تونس في عين عاصفة إقتصادية كارثية

عرف الدينار التونسي أخيراً إنهياراً كبيراً في قيمته الأمر الذي رفع التضخم وزاد من حدة الأزمة الإقتصادية الكبرى التي تعاني منها تونس وباتت البلاد على قاب قوسين من الولوج إلى كارثة إقتصادية وإجتماعية خطيرة. الكاتب والصحافي التونسي المخضرم عبد اللطيف الفراتي يحاول التوقف عند ثلاث محطات تونسية في محاولة لفهم ما جرى ومحاولة إستشفاف كيفية الخروج من عنق الزجاجة.

الحكومة التونسية: هل تستطيع الإنقاذ؟

تونس – عبد اللطيف الفراتي

في العام 1958 أصدرت الحكومة التونسية عملتها الوطنية التي إختارت لها إسم الدينار وذلك بهدف إستكمال السيادة الوطنية، وعندما أقدم الجنرال شارل ديغول في السنة عينها على تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي بنصيحة من وزير ماليته بيناي، أبقت تونس في السنة التالية على قيمة عملتها الوليدة التي كان وراء بعثها رجلان هما الهادي نويرة و منصور معلى.
في سنة 1965 وأمام أزمة اقتصادية خانقة، إضطر الوزير المتعدد الحقائب أحمد بن صالح إلى تخفيض قيمة الدينار بنسبة 25 في المئة، وذلك بقصد دفع الصادرات وتنشيط السياحة الوليدة، ورفع ثمن الواردات لتحقيق توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
أعقبت ذلك أزمة سياسية حادة. فقد إجتمع إتحاد الشغل التونسي وقتها بزعامة الحبيب عاشور ومشاركة فرحات حشاد وعبد العزيز بوراوي ومحمد كريم وغيرهم من المؤسسين الأوائل للنقابة الوطنية، وأصدروا بياناً يندّد بهذا التخفيض ويطالب بالتعويض للطبقة الشغيلة عما أصاب طاقتها الشرائية من تدهور نتيجة هذا التخفيض. وكنتُ أيامها أعمل كسكرتير ليلي للتحرير في جريدة “الصباح”، أي أني أتمتع بحرية مطلقة في النشر من عدمه، عندما جاءني الصادق بسباس، الموظف آنذاك في الإتحاد بعدما إشتغل لمدة سنوات في جريدة “الصباح”، وأعطاني البيان الذي نشرته، وإنفردت به الجريدة دون غيرها حيث لم يكن أحد يجرؤ في حينه على نشر بيان معارض وينتقد الحكومة. قامت زوبعة أولاً لمضمون البيان وثانياً لنشره، وكان من المُفترَض أن أُطرَد من عملي، لولا الوقفة الشجاعة للحبيب شيخ روحه مدير الجريدة، وعبد الجليل دمق نائب رئيس التحرير.
بعدها تم إفتعال قضية للحبيب عاشور ووُضع في السجن بتهم واهية، وكان لنا أن نقف إلى جانبه في المحاكمات التي إتُّهم فيها في تحدٍّ للسلطة التي قامت وقتها بإقالة الجانب الأعظم من القيادة النقابية، وأسندت الأمانة العامة للنقابي العريق النوري البودالي في إنتظار إنعقاد مؤتمر لا شرعي إنتُخب خلاله البشير بلاغة، وكان والياً لا علاقة له بالعمل النقابي، في منصب الأمين العام.
في سنة 1966، كان الدينار يساوي دولارين ونصفاً، عندما قمت بزيارتي الأولى إلى الولايات المتحدة وإلى مدينة “سيدر رابيدس” بالذات، حيث كنت بمعية البشير طوال من جريدة العمل في ذلك الحين. وقد إستضافنا على عجل عز الدين الشريف أو “آزي” كما يدعوه الأميركان، وهو الشقيق الأصغر لصالح المهدي الفنان المبدع. وآزي سيصبح لاحقاً عمدة مدينة “سيدر رابيدس”. ولما لم يكن أخطر مُسبَقاً زوجته اللبنانية، فإنه مرّ على دكان يبيع “الفراخ” المُحمَّرة وإشترى فرّوجاً وضعه البائع في ما يشبه الطربوش الورقي، ودفع ثمنه دولاراً واحداً، ورحنا إلى البيت، حيث قضينا أمسية لا تُنسى مع آزي وزوجته وإبنيه الصغيرين.
إذاً، في سنة 1966 كان الدينار الواحد يساوي 2.5 دولاراً.
ولكن وفي سنة 1975 كنت وزوجتي في زيارة إلى باريس، وكانت العشر فرنكات فرنسية لا تكاد تساوي ديناراً تونسياً واحداً، بل 750 مليماً فقط.
في العام 1994 كنت ضيفاً على وزارة الخارجية الأميركية، في ما يُسمّى “الزائرون سنيور” (ٍSenior Visitors)، وكانت صُرفت لي منحة مجزية كما يتم مع الضيوف الأجانب الكبار المدعوين. وكان علي أن أدفع من تلك المنحة كل نفقاتي بما فيها الإقامة والأكل والتنقل وشراء الكتب. وإذا كان الفندق محدداً لضمان مستوى معين، فإن المأكل والتنقل كان حرّاً، لذلك ولتجنب الأكل في مطعم الفندق المرتفع الثمن، كنت أنزل إلى مكان قريب صباحاً فأتناول فطوراً صباحياً من كأس كبير بالحليب والقهوة مع “كرواسان” بدولار واحد، وكان يساوي بالتمام والكمال ديناراً واحداً. وكثيراً ما كان يأتيني سائق السفارة ليأخذني لزيارة صديقي إسماعيل خليل، السفير الذي بعدما طُرِد شر طردة من منصب وزير الخارجية في 28 آب (أغسطس) 1990، تم اللجوء إليه، لتسوية العلاقات مع الولايات المتحدة، بعد أن ساءت على إثر الموقف الرسمي التونسي الذي اتخذه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بشأن أزمة إجتياح الكويت، كما تم اللجوء إلى قاسم بوسنينة لتسوية العلاقات مع المملكة العربية السعودية للسبب عينه.
وكنت أيامها ألتقي كذلك بفيصل قويعة وأتسوّق معه الذي عُيِّن لاحقاً كاتب دولة في وزارة الخارجية، ويشغل حالياً منصب السفير في واشنطن.
عندما تم إصدار اليورو إستبدلت الوحدة النقدية الأوروبية الجديدة في بداية سنوات الألفين بدينار و250 مليماً.
من كل هذا أستخلص أن الدينار فقد من قيمته مقابل الدولار في 1966 حوالي 75 في المئة، وبالنسبة إلى سنة 1994 فقد خسر 60 في المئة من قيمته. ومقابل اليورو عند إحداثه في بداية القرن الحالي فقد فقد 55 أو على الأصح 58 في المئة من قيمته.
وهذا يعني بالنسبة إلى أي عملة، التي هي رمز من رموز السيادة الوطنية للدولة، إنهياراً فظيعاً، وضربات متوالية للاقتصاد الكلي، وإنخفاضاً كبيراً للطاقة الشرائية للفرد.
وإذ كان ذلك بقي مستمراً بمرور الزمن، فإن الأمر إحتدّ منذ 2011، حيث إنتهت سنوات الرخاء النسبي رغم تآكله التدريجي حتى قبل ذلك.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى المجموعة الوطنية وإلى الأسرة والفرد؟

المفروض أن تدهور عملة ما يستهدف أمرين إثنين:
أولهما: دفع الصادرات، بإنخفاض أثمان السلع والخدمات داخلياً بما يجعلها أقدر على المنافسة في السوق العالمية، فيقع الاقبال عليها، ويكون هذا عادة عندما تكون السلع أو الخدمات مثل السياحة متوفرة، ولكن قدرتها التنافسية محدودة، بحيث يعطيها صدمة شبه كهربائية، تجعل الإقبال عليها أكبر.
غير أن الواقع هو أنه لا يتوفر لدى البلاد فائض إنتاجي يمكن أن يكون مدعاة لإقبال المورّدين الأجانب عليها. أما بالنسبة إلى السياحة والتصدير على عين المكان، فإنه وإضافة إلى العجز الهيكلي للسياحة التونسية مقارنة بالمغرب ومصر وتركيا التي تشبه السياحة التونسية، فإن أزمة السياحة متأتية من أسباب سياسية مثل الارهاب، وعدم وضوح الرؤية، وضعف الاستقرار الداخلي، وغياب الدولة، إضافة إلى الإضرابات والإعتصامات وقطع الطرق والمنع من العمل بما يفقد البلاد كل مصداقية.
وثانيهما: ردع الإستيراد، بالنظر إلى أن إنخفاض قيمة الدينار تؤدي أوتوماتيكياً إلى إرتفاع أسعار المواد المستوردة، إذ ينبغي توفير دينارات أكثر لإستجلاب السلع والخدمات التي يحتاجها الناس. ولما كانت البلاد تأكل ما لا تنتج أو ما ينبغي أن يعوّض ما لا تنتج، فإنه ينبغي وضع سياسة حازمة لردع إستيراد الكماليات من ” القليبات” التركية إلى مواد التجميل إلى الملابس الفاخرة، إلى السيارات الفارهة أو حتى البسيطة.
لكن هل أن لدى الحكومة الحالية عزماً على إتخاذ مثل هذه القرارات، التي قد تغضب طبقة من المواطنين همّها التفاخر أو تُقلّل من أرباح الفئات المُقرَّبة والتي تحرص سلطة ما بعد 2011 كما التي كانت قبل 2011 على عدم إغضابها؟
غير أن الانزلاق المتواصل للدينار وبخاصة منذ أيام والواضح أنه سيستمر، لن يؤدي فقط إلى ردع الإستيراد غير الضروري، بل من شأنه أن يرفع أسعار المواد المصنعة ونصف المصنعة التي تحتاجها الصناعة والسياحة والفلاحة والتجارة وغيرها، وهو ما يؤدي أوتوماتيكيا إلى إرتفاع أسعار المنتجات سواء المخصصة للسوق المحلية أو للتصدير للسوق الخارجية، بحيث يقع ضرب القدرة التنافسية خارجياً، ويتم إرتفاع الأسعار وإستيراد التضخم داخلياً.
هذا فضلاً عن إرتفاع بلا ضوابط لحجم المديونية الخارجية، المحررة إما باليورو أو الدولار وبدرجة أقل بالين الياباني. وإذ تبقى تلك الديون على قيمتها الأصلية بعملتها، فإن البلاد تحتاج إلى دينارات أكثر لسدادها، ومن هنا وهناك من يقول أن إنزلاق الدينار في الأيام الأخيرة فضلاً عما سيحدث في الأيام والأسابيع المقبلة سيرفع حجم المديونية المرتفع أصلاً والبالغ ما بين 60 و62 في المئة إلى ما بين 70 و75 في المئة من الناتج الداخلي الخام (40 في المئة سنة 2010)، وهي مديونية مطالب بدفعها الفرد التونسي، وستثقل كاهل الأجيال المقبلة. وإذا كانت المديونية ضرورية، فإنها إذا بلغت حجماً عالياً تصبح عبئاً على الإقتصاد الكلي وعلى الفرد حاضراً ومستقبلاً.
وإذا كان الناتج الداخلي الخام للفرد إرتفع إلى 7 آلاف دينار، فإنه بالدينار القار إنخفض إلى ما هو أدنى مما كان عليه سنة 2010، فيما وبالدولار وهي العملة المعتمدة دوليا لقياس قوة اقتصاد ما فإنه إنهار إنهياراً كبيراً.
ولكن في المستقبل المنظور والقريب، فإن كل الطبقات في المجتمع ستشعر بعبء الحياة كما لم يسبق لها منذ الاستقلال، وستفتقد وتودع لسنوات قد تطول سهولة الحياة التي سبق أن عرفها التونسيون. وبعدما كان الفرد ينتظر لأبنائه مستقبلاً أفضل من الذي عاشه، فإن صعوبة الحياة المقبلة، ستجعله لا يفكر في أبنائه، بل في الكيفية التي سيواجه بها شظف العيش، ومن تعوّد ركوب سيارته الخاصة من أبناء الطبقة الوسطى فإن عليه أن يودّع حلم السيارة الخاصة، وعليه أن يتعود على النقل العمومي الذي هو في أسوأ حالاته، حتى بالمقارنة مع البلدان المجاورة، وعليه أن يكتفي بما يذكر بحال الروسيين بعد ثورة 1989/1990 التي لم تنقذهم منها إلا إكتشافات بترولية ضخمة ليست مُتاحة لتونس، لا بسبب شح باطن أرضها فقط، بل كذلك بسبب سياسات معينة وإتهامات خطيرة بالنهب والفساد، ليس من شأنها أن تشجع الشركات المنقبة الدولية للقدوم إلى بلادنا أو الاستثمار فيها وتحقيق إكتشافات بترولية أو غازية قد تكون كامنة. ولعل المطمح الوحيد للتونسي اليوم هو الهروب من “جحيم ” هذه البلاد للإسترزاق في دنيا الله الواسعة، سواء بالطرق القانونية لمن يحملون كفاءات مطلوبة، أو بإعتماد الهجرة غير القانونية.
هذا فضلاً عن ترك الجانب الأهم والمتمثل في أن التونسي ليس من الطبقة الدنيا بل حتى من الطبقة الوسطى بدرجاتها الثلاث وغالبها من الأجراء، سيرى مستوى حياته ينحط، وبخاصة من الأبناء العاطلين ومن متقاعدي القطاع الخاص.

كيف وصلنا إلى هذه الحال وهل هذا هو قدرنا؟

الثورة أو الإنتفاضة ليست هي السبب. لقد كانت فرصة رغم أنها لم تكن تحمل السمات التقليدية لطبيعة الثورات من فكر مسبق ومن قيادة مهيأة. فالثورة قدمت للشعب التونسي مقوّمات الحرية وإقرار الحقوق الفردية والعامة للإنسان، ولكن التونسي عموماً وطبقته السياسية الحاكمة لم تعرف كيف تتصرف في فرصة صنعها الشعب، بقطع النظر عن الأسباب والظروف، وما إذا كانت أيد خارجية وراءها أم لا.
فالحكومة التي تولت السلطة بداية في 2012 كان عليها أن تصارح الشعب بحقيقة الأوضاع ، وتأخذ الثور من قرونه وتقدم على إصلاحات يتطلبها كل تغيير ثوري. لكنها فوّتت على البلاد فرصتها، ما إضطر الرجل الوحيد الذي كان له تشخيص وحل واضح أي وزير المالية حسين الديماسي إلى الإستقالة بعد 6 أشهر من تشكيل حكومة الترويكا (النهضة)، فتابعت الحكومات المتوالية النهج عينه اللامسؤول في محاولة لربح الوقت، والتقرّب من عواطف الناس، عبر زيادات سخية في الأجور، وإثقال كاهل الإدارة العمومية بالمزيد من الموظفين والمستخدمين فوق الحاجة والطاقة، ووصول العدوى إلى القطاع الخاص حيث حلّت قلة الإنضباط محل الحزم في التسيير، وترك مختلف الإختلالات في التوازنات الداخلية والخارجية تحل محل التصريف السليم للعوامل الاقتصادية التي تتسم بعناد علمي تُرك جانباً، فضلاً عن التسيّب الكامل، فإنهار الإنتاج، وتراجعت الإنتاجية، وزاد الإستهلاك من دون مقابل إنتاجي، وتم اللجوء إلى مديونية عالية لا تدعمها مشروعات ذات مردودية. وما زالت السلطات القائمة تواصل إطراء العواطف الشعبية التي ارتفع مقدار مطاليبها بقدر تراجع ثروة البلاد. وأمام كل هذه العوامل مجتمعة، كان لا بدّ للعملة الوطنية من أن تتراجع قيمتها الابرائية، مضافاً إلى ذلك رفع مقدار السيولة المالية من دون أي مقابل إنتاجي بل فقط لعدم إختناق السوق، فيما الحكومة ما زالت سائرة على الطريق عينه لسنوات الرخاء النسبي .
ما هو الحل؟ في مثل هذه الظروف، التي لا تعتبر بدعة، بل مرت فيها شعوب كثيرة قبل أن تسترجع وعيها، وتُقدِم على إصلاحات موجعة، كانت تكون أقل وجعاً لو إتُخذت منذ 2012، ولكننا اليوم وفي سنة 2017، في مواجهة الكارثة التي لم يقع تفاديها في الوقت المناسب.
السؤال : هل بالإمكان القيام بإصلاحات مؤلمة اليوم وقد تعوّد الشعب على التراخي والإرتخاء.
هذه الحكومة أو حكومة غيرها ـ ليس مهماً ـ برجال خبرة ذوي عزيمة، يمكنهم أن يقوِّموا ما إعوجّ خلال سنوات قليلة، ولكن بقرارات حازمة وشعب واع ومنظمات نقابية مسؤولة وداعمة.
لقد عشنا 5 سنوات أو ست، فوق مستوى إمكاناتنا الفعلية، وها نحن ندفع الثمن رغم إرادتنا، نتيجة سوء تصرف حكومات لا مسؤولة عرفناها بعد الثورة.

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي مخضرم تونسي، رئيس تحرير سابق لصحيفة “الصباح” التونسية المستقلة. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى