لا قَسَمٌ ولا خِطابُ قَسَم

بقلم سجعان قزي*

عدمُ وَضْعِ قانونٍ إنتخابيٍّ جديدٍ في لبنان فَشلٌ للعهدِ الرئاسيِّ وهزيمةٌ للطبقةِ السياسيّـة. وإذا كانت الطبقةُ السياسيّـةُ لا تُبالي بهزيمةٍ إضافـيّـةٍ (ما همُّ الغريقِ من البَـلَلِ؟)، فالعهدُ حريصٌ على تنفيذِ ما إلتزَم به ـــ على الأقلِّ ـــ في خِطابِ القَسَم. لكنْ، كيف لرئيسِ جُمهوريّـةٍ في ظِلِّ دستورِ الطائف أنْ يُـحقِّـقَ ما يَـلتزمُ به، وأقصى صلاحـيّـاتِه الإحتكامُ إلى المادّةِ 59؟ وماذا بعدَها؟ أيُـطـبِّـقُ المادّةَ على نفسِه فـيَـتركُ قصرَ بعبدا مدّةَ شهرٍ ويقودُ التظاهُرات؟ أيُــؤَسِّسُ جمعـيّـةً لا تَــبْـغي الربحَ ويشاركُ المجتمعَ المدنيَّ في العِصيان؟ أيستقيلُ إحتجاجاً ثم يعودُ عن إستقالتِه كما فعلَ الرؤساءُ فؤاد شهاب (تمّوز/ يوليو 1960) وشارل حلو (تشرين الأوّل/ أكتوبر 1968) والياس سركيس (تمّوز/ يوليو 1978)؟ ومَن يَـضمَنُ أنَّ القادةَ سيُـهروِلون راجين إيَّـاه سحبَ إستقالتِه مِثلما فَـعل أسلافُهم مع أسلافِه؟
من دونِ النحيبِ على ضريحِ الصلاحيّـاتِ الرئاسيّـة ـــ وهْيَ لن تعودَ ـــ ما فائدةُ أنْ يَـتلوَ رؤساءُ الجمهوريّـةِ بعد الطائف خِطابَ القسَمِ ما دامَت صلاحيّـاتُـهم لا تَسمحُ ـــ وحدَها ـــ بتنفيذِ مَنطوقِ القسَم ووعودِ الخِطاب؟ قد يكفي “إعلانُ النـيّـات”.
واللافتُ أنَّ الرؤساءَ اللبنانيين الثلاثةَ الّذين إستعمَلوا سِلاحَ الاستقالةِ، كانوا يَـتمـتَّـعون بصلاحيّـاتٍ دستوريّـةٍ واسعةٍ، ورُغم ذلك لم يتمكّنوا من إتّـخاذِ قراراتٍ تنفيذيّـةٍ حاسمةٍ. هذا يَـعني أن المسألةَ ليست دستوريّـةً فقط بل سياسيّـةٌ بإمتياز. فهؤلاء الرؤساءُ، ولأسبابٍ سياسيّـةٍ تتعلَّقُ بالوِحدةِ الوطنـيّـةِ، فَـضّلوا عدمَ ممارسةِ حقِّـهِم الدستوريِّ بإستخدامِ ما أُسمّـيها “صلاحـيّـاتِ الطوارئ”.
لذلك، تُـفترَضُ إعادةُ النظرِ بثغراتِ دستورِ الطائف من مُنطلَقِ تحديدِ طبيعةِ النظامِ اللبنانيِّ وليس من زاويةِ الصلاحـيّـاتِ الرئاسيّـةِ فقط. فالنظامُ الحاليُّ هَجينٌ، إذ هو على خطِّ التماسّ بين دستورِ دولةٍ مركزيّـةٍ ودستورِ دولةٍ فِديرالـيّـة. وبالتالي، إما أنْ يُـصحَّحَ لنعودَ دولةً مركزيّـةً بقيادةِ رئيسِ جُمهوريّـةٍ واحدٍ لجمهوريّـةٍ واحِدةٍ، وإما أنْ يُـصـوَّبَ لنَبلُـغَ الدولةَ الفِديرالـيّـةَ. حالـيّـاً نعيشُ الحالتين معاً: دولةٌ مركزيّـةٌ بقيادةِ “حزبِ الله” ودولةٌ فِديرالـيّـةٌ بقيادةِ رئيسِ الجمهورية، وآخِرُ تَجلـيّاتِ المُساكَنةِ بين الدولتين: زيارةُ “حزبِ الله” الإعلامـيّـة إلى الجَنوبِ الحدوديِّ وأخرى ــ إعلامـيّـةٌ أيضاً ــ لرئيسِ الحكومةِ؛ والجيشُ يَرعى الزيارتين، والله يُحِبُّ المُحسِنين.
في ظِلِّ هذه الإزدواجـيّـةِ القاتلةِ الكِيان، تَصعُبُ ولادةُ قانونٍ إنتخابيٍّ عادِل، فالـيَـنبوُعُ الماِلحُ لا يَرفِـدُ جدولاً عَذْباً. وبينما يَتشعَّب الجدلُ حولَ قوانينِ الإنتخابِ وأشكالِـها وهِندامِـها ويتبارى أهلُ الإغتصابِ في طرْحِها، سَها عن البالِ أنَّ الدافعَ الأساسيَّ لتغييرِ قانونِ الستّـين هو تصحيحُ التمثيلِ المسيحيّ. هذا كان المُنطلَق. أما اليوم، فنشَهدُ تَمييعَ تصحيحِ التمثيلِ المسيحيِّ بتكثيرِ مشاريعِ القوانين، وبِـحَـرْفِ النقاشِ نحو تمثيلِ المرأةِ والمجتمعِ المدنيِّ والشبابِ والنقاباتِ وصولاً إلى عائلاتِ الحيِّ الواطي وأقلـيّـاتِ الحيِّ العالي وحامِلي أوراقٍ قيدَ الدَرس.
صحيحٌ أنَّ جميعَ هذه الشرائحِ الإجتماعـيّـةِ مَنقوصةُ الدّورِ السياسيِّ، ولاسيّما النساءُ والشبابُ، وحـقُّـها أنْ تَشترِكَ في نهضةِ المجتمعِ والدولةِ والأمّـةِ من خِلالِ بلوغِ الندوةِ النيابـيّـةِ والحكومةِ وسائرِ مؤسَّساتِ الشأنِ العامّ. لكنَّ الأولويّـةَ الميثاقـيّـةَ والوطنـيّـةَ في مجتمعٍ طائفـيٍّ بهيكلـيَّـتِه الدستوريّـةِ والسياسيّـةِ والإداريّـة هي أنْ يستعيدَ المسيحـيّـونَ حُسنَ تمثيلِهم. وبإنتظارِ العَلمنةِ، ولن تأتيَ في هذا العصرِ مَهما إنـتَـفضْنا وتَظاهرْنا، مكتوبٌ علينا، نحن العَلمانيّين اللبنانييّن، أنْ نمارسَ طموحاتِنا السياسيّـةَ ودورَنا التجديديَّ من خِلالِ “كفيلٍ طائفيٍّ”. ومؤسِفٌ أنْ أقولَ إنَّ العَلمنةَ وراءنا لا أمامَنا. تَـظهرُ الوردةُ بين الأشواكِ لكـنّـها تَذبُــل سريعاً.
لذا، يُستوْجبُ أنْ تعودَ نِقاشاتُ قانونِ الإنتخابِ إلى مُنطلَقِـها الأساسيِّ، وهو تصحيحُ تمثيلِ المسيحيّين، نساءً ورجالاً، من دونِ المَسِّ بصِحَّةِ تمثيلِ المُكوِّناتِ اللبنانـيّـةِ الأُخرى. وفي هذا السياقِ، يَجدُر بالمسيحـيّين أن يَـتحَلّوا بالواقعـيّـةِ. فالميثاقـيّـةُ الوطنـيّـةُ ليست مُناصفةً أو مُـرابَـعةً أو مُـثالثةً، بل هي تكاملُ الأحلامِ الوطنـيّـةِ. والمُناصَفةُ الميثاقـيّـةُ ليست عدديّـةً ولا حسابيّـةً، بل هي نوعـيّـةٌ نُـخبويّـةٌ وموقِفٌ وطنيّ. بمعنى آخر، لا يَجوز في نظامٍ طائفيٍّ أنْ يَـتفرَّدَ غيرُ المسيحيّين بإنتخابِ أكثريّـةِ النوّابِ المسيحيين، ولا يُسْتحسنُ بالمقابِـل في مجتمعٍ صيغويٍّ أن يَنتخبَ المسيحـيّـون وحدَهم كلَّ نوابِّـهم ألــ 64. فلا الديموقراطـيّـةُ تسمحُ بذلك ولا الديموغرافـيا تُسهِّـلُـه، خصوصاً حين نرى خِياراتِ المسيحـيّين ناخبينَ وقادةً وأحزاباً. وهل نَسينا نـوّاباً مسيحيّين إنـتُـخِبوا بأصواتٍ مسيحـيّـةٍ قُـحٍّ، وذهبَ ولاؤُهم إلى مرجعـيّـاتٍ خارجَ بيئتِــهم ودولتِهم؟ أنُسَمِّـيـهِم؟
قد يَـصدُم هذا الكلامُ وسَطاً مسيحـيّـاً شعبويّـاً، لكنَّ الأفضلَ أنْ يَصدُرَ علناً عن مسيحيٍّ أمضَى حياتَـه يُـدافعُ عن دورِ المسيحيّين حتى تأييدِ القانونِ الأرثوذكسيِّ المُـثَلَّثِ الرَحَمات، عِوَضَ أنْ يَصدُرَ عن الآخَرين وقَد باتوا يُـردِّدونَـه في مجالسِهم، حتّى نَسَوْا صِراعاتِـهم المَذهبـيّـةَ وتوحَّدوا تجاهَ أيِّ قانونٍ يُـنصِف التمثيلَ المسيحيّ فعلـيّـاً.
لا نستطيعُ كمسيحيّين، من خلالِ قانونِ الإنتخاباتِ وحدَه، أنْ نَستعيدَ ما خسِرناه في الحروبِ مع الآخَرين وضِدَّ بعضِنا البعض، وما خسِرناه بتنازلاتٍ وتسوياتٍ كان تَـفاديها مُمكناً لولا نزعةُ الإحاديّـةِ والأنانـيّـةِ وداءُ السيطرةِ. إنْ كان جُزءٌ من التنافسِ على أصواتِ المسيحييّن هو بين القوى المسيحـيّـةِ والقِوى الإسلامـيّـة، فالجُزءُ الآخَرُ منه هو بينَ القِوى المسيحـيّـةِ نفسِها. فالخلافُ ليس على المناصفةِ بين المسيحيّين والمسلمين، بل أيضاً على الأوّل بين المسيحـيّين.
هل بعدَ ذلكَ نسألُ: لماذا تَحِـلُّ بنا النَكـبَـاتُ منذُ أواسِطِ ثمانينات القرن الفائت؟

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى