عواقب الإستيلاء على الأراضي في العراق والمُنافَسة على إقليم “داعش” المُحرَّر

قد تكون إزالة تنظيم “داعش” والقضاء عليه من الضرورات الملحة لوقف العنف في العراق، ولكن يبدو أن هناك ظواهر قد تهدّد مستقبل البلاد إذا لم تواجهها الحكومة العراقية وتسعى إلى إتخاذ موقف سريع منها وحلها بعد إنهاء عملية الموصل.

الجيش العراقي: فرصة لإعادة تجنيد السنّة والأكراد بين صفوفه

بغداد – محمد زين الدين

مع إنهيار تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) يبدو وشيكاً، فإن كل المجموعات السياسية العراقية تقريباً والميليشيات المرتبطة بها تهرع للسيطرة على الأراضي المُحرَّرة حديثاً في محافظات الأنبار وديالى وكركوك ونينوى وصلاح الدين. أما أكثر مجموعة أحرزت نجاحاً في هذا المجال فهي وحدات الحشد الشعبي، وهي مظلة تضم أكثر من ثلاث عشرة جماعة مسلحة معظمها شيعية تشكّلت في العام 2014 لمحاربة “داعش”، والحزب الديموقراطي الكردستاني، أحد الأحزاب السياسية الكردية الرئيسية في العراق. (وفي الوقت نفسه، كانت الحكومة العراقية بطيئة جداً في العمل على إستعادة أراضيها).
بعض الأراضي التي من المرتقب الإستيلاء عليها غنية بالنفط، والسيطرة على المزيد من الأراضي يعني كسب المزيد من النفوذ السياسي في بغداد. والأكثر من ذلك فإن المحافظات الخمس، التي تقع فيها الأراضي، كانت موضع نزاع حتى قبل إستيلاء “داعش” عليها في العام 2014. وإدَّعت كلٌّ من حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة في شمال العراق والحكومة المركزية في بغداد السيادة عليها. لكن إستيلاء تنظيم “الدولة الإسلامية” على هذه الأراضي أعاد بشكل أساسي تحديد المشهد السياسي والعسكري في هذه المناطق، مما سمح لهذه القوى السياسية والعسكرية وضع جوهر جديد.
في محاولة للسيطرة على المناطق التي هي في غالبيتها سنية أو كردية أو مزيج، كان على الجماعات الشيعية والكردية أن تلجأ إلى عبور خطوط إثنية وطائفية لكسب تأييد السكان المحليين وتجنيد الجنود في قواتها العسكرية. من ناحيتهما حاول الحشد الشعبي والحزب الديموقراطي الكردستاني تجنيد العرب السنة، الذين يشكّلون نحو 25 في المئة من مجموع سكان البلد ويعيشون في تلك المناطق المُحرَّرة تقريباً. لقد تُرِكوا مع قليل من التمثيل أو السلطة السياسية أو الأمن، لأنه حتى قبل مجيء تنظيم “داعش”، فقد تمّ إبعاد زعماء السنة الأقوياء عن إتخاذ قرارات الحكومة المركزية، فيما فقد القادة الضعفاء المصداقية لدى السكان المحليين.
ويقوم الطرفان أيضاً بتجنيد الأكراد الذين يعيشون في مدن شمال ديالى (جالولا وخانقين ومندلي) وشمال صلاح الدين (طوز خورماتو). ويخضع بعض المناطق لسيطرة الإتحاد الوطني الكردستاني، وهو الطرف السياسي الكردي الرئيسي الآخر، الذي ينافس فيها تاريخياً الحزب الديموقراطي الكردستاني، ولكنها منفصلة مناطقياً. وقد تأثرت هذه المنطقة بشدة بالأزمة المالية عندما تحطمت أسعار النفط. كما تأثرت بشدة بالحرب ضد “داعش”. ووفقاً لعثمان الزنداني، رئيس فرع السليمانية لإتحاد العمال الكرد، فإن البطالة الآن أكثر من 20 في المئة. كما إنخفضت الرواتب أيضاً. فعلى سبيل المثال، تدنّت رواتب موظفي القطاع العام بنسبة تتراوح بين 40 و70 في المئة، وما زالت الحكومة غير قادرة على دفع المرتبات في الوقت المحدد — وهي حالياً متأخرة شهرين.
إن عبور الخطوط العرقية والطائفية هو مناورة براغماتية لا تُبشّر بالضرورة بالعلاقات الطيبة بين المجموعات. في الوقت الراهن، يحتاج كلٌّ من الحشد الشعبي والحزب الديموقراطي الكردستاني إلى زيادة قوتهما العاملة (العديد) لحماية أراضيهما الجديدة، ولكنهما يجدان أن التجنيد داخل مجموعاتهما الخاصة قد وصل إلى حدوده. لذا كان العبور عبر خطوط الطوائف في الآونة الأخيرة طريقهما الوحيد للتوسع.
قبل وصول “داعش” والأزمات الإقتصادية، كان هذا الأمر غير مسموع به تقريباً. كان من النادر جداً رؤية عربي في البشمركة الكردية، أو في القوات العسكرية، أو كردي أو عربي سني في وحدات الحشد الشعبي. الآن صار الوضع معقولاً أكثر بكثير. على الرغم من أن الفصائل المتشددة مثل كتائب “حزب الله”، وهي جماعة شيعية شبه عسكرية (غير مرتبطة ب”حزب الله” في لبنان)، غير راغبة في التنويع خوفاً من فقدان مؤيديها الرئيسيين، فهي ليست مشكلة بالنسبة إلى المجموعات الأكثر إعتدالاً، مثل منظمة “بدر”، وهي أكبر مجموعة في وحدات الحشد الشعبي. على سبيل المثال، عندما نصب “داعش” كميناً وقتل ستة من أعضاء “بدر” في شمال ديالى في 11 شباط (فبراير) 2017، كان ثلاثة منهم من الأكراد السنة. وقال أكرم صلاح رئيس الفرع 22 في الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يوجد مقره في قرمان: “حتى الآن إنضم اكثر من 500 شاب كردي الى الحشد الشعبي في خانقين وطوز خرماتو وكركوك وكالار وكفري”.
أما بالنسبة إلى المُجندين العرب السنة والأكراد، فإن الدافع جزئياً هو مالي. يدفع الحشد الشعبي راتباً شهرياً فردياً إلى جنوده قدره حوالي 480 دولاراً، ويمكن أن يحصل المُجنَّدون أيضاً على بعض غنائم الحرب من المناطق الحضرية المُحرَّرة من “داعش”. وهذا عرض جذاب بالنظر إلى أن متوسط موظف الخدمة العامة يقل عن 300 دولار في كردستان. وعلى الرغم من أن متوسط الرواتب هو حوالي 600 دولار على الصعيد الوطني، فإن إيجاد وظيفة أو عمل مع الحكومة العراقية يكاد يكون شبه مستحيل. وعلاوة على ذلك، يعيش العديد من العرب السنة في مخيمات النازحين داخلياً لأن منازلهم قد تضررت أو دُمّرت. والغالبية منهم ليست لديها وظائف ويعتمدون غالباً على المعونة والمساعدة. بالإضافة إلى حالة البطالة العامة، فإن النازحين العرب يواجهون مشاكل في العثور على عمل في كردستان لأنهم لا يتكلمون اللغة الكردية.
من ناحية أخرى، لقد فَقَدَ العديد من الأكراد أعمالهم ووظائفهم في الأراضي التي يسيطر عليها الإتحاد الوطني الكردستاني خلال الأزمات المالية. إن الأراضي التي يسيطر عليها حزب الإتحاد الوطني الكردستاني يتواجد فيها عدد قليل من النازحين داخلياً لذا يتلقى سكانها مساعدات إنسانية وعسكرية أقل من المناطق الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قطع “داعش” الطرق التجارية التقليدية، وأصبحت تخضع الآن للضرائب من قبل الحشد الشعبي، مما أدى إلى تباطؤ كبير في الإنتعاش الاقتصادي في المنطقة.
وهناك أيضاً أسبابٌ سياسية وراء إنضمام للعرب السنة والأكراد إلى جماعة عرقية أو طائفية أخرى. ليس لدى السنة تمثيل سياسي ولا قوة عسكرية قوية، كما إنهم يفتقرون إلى الموارد اللازمة لبناء قوة يمكن أن تتنافس مع الحشد الشعبي أو الحزب الديموقراطي الكردستاني. فحتى قوات البشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني تخسر مقاتلين لمصلحة الحشد الشعبي الذي يجنّدهم لأنها لا تستطيع دفع رواتب أعلى. وقال أحد مسؤولي حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في خانقين: “الأكراد، وحتى أعضاء من الاتحاد الوطني الكردستاني، يأتون إلينا ويقولون إنهم ليست لديهم وظائف. والسبيل الوحيد لهم للبقاء على قيد الحياة هو الإنضمام إلى الحشد الشعبي. الواقع أنه لم نتمكن من مساعدتهم وسمحنا لهم بذلك”.
إحدى الظواهر الصاعدة هي أنه عندما تصبح الأحزاب السياسية وجماعاتها المسلحة أقل طائفية، فإنها تقلل من إيديولوجياتها وتعمل بنشاط للتواصل مع المجتمعات الأخرى – على سبيل المثال، المساعدة في تأمين الطعام وتغذية المدنيين السنة في الموصل. ولكن العواقب الطويلة الأجل يمكن أن تكون سلبية. ومن شأن هيمنة الحشد الشعبي والحزب الديموقراطي الكردستاني على العرب السنة والأكراد في مناطق الإتحاد الوطني الكردستاني في الإنتخابات العراقية الوطنية المقبلة، المتوقَّعة في أيلول (سبتمبر) 2017، أن تغيّر الهيكل السياسي الحالي. بل إنها قد تقلل من التمثيل والقوة النسبية للعرب السنة والأكراد من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لصالح الشيعة العرب والأكراد من الحزب الديموقراطي الكردستاني. وبما أن السلطة حالياً في أيدي قيادة مدنية معتدلة، فإن شخصيات عسكرية أكثر صقوراً يمكن أن تفوز بمزيد من المقاعد في البرلمان.
وعلاوة على ذلك، فإن الميليشيات غير الحكومية الكبيرة والقوية يمكن أن تهدد بشكل خطير شرعية الحكومة العراقية. ومن المؤكد أن الحكومة لديها فرصة لزيادة قوتها، لكنها لم تستفد من ذلك. وبسبب أدائه الناجح للغاية في ساحة المعركة، فإن العراقيين ينظرون بعين الرضا إلى الجيش العراقي. وعلى الرغم من أن الجيش هو في غالبيته من الشيعة، فإنه يُنظَر إليه على أنه غير منحاز ويتمتع بشعبية كبيرة بين السكان السنة في المناطق التي تحرّرت. هذه السمعة، بالإضافة إلى الراتب الشهري الصحي (يُدفع 1000 دولار للجندي العادي و2000 دولار للقوات الخاصة) يمكن أن تجتذب وتُجنّد أولئك الذين يتطلعون إلى الإنضمام إلى الحشد الشعبي أو الحزب الديموقراطي الكردستاني.
عمار عبد، اللاجئ السني البالغ من العمر 21 عاماً من الموصل ويعيش في مخيم للنازحين بالقرب من جبهة “داعش”، هو مثالٌ على تجنيد محتمل. قال لي: “رأيت وأُعجِبت بالحِرَفية التي تؤدي بها قوات العمليات الخاصة العراقية عملياتها على الأرض. إني أدرس بجدية الإنضمام إليها حالما أتمكن من ضمان حياة آمنة لأسرتي”.
ويشعر الأكراد في الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني بالمثل. وقد أوضح لي أحد سكان مدينة السليمانية البالغ من العمر 50 عاماً: “أفضل أن يلتحق إبني بالجيش العراقي وليس بالبشمركة لأنه أكثر مهنية وأقل سياسيةَ”. وكانت هناك أيضاً حالات فردية من الأكراد الذين يحاولون دفع رشاوى للإنضمام إلى الجيش العراقي، وهو أمر كان لا يمكن تصوره من قبل. وقال مسؤولون في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أن “الجيش العراقي هو جيش العراق الذي ما زالت كردستان جزءاً منه، وهو يتلقّى أوامره من الحكومة الوطنية وليس من دولة أخرى [مثل إيران]”. ومن خلال أخذه المزيد من العرب السنة ووالأكراد، فإن الجيش العراقي ليس فقط سوف تكون لديه قوة عسكرية أقوى لمنع “داعش” من العودة، ولكنه سيكون أيضاً أكثر تنوّعاً وأكثر تمثيلاً لجميع السكان، وسيحرم الجماعات المسلحة الأخرى من مُجنَّدين مُحتَمَلين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى