لماذا كان فوز إيمانويل ماكرون أكثر بكثير من مجرد هزيمة للشعبوية

فاز إيمانويل ماكرون، المصرفي الإستثماري السابق الشاب، بإنتخابات الرئاسة الفرنسية يوم الاحد الفائت (07/05/2017)، هازماً زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان، بعدما رفض الناخبون بشدة رسالة اليمين المتطرف ودعموا دعوته الوسطية إلى التغيير. وسيكون ماكرون (39 عاماً) الذي لم يسبق له أن شغل منصباً بالإنتخاب، أصغر رئيس في تاريخ الجمهورية الفرنسية البالغة من العمر 59 عاماً، بعدما قاد حملة غير متوقَّعة إجتاحت الأحزاب السياسية في فرنسا.

الجنرال شارل ديغول: بنى الجمهورية الخامسة على صورته.

باريس – علي الجوري
هَزَم إيمانويل ماكرون، السياسي المُستَقل ووزير الإقتصاد الفرنسي السابق، مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، بحوالى أكثر من 65 فى المئة من الأصوات في الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت في 7 أيار (مايو) الجاري. وبذلك، أصبح أصغر رئيس جمهورية في تاريخ فرنسا، وأول رئيس ليست لديه خبرة سابقة في منصب مُنتخَب. إن إنتصاره، الذي كان مذهلاً بالنسبة إلى مرشح خارجي ينتمي إلى حزب سياسي وليد، “إلى الأمام!” (En Marche!)، لا يُمكن تفسيره فقط بإحباط السكان الفرنسيين من العولمة والإرهاب. إن السبب لذلك هو أعمق في الماضي الفرنسي؛ في الواقع، تبدأ القصة بسلسلة من الرئاسات الفاشلة التي مرّت على البلد منذ إنتهاء الفترة الأولى للجمهورية الخامسة، التي أسسها شارل ديغول في العام 1958.
إعتبر الجنرال ديغول، زعيم قوات المقاومة الفرنسية الحرة خلال الحرب العالمية الثانية، أن بلاده لا يُمكن ان تُحكَم بشكل جيد سوى من قبل رئيس تنفيذي قوي. لقد أسس الجمهورية الجديدة على صورته فيما كانت فرنسا تواجه تهديد حرب أهلية جرّاء ثورة عسكرية في الجزائر وسط تفكك المؤسسة السياسية. وكان الهدف من الرئاسة التنفيذية القوية هو توحيد الدولة المتشاكسة، والإرتقاء فوق السياسة الإنقسامية، وتمكين فرنسا من أن تصبح رائدة عالمياً. إن الدستور الذي تم إعتماده في العام 1958 جعل رئيس الدولة الفرنسية أشبه بملك مُنتَخَب، الذي كان، على الأقل على الورق، أقوى زعيم في أوروبا. ومع ذلك، فإن الرؤساء المتعاقبين فشلوا في تطبيق المذهب الديغولي للقيادة القوية.
كان جورج بومبيدو، خَلَف ديغول ورئيس وزرائه، مصرفياً سابقاً لبقاً يفتقر إلى مكانة سلفه التاريخية، لكنه فاز بسهولة في إنتخابات العام 1969. وقد وضع البلاد على مسار أكثر ملاءمة للأعمال التجارية، سامحاً للمملكة المتحدة الإنضمام إلى ما كانت يومها السوق الأوروبية المشتركة. كان براغماتياً يفتقر إلى الكاريزما التي كان يتمتع بها ديغول، وعقد صفقات سياسية التي كان يمكن أن يرفضها الجنرال. توفي على أثر إصابته بمرض السرطان في العام 1974، وإنشق الديغوليون في الإنتخابات اللاحقة بطريقة تتعارض مباشرة مع فكرة الإرتفاع فوق السياسة الحزبية.
عندما تسلّم فاليري جيسكار ديستان مقاليد الحكم في العام 1974، إقترح وزير المالية السابق البارع إصلاحات إجتماعية مهمة وعمل بشكل وثيق مع إلمانيا الغربية. مع ذلك، كانت لديه صعوبة في المحافظة على وحدة التحالف الحاكم مع الديغوليين، خصوصاً خلال أزمة النفط في أواخر سبعينات القرن الفائت. وقد تعثّر حكمه بسبب إنتشار مزاعم الفساد، وهو أنه قبل هدية من الماس من ديكتاتور إفريقي، جان بيديل بوكاسا رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى (سُمّيت لفترة وجيزة إمبراطورية إفريقيا الوسطى بين عامي 1976 و1979). وعندما ترشّح لإعادة إنتخابه، قدّم الديغوليون، بقيادة جاك شيراك، دعماً فاتراً فقط، حيث صار يُنظَر إلى الرئيس ديستان على نطاق واسع أنه تراجع عن موقفه الإصلاحي المبدئي وتحوّل إلى محافظ مدافع عن النخبة.
فرانسوا ميتران، الذي هزمه جيسكار في العام 1974، أصبح أول رئيس للجمهورية الخامسة من اليسار في العام 1981. سياسي مُخضرم شغل منصبه الوزاري الأول في العام 1947، قاد ميتران الحزب الاشتراكي إلى تحالف مع الحزب الشيوعي، الذي كان لا يزال قوياً، والحزب الراديكالي الليبرالي. وصل إلى قصر الإيليزيه مع برنامج إقتصادي يساري جذري، الذي يدعو إلى تأميم الشركات الكبرى، وتوسيع مدفوعات الرعاية الإجتماعية إلى حد كبير، وزيادة الضرائب بشكل مرتفع جداً. وأثبتت هذه الأفكار بأنها غير قابلة للتطبيق حيث إرتفع التضخم وإنخفضت قيمة الفرنك. بين عامي 1983 و1984، خسر اليسار الإنتخابات المحلية والأوروبية وأجبر الوضع الإقتصادي ميتران على عكس مساره. وسرعان ما تبنّى سياسات تقشف قاسية التي تسببت في إرتفاع معدلات البطالة. وبإعتباره مديراً ماهراً عديم المبادىء، فقد قام بالتلاعب بالنظام الإنتخابي للمساعدة على تعزيز الجبهة الوطنية وإلحاق الضرر باليمين السائد. ورغم إضطراره الى تعيين الديغولي الجديد جاك شيراك رئيساً للوزراء بعد فوز المعارضة في الإنتخابات التشريعية في العام 1966، فقد إستطاع أن يحقق إعادة إنتخابه في العام 1988، لكن ولايته الثانية كانت مشوبة بمشاكل إقتصادية وفضائح.
من جهته لم يكن جاك شيراك أفضل ولم يحقق أي تحسّن. لقد خَلَف ميتران في العام 1995، وتولّى الرئاسة حتى العام 2007. (تم تخفيض فترة الرئاسة من سبع إلى خمس سنوات في العام 2002). وقد وضعت إدارته علامتها الدولية بمعارضة غزو العراق، لكن شيراك لم يفعل شيئاً يُذكر لتحسين الحياة في فرنسا. ولم يتطرق إلى مشاكل الاقتصاد والعمل في البلاد، كما أنه لم يتطرق إلى التوترات المتزايدة داخل مجتمعات المهاجرين التي غلت وتحوّلت إلى أعمال شغب كبرى في العام 2005. ولم تكن هناك سوى ظروف مؤسفة تعرض لها خصومه التي أدت إلى إعادة إنتخابه في العام 2002. لقد حصل على إنتصار ساحق بعدما دفعت الجولة الاولى من التصويت الجبهة الوطنية المتطرفة التي كان يقودها آنذاك جان ماري لوبان إلى المرتبة الثانية قبل الحزب الاشتراكي الذي كان يومها بزعامة ليونيل جوسبان، الذي أدار حملة سيئة، وكان عليه قيادة معركة مع مجموعة من المتنافسين الصغار الذين قسّموا التصويت اليساري. وكانت فترة ولاية شيراك الثانية إنتقاماً للمرة الأولى، مع القليل من الإجراءات الصحيحة لوضع حد للمشاكل الاقتصادية والإجتماعية المتنامية في فرنسا. وفي الوقت نفسه، في جميع أنحاء الراين، أطلقت إلمانيا برنامجاً رئيسياً للإصلاح حوّلها إلى أكثر من منافس وجودي كزعيمة للإتحاد الأوروبي.
وهذا يقودنا أخيراً إلى أحدث عهدين برئيسين لفترة واحدة. جاء نيكولا ساركوزي إلى منصبه في العام 2007 بعدما تميز كوزير للداخلية بتعزيز قوي للقانون والنظام. وقد أوتي أسلوبه الهجومي الخاص ثماره، كما فعلت وعوده بإصلاح هيكلي جدي للاقتصاد. لكنه سرعان ما فشل في الوفاء بوعوده، بسبب المحافظين المؤيدين له، وعدم وجود إرادة متزايدة لمحاربة المصالح المُكتَسبة، والأزمة المالية العالمية في العام 2008، وسمعته الخاصة كرئيس “باذخ” الذي أحرج منصب الرئاسة فيما كان هو وزوجته، عارضة الأزياء السابقة كارلا بروني، يقيمان الحفلات الساهرة مع المشاهير والأغنياء.
فرانسوا هولاند، الأمين العام للحزب الاشتراكي منذ فترة طويلة، كان التالي إلى الفوز في العام 2012 على خلفية عدم شعبية ساركوزي الشديدة وتأثير التقشف في منطقة اليورو على مستويات المعيشة. جاء هولاند إلى المنصب حيث قدّم تعهدات ضريبية شاملة لدفع تكاليف إعادة الإنعاش، ولكن هذه الخطة إنهارت بسرعة، مما دفعه إلى التناقض بين السياسات اليسارية للضرائب المرتفعة وزيادة الإنفاق العام وإصلاحات السوق اليمينية المنحى. هبطت شعبيته. ولم يساعد ذلك بأن حياته الشخصية كانت أيضاً في حالة من الفوضى. وكانت عناوين الصحف ملأى بأخباره خصوصاً عندما شوهد وهو يركب على متن دراجة بخارية “سكوتر موتور” خلال زياراته لشريكته في الإيليزيه وعشيقته لاحقاً. وتراجع معدل مؤيديه إلى أدنى مستوى له إلى أربعة في المئة. على الرغم من أنه رد بقوة على موجة الهجمات الإرهابية التي ضربت فرنسا في 2015 و 2016، حيث شعرت البلاد بأنها تحت الحصار.
يوضّح هذا الفهرس من الإخفاقات في أعلى السياسة الفرنسية صعود المرشحين غير السائدين في الإنتخابات الرئاسية لهذا العام. وقد إنفجر أخيراً الغضب الذي كان يتراكم منذ عقود عدة، وقام الطرفان الرئيسيان بإطلاق النار على أقدامهما – الإشتراكيون من خلال إختيار مرشح يساري الذي قسّم الحزب والجمهوريون اليمينيون الوسطيون من طريق الفضائح التي تزعم بأن مرشحهم فرنسوا فيون قام بتوظيف زوجته وهمياً والدفع لها مدفوعات غير مشروعة.
وبهذه الطريقة، يجسّد ماكرون آمال جيل جديد يسعى إلى تفكيك البلاد وإنقاذها من الضيق السياسي الذي أصاب القادة السابقين بالشلل. وعلى الرغم من أن ماكرون يمثّل المؤسسة الإصلاحية، إلّا أنه كان المعطل الرئيسي للحملة. والسؤال المطروح الذي يخيّم على فرنسا هو ما إذا كان ماكرون يمكن أن يضع البلاد على طريق قيادة أقوى وأكثر تركيزاً، قادرةً على مواجهة التحديات المتعددة التي تواجهها في الداخل والخارج.
الجواب بالطبع غير واضح. يواجه ماكرون تحدياً كبيراً في الإنتخابات البرلمانية في حزيران (يونيو) المقبل. حزبه “إلى الأمام!” قد يكون حديثاً جداً للفوز بغالبية المقاعد في الجمعية الوطنية. وهو يقول بانه سوف ينافس في جميع الدوائر ال577، ولكن الممثلين عن الأحزاب السائدة لهم جذور محلية عميقة. والنتيجة الأكثر إحتمالاً هي أن يقيم إئتلافاً وترتيب عمل مع الجمهوريين. فهم لن يعارضوا برنامج إصلاح ماكرون الأوّلي الهادف الى تحرير سوق العمل وجعل فرنسا أكثر قدرة على المنافسة مع خفض معدل البطالة المرتفع.
في هذا السياق، قد يتمتع الرئيس الجديد بشهر عسل قصير بعد الإنتخابات، ولكن قوات الجبهة الوطنية عن اليمين واليسار المتطرف عن اليسار، الذي يديره الاتحاد العام لنقابات العمال، ستعارضه من خلال مظاهرات تخريبية في الشوارع. في كل الأحوال، يُعتبر ماكرون متمرداً يعتنق آراء إصلاحية وليبرالية مؤيدة لأوروبا. ويمكنه أن يضع الجمهورية الخامسة على مسار جديد وأكثر إيجابية، ولكن لديه مياهاً عميقة ينبغي عليه السباحة فيها لتصحيح تراجع القيادة تحت قيادة أسلافه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى