم الرئيس الفلسطيني محمود عباس. المستشار السابق للفريق الفلسطيني المفاوض غيث العمري يُقيِّم نتائج زيارة أبو مازن إلى واشنطن.

حركة حماس: إحدى العقبات لتحقيق ما قد يتفق عليه الرئيس عباس مع الأميركيين والإسرائيليين

بقلم غيث العمري*

خيّمت على إجتماع الرئيس محمود عباس بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، أجواءً مريحة وواعدة للزعيم الفلسطيني. كانت هناك كلمات مديح ودعم، وتأكيدٌ من ترامب على إلتزامه الشخصي بإحلال السلام، وتقديرٌ صريح لموقف عباس ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”)، والتعاون الأمني للسلطة الفلسطينية مع إسرائيل. وقد وجّه ترامب إنتقاداً واضحاً للتحريض على العنف ولكن بتعابير غير صدامية، وقد طغت على ذلك حفاوة اللقاء الخاص بين أبو مازن والرئيس الأميركي وغداء العمل الذي حضره كبار المسؤولين في إدارته. وكانت عملية السلام في الشرق الأوسط وُضِعت على هامش الأولويات الإقليمية الأميركية أخيراً، إلّا أنه كما يبدو عادت مرة أخرى إلى رأس جدول أعمال البيت الأبيض.
هذا الزخم الجديد جاء حصراً نتيجةً لإلتزام ترامب الشخصي الواضح بالقضية، كما يتّضح من إشاراته المُتكررة إلى هذه القضية في العديد من المقابلات الإعلامية، وتفويض العملية إلى صهره جاريد كوشنر والممثل الخاص الأميركي للمفاوضات الدولية جيسون غرينبلات، والتطرق إليها في محادثاته مع مختلف قادة العالم. إلّا أن إجتماع عباس – ترامب لا يُمثّل سوى المشهد الأخير للعرض الإفتتاحي للقيادة الأميركية الجديدة لعملية السلام في الشرق الاوسط، الذي سبقته لقاءات في البيت الابيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والملك الاردني عبد الله الثاني. وعلى الرغم من أن إستراتيجية كاملة لم تَظهر بعد، فإن القراءات في هذه الإجتماعات تشير إلى الخطوط العريضة للخطوات التالية المباشرة في نهج واشنطن. سيكون هناك مساران متوازيان للإشتراك الأميركي مع كل جانب في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني: دفع إسرائيل إلى التراجع عن النشاط الإستيطاني، ودفع السلطة الفلسطينية إلى خلق صوتٍ مُوحَّد ضد التحريض. وسوف يقترن ذلك ببذل جهود لجلب وإشراك دول عربية رئيسية – مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة وحلفاء آخرون لأميركا – في عملية إقليمية من شأنها أن تخلق، كما وصفها ترامب، “قماشاً أكبر” للوصول إلى سلام. وفي نهاية المطاف، سيتعيَّن على هذه المكوّنات أن تتضافر في عملية أكثر شمولاً، ولكن لكلٍّ منها تحدياته الخاصة. ولا يوجد تحدٍّ بينها لا يُمكن التغلب عليه، ولكن لفعل ذلك لا بدّ من مشاركة أميركية نشيطة وثابتة.

العوائق السياسية

بينما كان الزعيمان ووفداهما يعقدان مناقشات في واشنطن، فإن الأنباء من الضفة الغربية وقطاع غزة كانت تدعو إلى القلق. كما كان متوقعاً، أعلنت حركة “حماس” أن “لا أحد فَوَّض عباس للتحدث بإسم الشعب الفلسطيني”. وفي الوقت نفسه، تجمّع حشد كبير من الفلسطينيين في رام الله تضامناً مع السجناء الفلسطينيين المُضرِبين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، حيث إستمع إلى رسالة مؤلمة من زعيم المضربين مروان البرغوثي، قرأتها زوجته فدوى. لقد دعا البرغوثي الفلسطينيين إلى “إطلاق أوسع حركة عصيان مدني”. وعلى الرغم من أن الدعوة كانت مُوجَّهة ضد إسرائيل، فكان من الصعب تجنّب الإستنتاج بأن السلطة الفلسطينية كانت الهدف المقصود. وكان من بين الذين تحدثوا إلى الحشد كبار قادة حركة “فتح”، الذين كانت بياناتهم متشددة بعيدة من التصالح. وفي ظل هذه الظروف، سيكون من الصعب تحقيق “صوت مُوَحَّد ضد التحريض”. والأكثر صعوبة ستكون معالجة مسألة مدفوعات السلطة الفلسطينية إلى “صندوق الشهيد” والسجناء المتورطين في الإرهاب — وهي مسألة لم يُثرها ترامب في المؤتمر الصحافي، ولكنها قضية طُرحت في الإجتماعات الخاصة.
عندما يعود عباس إلى رام الله، سيتعيّن عليه التعامل مع هذه الحقائق. لكن الزعيم البالغ من العمر 82 عاماً سوف تعوقه وتُعثّره شعبيته المنخفضة، حيث يعتقد حوالي ثلثي الفلسطينيين أنه يجب أن يتنحّى، وإنخفاض ثقة الجمهور بالسلطة الفلسطينية بسبب الفساد وسوء الحكم، ودينامية الخلافة التي أُزيلت من الصفحة الأولى ولكنها ليست بعيدة من أذهان الطامحين من حركة “فتح”. كل هذه التطورات تحدث في ظل جمهور فلسطيني متشكك على نحو متزايد الذي فقد الثقة بالديبلوماسية إلى حد كبير.
قد يكون الإجتماع مع ترامب أعطى عباس دفعة ديبلوماسية، ووعود الدعم الاقتصادي والتنمية ستساعد على تعزيز مكانته، لكن المهمة المُقبلة ستكون صعبة في أفضل الظروف. وعباس، الزعيم الحذر، سيجد صعوبة فى تلبية بعض المطالب الصعبة التى ستنشأ من مناقشاته مع المسؤولين الأميركيين.
في الوقت عينه، يكتشف المفاوضون الأميركيون أن تجميد بناء المستوطنات يطرح مشاكل سياسية لنتنياهو. تعارض الغالبية العظمى من إئتلافه الحاكم وجزء كبير من حزبه الليكود أي قيود على المستوطنات. يجد رئيس الحكومة الإسرائيلي نفسه على الجهة اليسرى من حكومته — وهو موقفٌ لا أحد، بمن فيهم نتنياهو نفسه، كان يتخيّله قبل بضع سنوات فقط — ومقيداً جداً إلى حدّ أنه لم يستطِع أخيراً التعبير واللفظ عَلَناً عبارة “حل الدولتين”. كما أن وضعه كأطول رئيس وزراء إسرائيلي يخدم على مدى فترة متتالية أدّى أيضاً إلى إحساس متزايد مما يُسمى ب”تعب بيبي”، وتفاقم بسبب عدم اليقين الناجم عن عدد من تحقيقات الشرطة التي قد تؤدي (أو لا تؤدي) إلى إتهامات. ليست هناك تحديات ملموسة لقيادته في الوقت الراهن، ولكن في مثل هذا الجو المحفوف بالمخاطر، لن يكون نتنياهو متحمساً للمخاطرة سياسياً للقيام بأي شيء يثير أزمة سياسية في تحالفه.
ورداً على دعوة ترامب لضبط النفس بالنسبة إلى المستوطنات، فقد قدمت إسرائيل أفكاراً أولية مثل الحدّ من البناء الجديد في المناطق المبنية أو المناطق المتاخمة لها. وقد يكون ذلك كافياً كخطوة أولى، ولكن من المرجح أن يُطلَب من إسرائيل أن تفعل المزيد مع إستمرار العملية. ومع ذلك، شهدت الأسابيع التي أعقبت إجتماع ترامب – نتنياهو إستمرار الأنشطة الإستيطانية، بما في ذلك الإعلان عن أول مستوطنة جديدة منذ عقود بدلاً من مستوطنة أمونا التي تم إخلاؤها في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت علناً صامتة حول هذه التطورات (وكانت منضبطة بشأن منع أي تسريب لمحادثات محتملة مع المسؤولين الإسرائيليين حول هذه المسألة)، فإن هذه التطورات لم تُثر غضب الفلسطينيين فحسب بل أيضاً بعض الدول العربية الرئيسية مثل الأردن.
إن النغمة الدافئة التي تربط علاقة نتنياهو مع ترامب تُعتَبَر أصولاً سياسية، خصوصاً على النقيض من العلاقات المتوترة التي كانت تربطه بالرئيس السابق باراك أوباما. ولكن مع بدء المحادثات مع المسؤولين الأميركيين، سيجد حتماً نفسه مُضطراً إلى الموازنة بين الحفاظ على العلاقة والإستجابة لتحدياته السياسية الداخلية.
من جهتها، لا تبدو الدول العربية حريصة على المشاركة في عملية السلام كما يريدها المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون، خصوصاً إذا كان ذلك يعني المشاركة العلنية مع إسرائيل والضغط على الفلسطينيين في عملية السلام. لقد أدّى ظهور إيران كتهديد مشترك لإسرائيل ودول الخليج العربي إلى تعاون سري بين الأخيرين لمواجهة هذا التهديد. ولكن الدول العربية ليس لديها حالياً حافز لجعل هذه العلاقات علنية، ناهيك عن توسيعها لتشمل عملية السلام. إن إطار العلاقات الديبلوماسية الحالي يفي بمتطلباتها الأمنية والعسكرية من دون دفع أي ثمن سياسي محلي، ويعتقد كثيرون من مسؤوليها أن عملية السلام هي جهد عقيم محكوم بالفشل.
ويعتبر العديد من القادة العرب اليوم أن عملية السلام هي أولوية أميركية، وليست أولوية خاصة لهم. وللإنخراط فيها أكثر، فهم يريدون أولاً أن تعالج واشنطن مخاوفهم الأوسع نطاقاً في المنطقة، أي عكس ما يعتبرونه، بحق أو خطأ، تخلّي الولايات المتحدة عن دورها القيادي الإقليمي في ظل أوباما. ويشعر هؤلاء القادة بالتشجيع من تغيير النبرة تجاه إيران وبضربة 7 نيسان (إبريل) الصاروخية ضد قوات الرئيس السوري بشار الأسد بعد إستخدامه الأسلحة الكيميائية. ومع ذلك، ما زالوا غير متأكدين ما إذا كان هذا سيُترجَم إلى سياسة أميركية جديدة مُستدامة في المنطقة، وبخاصة في ما يتعلق بإيران. وإلى أن تصبح هذه الدول مُقتنعة بأن قيامها بدور نشط في عملية السلام من شأنه أن يساعد على إستمرار المشاركة الإقليمية الأميركية، فمن غير المحتمل أن تقدم أكثر من كلمات التشجيع.

عدم الصبر فضيلة؟

لدى إدارة ترامب بالتأكيد نفوذٌ في عملية السلام. لا عباس ولا نتنياهو يريد القول كَلّا لترامب وفقدان الفوائد الناجمة عن الإرتباط الوثيق معه. ولكن كلاهما مُترَدّد في القيام بأي شيء من شأنه أن يُشكّل تحدّياً سياسياً للغاية. بدلاً من ذلك، من المرجح أن يفعل كلٌّ منهما الحد الأدنى المطلق المطلوب لتلبية توقعات واشنطن. في مثل هذه الديناميكية، لا بدَّ لكلٍّ منهما من أن يتّخذ الإجراءات التي سوف ينظر إليها الجانب الآخر كعلامات سوء نية. وسيتعيّن على المسؤولين في الولايات المتحدة التعامل مع مزيد من التعقيد في علاقاتهم الإقليمية الأخرى.
مع ذلك، يُمكن التغلب على هذه التحديات. فى كلمته امام الحشد الذى تجمع فى واشنطن للإحتفال بذكرى إستقلال إسرائيل ال69، قال مستشار شؤون الأمن القومي الأميركي هيربيرت ريمون ماكماستر: “إن الرئيس ليس رجلاً يتمتع بالصبر الطويل”. كيف سيتجلّى هذا الصبر سوف يكون مفتاح إحتمالات النجاح فى عملية السلام. إذا واجه ترامب التسويفات اللامتناهية من قبل الطرفين وإلقاء اللوم على الآخر الذي إعتادا عليه سابقاً خلال عقود من المفاوضات، فإن نفاد صبره سيقوده إلى التخلي عن القضية لصالح التركيز على عدد كبير من المشاكل الدولية والإقليمية الأخرى، وعندها ستتبع عملية السلام هذه المسار الذي سارت عليه تلك التي سبقتها.
من ناحية أخرى، إذا أدّى نفاد صبر ترامب إلى فرض ثمنٍ لعدم الإمتثال، عندها قد يُصبح ذلك المحفز الرئيسي للنجاح. ولكن هذا سيتطلب إستمرار إدارة العملية من قبل مسؤولين أميركيين وإنفاق وقتٍ رئاسي ورأسمال سياسي. من السابق لأوانه والمبكر في رئاسة ترامب التوفع والتكهن بما سيحدث، ولكن ستكون هناك فرصة لتوضيح النهج الجديد عندما يزور ترامب إسرائيل في أواخر أيار (مايو) الجاري. وهناك شيء لا يمكن إنكاره هو أن نهج الرئيس الأميركي وتركيزه القوي على عملية السلام قد فتح فرصة غير مُتَوقَّعة.

• غيث العمري زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومستشار سابق للفريق الفلسطيني االمفاوض للسلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى