لبنان: عودةُ اليسارِ من بابِ اليمين

بقلم سجعان قزي*

منعاً للإلتباس، هناك فارقٌ بين تغييرِ النظام اللبناني وبين تغييرِ سلوكِ أهلِ النظام، والاثنان ضروريّــــان. الأولُ يَستلزِم تعديلاً دستورياً، والآخَر يَستوجِب تغييراً إنتخابياً فقط. الأولُ يتعلّق ببنيةِ الدولة، والآخَر يتعلّق بأخلاقِ الإنسان. الأولُ يَهدُف إلى إعترافِ الدولةِ بخصوصيّـــةِ مُــكــوّناتِــها فتحترمُهم، والآخر يَهدُف إلى إعترافِ المواطنين بقوانينِ الدولةِ فيحترمونَها. لكنّ ما يَحدُث في البلاد، لاسيّما على صعيدِ الحركاتِ المَطلبيّـةِ، يَخلُط بين الأمرين. تَحْت رايةِ مكافحةِ الفساد، وهي تَستدعي قراراتٍ حكوميةً وأحكاماً قضائيةً وسهرَ أجهزةِ الرَقابةِ وضبطاً أمنياً، أي من خلالِ مؤسساتِ النظامِ القائم، تسعى قِوى إلى ضربِ النظامِ اللبنانيِّ بمفهومِه الديموقراطيّ والإقتصاديّ والإجتماعيّ.
بقدْرِ ما نطالب بتعديلِ النظامِ تعزيزاً للديموقراطية، وبــإبدالِ الطاقَمِ السياسيِّ إرساءً للشفافـــيّــة، لا يجوز بالمقابلِ أن نَحرِفَ حركةَ التغييرِ نحو متاهاتٍ غريبةٍ عن تقاليدِنا اللبنانـيّـة وتراثِنا. تَــكفينا الأحقادُ المتوارَثةُ فلا نُـضيفُ إليها أحقاداً جديدةً بين فئاتِ الناس. وتكفينا الخلافاتُ الطائفيةُ فلا نَزيدُ إليها صراعاتٍ طبقيةً. هناك أقلّيةٌ ناشطةٌ ومنظَّمةٌ تَستغلُّ صفاءَ المجتمعِ المدنيِّ وعفويَّـــتَــه ووطنـــيَّـــتَــه ورقـــيَّــه لتفرِضَ عليه “أجــنْداتٍ” مشبوهةً وهويّــــاتٍ إيديولوجيةً وشعاراتٍ تَــزرع كُـــرْهَ الآخَر والآخرين، وكأنَّ الكراهيةَ مُـــنَــشِّــــطٌ نِضاليّ. هناك أقلّيةٌ لا صِفةَ تَمثيلـــيّـــةَ لها تَـــبُـــثُّ روحَ العَداءِ بين الدولةِ والناس، بين السياسيّين والشعب، بين الحزبيِّ وغير الحزبيّ، بين الغنيِّ والفقير، بين القطاعين العامِّ والخاص، وبين قطاعاتِ الإنتاج بحدِّ ذاتِها. وهناك طرفٌ ثالثٌ يوفِّر لهذه الأقليّـــةِ تغطيةً إعلاميّــةً لخلقِ فوضى إجتماعـيّـةٍ بقصْدِ الضغطِ على الدولةِ اللبنانيةِ في قضايا لا علاقةَ لها بالفسادِ ولا بالتغيير.
تغييرُ النظامِ على هذا النحوِ يُـــعمِّقُ الطبقـــيّـــةَ، يُدمِّر الميثاقـــيّـــةَ، يُــــعمِّــمُ الفوضى ويَـــنشُر الــعِصيانَ، وكأننا في زمنِ اليسارِ الدولي الذي خَـــرَّب لبنانَ والعالمَ العربيَّ والعالمَ وسقطَ السقوطَ العظيمَ سنةَ 1990.
لستُ مَصرِفــــيّـــاً ولا رأسْمالـــيّـــاً ولا أنتمي إلى أربابِ العمل، لا بل كنت دائماً إلى جانبِ العمّالِ طَوالَ تَــــبَـــوُّئي وزارةَ العمل، وكان ممثِّـــلو الهيئاتِ الإقتصاديةِ يهاجِمونني أحياناً لاسيما حين تَـصدّيتُ للصرفِ الجماعيّ، وحين دعوتُ إلى الأخذِ بمؤشِّر الأسعارِ، وحين إعتبرتُ أنَّ الحدَّ الأدنى الحالي للأجورِ لا يَكفي، ولا بدَّ من أن يُصبح مليوناً ومئــتَي ألفِ ليرةٍ لـــمّــا تَسنَحُ الظروف. لكــنّي أحبُّ رجالَ ونساءَ بلادي الّذين يقودون الإقتصادَ والمصارفَ والمالَ والصناعةَ والتجارةَ والسياحةَ والزراعةَ، إلخ. هُـــمّ الذين يأخذون المبادراتِ ويَبنون المؤسساتِ ويُــــوفِّرون فُرصَ العملِ. فهل المطلوبُ تَكفيرُهم بلبنان؟
هل بالتشكيكِ بأهلِ المبادَرات يَـــغــتني الفقراء؟ هل باتِّهامِ هؤلاءِ تَستَــــتِبُّ العدالةُ الإجتماعية؟ هل الهيئاتُ الإقتصاديةُ مسؤولةٌ عن بلوغِ البطالةِ نحو 25% وعن وجودِ نحوَ مليونٍ وثلاثِمئِة ألفِ لبنانيٍّ تحت سقفِ الفقر؟ ليس من طبعِ اللبنانيّين أنْ يَغاروا من الغنيِّ وأن يَحسُدوا الناجحَ، ولا من صِفتهم الضغينةُ الطبقـــيّــةُ. نحن مجتمعٌ عائليٌّ مَــبنيٌّ على روحِ التكافلِ والتضامنِ والمصالحةِ، ولم يَـعرِف ثقافةَ الكراهيةِ حتى في عِزّ الحربِ والإقتتال. أما الإحتكارُ المتَـــفشّي بكثافةٍ، فما على القضاءِ سوى التحرّكِ فعليّــــاً وملاحقةِ المحتكِرين، وهم أقليّــــةٌ نافذةٌ في المجتمعِ والدولة، لئلا تبقى صورةُ النظامِ الإقتصاديِّ الحرّ المنظَّم مرادِفةً للجشَع.
هذا الجوُّ الحاقدُ المستَجِدّ يترافقُ مع ثلاثِ ظواهرَ مُريبةٍ:
الأولى: تغييبُ القضايا الوطنيّــــةِ وحَصرُ الكفاحِ بمكافحةِ الفساد، إذ هناك مَن يَستغِلُّ هذا الموضوعَ السامي لإلهاءِ الرأيِ العامّ اللبناني به فقط، فيتوقَّـــفُ عن التفكيرِ بالسلاحِ غيرِ الشرعيِّ والتوطينِ والنزوحِ والدويلاتِ والبؤرِ الأمنيّــــةِ وضبطِ الحدودِ وقانون الإنتخابات، بكلمةٍ: بمصيرِ لبنانَ المُـــــعـــرَّضِ لكلِّ الأخطارِ الكِيانــــيَّــــةِ والعسكريّــــةِ. إنَّ مصيرَ لبنان في هذه المرحلةِ ليس رَهنَ ساحتَي الشهداءِ ورياض الصلح، بقَـدَر ما هو رهنُ ما يَـتحضَّرُ ضِدَّ الجنوب وكلٍّ لبنان. أفلا يُـــفتَرضُ أن يكونَ لبنانُ موجوداً ومستقِـرًّا ومستقلاً لكي يَــنعمَ بالإستقامةِ والنزاهة؟ إن لبنانَ المنقوصَ السيادةِ الداخليةِ والحدوديةِ غيرُ قادرٍ على مكافحةِ الفسادِ والهدر وتجفيفِ مصادرِهما، وأقصى ما يُـمكِن أن يَحصلَ هو الكشفُ عن ظواهرَ جانبيةٍ لغاياتٍ سياسيةٍ وإنتخابـيّـة.
الثانية: إنَّ الحَراكَ، بكلِّ مكــوّناتِه، الصافيةِ والمزغولةِ، لم يضع أُصبعَــه بعدُ على الجرحِ الحقيقيِّ الذي يَــنزُف منه الهدرُ الكبير؛ فالخسائرُ الناتجةُ من تمويلِ الدويلاتِ تفوقُ قيمتُـــها تلكَ الناتجةَ من الفسادِ بمفهومِ العمولةِ والسمسرة. فبموازاةِ إقتصادِ الدولةِ هناك إقتصادُ الدويلات، والباقي يَـلحَق.
والثالثةُ: إنَّ التياراتِ اليساريّـــةَ تخدُم مصالحَ دولٍ غيرِ يساريّـــةٍ بل هي نقيضُ اليسار. ليست هذه الإدّعاءاتُ هواجسَ. فلقد تكشَّف اليومَ بالوقائعِ أنَّ دولاً أجنبيةً، غربيّــــةً على العموم، كانت تُغذّي جمعياتٍ غيرَ حكوميةٍ (ONG) ومجموعاتٍ شبابيةً وقِوى يساريةً عربيةً عبر وسائلِ التواصلِ الإجتماعيّ في بَــدءِ ثوراتِ “الربيعِ العربيّ” المزيَّـــف من أجل التظاهُرِ والإعتصامِ في ساحاتِ العواصمِ العربية. والخطيرُ في كلِّ ذلك أنَّ أهدافَ المحرِّكين غيرُ أهدافِ المحرَّكين وأنَّ غاياتِ اليسارِ غيرُ غاياتِ اليمين وحساباتِ السفاراتِ غيرُ حساباتِ المجموعاتِ الشبابية. هكذا تتداخل الوطنيةُ مع العمالةِ والتغييرُ مع التخريبِ والثورةُ مع الفوضى… واصمُدْ يا لبنان.
إذا نَمَت هذه الروحُ الحاقدةُ وتَــفَشَّت في المجتمعِ اللبنانيِّ، وخصوصاً في “المجتمعِ المدنيّ” الذي نُــعوِّل عليه ليكونَ بديلَ الطبقةِ السياسية، فلن يَشهدَ لبنانُ تغييرَ النظامِ بل سقوطَ النظام. لا نريد أن يَحصُلَ في بلدِنا ما حصلَ في دولِ الجِوار العربي حيث أَطلَقت الحركاتُ اليساريـــّـــةُ الثوراتِ فإمْــتَطاها الأصوليّون والتكفيريّون والإرهابيّون وهجَّروا اليساريّين الوطنــيّين. وإذ بالإستبدادِ الذي كان قبلَ الثوراتِ من فوق، أصبح بعدَها من فوقُ ومن تحت.
من هنا أخشى أن يؤدّيَ الحَراكُ المدنيُّ المخروقُ في لبنان إلى ما أدّى إليه الحَراكُ اليساريُّ في سوريا، أي إلى تعزيزِ النظامِ القائم عِوضَ تغييرِه. فما يَحدُث اليومَ في بيروت يَخدُمُ الطبقةَ السياسيّــةَ وأهلَ النظامِ أكثرَ مما يَخدُمُ مشروعَ الإصلاح، لأنَّ المجتمعَ اللبنانيَّ، وهو مجتمعٌ غيرُ ثورويّ بحكمِ طائــفـــيَّـــتِه، يخاف أن يُساقَ إلى مكانٍ فِــــتْــــنَوِيٍّ متفجِّرٍ فــيُحجِمَ عن مواصلةِ المطالبةِ بتغييرِ النظام… وتَـفشُل حركةُ التغييرٍ مرّةً أُخرى.

• وزير العمل اللبناني السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى