كيف عادت عائلة الأسد تسعة رؤساء أميركيين

منذ أيام أعلن وزير الخارجية الأميركية ريكي تيلرسون بأن زمن عائلة الأسد في سوريا قارب نهايته. وهذا الكلام ليس جديداً فقد أطلقه قبله الرئيس السابق باراك أوباما، ولم يحدث حتى الآن، لذا يتساءل كثيرون: لماذا هذه العداوة بين عائلة الأسد وواشنطن التي بدأت منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة في 1970 وإستمرت حتى اليوم رغم محاولات ساكني البيت الأبيض منذ ريتشارد نيكسون التقرب من دمشق. الصحافية الأميركية روبن رايت تحاول الإجابة في التقرير التالي:

الرئيس بشار الأسد: هل يكون آخر حكام العائلة؟

بقلم روبن رايت*

كان أول لقاء لوزير الخارجية هنري كيسنجر مع الرئيس السوري حافظ الأسد في العام 1973 طويلاً حيث دام حتى الحادية عشرة ليلاً. وقد طال إلى حدّ أن صحيفة “نيويورك تايمز” كتبت بأن وسائل الإعلام بدأت تتكهّن حول ما إذا كان الديبلوماسي الأميركي الرفيع المستوى قد خُطِف. وقال كيسنجر في مذكراته “سنوات الإضطراب” (Years of Upheaval) أن الأسد “كان يتفاوض بصلابة وجرأة كأنه مقامرٌ في مركب نهري للتأكد من أنه قد حصل على آخر شريحة من التنازلات المُتاحة”. إن ماراثونات الحوار كانت نموذجية. في العام 1991، لوّح وزير الخارجية جيمس بيكر بالعلم الأبيض بالنسبة إلى “التنازلات” بعد ما يقرب من عشر ساعات من المناقشات مع الرئيس السوري الراحل لأنه كان بحاجة الى الإستراحة والذهاب إلى الحمام. ودعا بيكر التفاوض مع الأسد “ديبلوماسية المثانة”.
منذ الإنقلاب غير الدموي في العام 1970، الذي جلب الأسرة إلى السلطة، فإن سلالة الأسد – الأب المؤسس حافظ، ووريثه إبنه الثاني بشار – قد أغضبت وأسخطت تسعة رؤساء أميركيين. ووصف كيسنجر جلساته مع حافظ الأسد: “مضيعة للوقت، وإثارة للأعصاب، وغريبة”. إن الإدارات الجمهورية والديموقراطية على حد سواء، تملّقت وداهنت حكم آل الأسد، شجّعته وأثنت عليه، وفي الآونة الأخيرة، واجهت وأدانت الأسد الإبن لحثّه على تغييرات سياسية.
من جهته، قام كيسنجر ب28 رحلة إلى دمشق – أربع عشرة رحلة في شهر واحد – للتعامل مع تداعيات الحرب العربية – الإسرائيلية في العام 1973. وقد توصل أخيراً إلى إتفاق مع حافظ الأسد في العام 1974 لفض الإشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية على طول هضبة الجولان. وبعد أقل من شهر، أصبح ريتشارد نيكسون أول رئيس أميركي يزور سوريا. وقد تلقّى التحية بإطلاق 21 طلقة مدفعية، وركب في سيارة مفتوحة مع الأسد في شوارع العاصمة السورية التي رفرفت على جانبيها المئات من الأعلام الأميركية التي كان يلفحها نسيم قوي. وأعلنت لافتات على طول الطريق: “دمشق الثورة ترحب بالرئيس نيكسون”. ولكن أياً من نيكسون، الذي أُجبر على الإستقالة بعد شهرين، ولا خلفه جيرالد فورد تمكّن من توجيه تلك العلاقة خلال السنوات الأولى للأسد في السلطة وتحويلها نحو سلام أوسع في الشرق الأوسط.
إن الأسد يعني “الأسد”، وقد لعب دوره ك”أسد دمشق”. كانت سوريا ضعيفة وغير مستقرة بعد الإستقلال عن فرنسا في العام 1946. وقد شهدت عشرين إنقلاباً في 21 عاماً. وكان إنقلاب الأسد في العام 1970 هو الأخير. في البداية عرف تأييداً وإشادة. وذكرت صحيفة “نيويورك التايمز” أن “المُعجَبين بالأسد رحبوا بإستيلائه على السلطة داخل حزب البعث الحاكم بإعتباره إنتصاراً متوقَّعاً للبراغماتية على الإيديولوجية”. ولكن لتعزيز الدولة السورية وتحويلها إلى قوة إقليمية، تحوّل الأسد إلى مسؤول قاسٍ لا يرحم على نحو متزايد مع المعارضين داخلياً ومتصلباً مع العالم الخارجي.
إجتمع جيمي كارتر مع حافظ الأسد في جنيف، في العام 1977، لإستكشاف آفاق مؤتمر أميركي – سوفياتي حول السلام فى الشرق الأوسط. وكان الأسد صلباً وعنيداً. طالب بعودة الأراضي التي إستولت عليها إسرائيل والمساواة الإستراتيجية للعالم العربي. ويتذكّر كارتر ان الأسد كان مستعداً “لمواجهات سياسية وعسكرية خطيرة بدلاً من الإستسلام بالنسبة إلى هذا المبدأ”. ودعا كارتر الرئيس السوري الراحل حتى الى زيارة واشنطن. ويبدو أن بصريات الصورة في البيت الأبيض لم تُغرِ الأسد. “أجاب بأن ليس لديه أي إهتمام أو مصلحة بزيارة الولايات المتحدة”، كتب كارتر لاحقاً. وبعد ذلك بعام، عندما تولى كارتر التوسط في إتفاقات كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، كان رد الأسد بتعميق علاقاته مع موسكو.
لعب الأسد مراراً وتكراراً المُفسد للسلام خلال إدارة رونالد ريغان. في العام 1981 كان لي شرف تغطية أعمال قمة الجامعة العربية في مدينة فاس في المغرب حيث كان ولي العهد السعودي (آنذاك) الامير فهد بن عبد العزيز سيعرض خطته المُكوَّنة من ثماني نقاط بدعم من واشنطن للإعتراف بحق اسرائيل في “العيش بسلام” مقابل عودة الأراضي. ووصل 21 وفداً إلى فاس وإنتظر أعضاؤها الأسد. كنتُ في المطار عندما وصلت الطائرة السورية التي كانت تقل حراسه وموظفيه. ولم يظهر الأسد أبداً. فإنهارت القمة.
وقد تحوّلت التوترات بين ريغان والأسد إلى عداء علني بعد غزو إسرائيل للبنان في العام 1982، حيث كان آلاف الجنود السوريين ينتشرون. وإستطاع وزير الخارجية جورج شولتز التوصل الى إتفاق سلام رسمي بين إسرائيل ولبنان، إلّا ان الأسد إستطاع نسف الإتفاق برفضه سحب قواته – وهو شرط لإنسحاب القوات الإسرائيلية.
لعب الأسد لعبة إستراتيجية قاسية للحفاظ على النفوذ السوري. خلال الغزو الإسرائيلي، دعم نشر الحرس الثوري الإيراني في لبنان — وإنشاء ميليشيات شيعية جديدة عرفت في ما بعد ب”حزب الله”. وفي نيسان 1983 وُجِّه إلى هذا الحزب اللوم في تفجير السفارة الأميركية في بيروت، وهو اول هجوم إنتحاري ضد هدف أميركي في أي مكان. وتلا ذلك إعتداءات على قوات المارينز (البحرية الأميركية) التي كانت منتشرة في لبنان لحفظ السلام، حيث لقي أكثر من مئتي جندي مصرعهم وعلى السفارة الأميركية الثانية. وحمّلت الولايات المتحدة الأسد المسؤولية عن إدخال إيران و”حزب الله” نوعاً جديداً من الحروب. وبعد خمسة وثلاثين عاماً، يُعتبَر “حزب الله” من أقوى الميليشيات في الشرق الأوسط. ويساعد الآلاف من مقاتليه حالياً سلالة الأسد للصمود والبقاء في السلطة.
“لم يتردد الأسد في إستخدام العنف أو الإرهاب لتحقيق أهدافه”، كتب شولتز في وقت لاحق في مذكراته “فوضى وإنتصار”، (Turmoil and Triumph). ومع ذلك، حافظت إدارة ريغان على علاقات ديبلوماسية مع دمشق – وإتصالات مع الأسد. لقد عاد شولتز إلى سوريا لرؤيته خلال محاولة أخرى للسلام في الشرق الأوسط في العام 1988. “لقد أدركتُ أيضاً أنه من المهم بالنسبة للعرب الآخرين أن أتشاور معه”، كتب شولتز. وأثبتت الإتصالات مرة أخرى أنها غير مجدية. ورداً على أسئلة الصحافيين المسافرين معه عما إذا كان يحمل أي أمل، رد شولتز ممازحاً: “لقد غمرتموني بروح فكاهتكم”.
ووفّر غزو صدام حسين للكويت في آب (أغسطس) 1990 تقاطعاً نادراً في المصالح بين واشنطن ودمشق. كان العراق وسوريا جارين عدوّين، وقد تعهد الأسد بإرسال ألاف القوات للإنضمام إلى التحالف بقيادة الولايات المتحدة لعملية “عاصفة الصحراء” لإخراج القوات العراقية من دولة الكويت الغنية بالنفط. وفى اطار خطته لإقامة “نظام عالمي جديد” بعد حرب الخليج، إلتقى الرئيس الأميركي جورج ووكر بوش مع الرئيس حافظ الاسد فى جنيف، وفاز بقبوله بالمشاركة فى مؤتمر سلام ترعاه الولايات المتحدة بالإشتراك مع الإتحاد السوفياتي فى مدريد. لكن الأسد لم يحضر. لذا توقف الزخم.
إن زوال الإتحاد السوفياتي، في العام 1991، كلّف الأسد أهم حليف له. كما أن إتفاقات أوسلو التي وُقّعت في العام 1993، بين إسرائيل والفلسطينيين، تلتها معاهدة سلام في العام 1994 بين الأردن وإسرائيل، جعلتاه يبدو وكأنه رجل معزول في المنطقة. حاول الرئيس بيل كلينتون إستغلال إنحسار نفوذ الأسد. بين عامي 1993 و1996، قام وزير الخارجية وارن كريستوفر بحوالي ثلاثين رحلة إلى دمشق، للتوصل إلى إتفاق على مرتفعات الجولان. وكنتُ مرافقة في معظمها. وقال كريستوفر للصحافيين مرات عدة أنه قريب، قريب جداً (من التوصل إلى إتفاق). وقام كلينتون بزيارة الأسد في دمشق في أول زيارة رئاسية منذ زيارة نيكسون في 1994، الا أن الإتفاق لم يحصل أبداً. وفي مقامرة أخيرة قبل مغادرته منصبه، إلتقى كلينتون بالأسد مرة أخرى، في جنيف، في العام 2000. وقد أمضى الأسد الجلسة في محاضرة الرئيس الأميركي الأصغر سناً حول تاريخ الحدود السورية مع إسرائيل، وكرّر مطالبته بعودة هضبة الجولان بأكملها كشرط للسلام.
وقال مبعوث عربي لصحيفة “نيويورك تايمز” … “إن الأسد يُفضّل الموت على القبول بعدم الإنسحاب الكامل. ولم يتغير رأيه منذ ثلاثين عاماً، ولن يغير رأيه في غضون ساعتين في جنيف”. توفي حافظ الأسد بعد ثلاثة أشهر فقط. “كان رجلا قاسياً لا يرحم ولكنه بارع حيث محا مرةً قرية كاملة من الوجود كدرس لمعارضيه”، كتب كلينتون في مذكراته “حياتي” (My Life).
كانت نية الأسد أن يخلفه في الحكم نجله الأكبر، باسل، لكنه توفي في حادث سيارة، وحلّ مكانه بشار، الذي تخصص في طب العيون. يمثل الأب والإبن أسرة واحدة، لكن الأسد الكبير كان أكثر إنسجاماً مع العالم الحقيقي والسياسة الواقعية، وفقاً لمبعوثين أميركيين عرفوه. التاسع بين 11 طفلاً، جاء حافظ الأسد من قبيلة جبلية فقيرة وصعبة. كان الأول في عائلته في دخول المدرسة الثانوية. وذهب إلى حلب — وهي المدينة التي دمّرها إبنه لاحقاً — للإنتساب إلى أكاديمية القوات الجوية. في سن الخامسة والثلاثين، كان وزيراً للدفاع. وعندما بلغ الأربعين صار، من خلال دهائه المميز، رئيساً للجمهورية.
نشأ إبن حافظ الثاني في القصور الرئاسية، وفي عاصمة عالمية (لندن)، مُدَللاً ومتمتعاً بالإمتيازات، وأُعطيت له مقاليد السلطة. وقد تم تصوير بشار في البداية على أنه مُصلِح، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تواصله مع الشباب السوري، وزوجة أنيقة كانت مصرفية إستثمار في “جي بي مورغان”، وإهتمامه بالإنترنت وتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. مع ذلك، بعد عقدين تقريباً من السلطة، أثبت الأسد الإبن أنه لا يتمتع بغرائز والده الداهية أو حتى بالكثير من الحس السياسي المشترك.
بحث جورج دبليو بوش عن إمكانات للتعاون مع الزعيم السوري الجديد. وأوفد وزير خارجيته كولن باول إلى دمشق ثلاث مرات. ولكن بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 سمح الأسد لآلاف الجهاديين الأجانب بعبور حدود بلاده التى تبلغ مئة وخمسة وسبعين ميلاً الى العراق لمحاربة القوات الأميركية. في العام 2007، أكدت المخابرات الأميركية ما أعلنته المخابرات الإسرائيلية أن سوريا، بالتعاون مع مخططين وفنيين كوريين شماليين، تقوم ببناء مفاعل نووي سري في مدينة دير الزور النائية. وقد هاجمت الطائرات الحربية الاسرائيلية الموقع ودمرته. وقال بوش في مؤتمر صحافي عقده في البيت الابيض في العام 2007: “لقد نفد صبري من الرئيس الأسد منذ فترة طويلة. ويعود السبب في ذلك الى أنه يؤوي “حماس”، ويُقدّم الدعم والتسهيلات ل”حزب الله”، وينطلق الإنتحاريون من بلاده الى العراق، ويزعزع إستقرار لبنان”.
بعد فترة وجيزة على تولي الرئيس باراك أوباما منصبه في العام 2009، لبّ جون كيري، وكان آنذاك عضواً في مجلس الشيوخ، وزوجته تيريزا دعوة عشاء مع الأسد وزوجته في مطعم أنيق في المدينة القديمة في دمشق. وقال كيري في مؤتمر صحافي أن الإدارة الجديدة تعتبر سوريا “لاعباً أساسياً في تحقيق السلام والإستقرار في المنطقة”. وحتى بعد إنتفاضة “الربيع العربي” التي إمتدت الى سوريا في آذار (مارس) 2011، رأت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في برنامج “واجه الأمة” (Face the Nation)، أن “هناك قائداً مختلفاً في سوريا الآن. وقال العديد من أعضاء الكونغرس الذين توجهوا الى سوريا خلال الاشهر الاخيرة أنهم يعتقدون بأنه مُصلِح”.
لكنه لم يكن كذلك. عندما أطلق الأسد قواته الأمنية ضد المتظاهرين السلميين الأمر الذي أدّى إلى مقتل الآلاف، عكس أوباما مساره. وإنضم إلى القادة الأوروبيين الذين يطالبون بإستقالة وتنحي الأسد. وقال اوباما في بيان أن “مستقبل سوريا يجب ان يحدده شعبها لكن الرئيس بشار الاسد يقف في طريق تحقيق ذلك. لقد آن الأوان للرئيس الأسد أن يتنحّى جانباً”. كما خصصت الإدارة الأميركية عشرات الملايين من الدولارات لتسليح ومساعدة المتمردين السوريين الذين لم يكن لهم حتى الآن سوى تأثير محدود.
وعلى غرار أسلافه الثمانية، تولّى دونالد ترامب منصبه وهو على إستعداد للنظر في دور للأسد من أجل إنهاء الحرب السورية الأخيرة — على الرغم من أنه قتل أو جرح أو شرد ملايين السوريين أكثر مما فعله والده، وفي زمن أقصر بكثير. لقد إستغرق الأمر أقل من مئة يوم للرئيس ترامب لإكتشاف أن سلالة الأسد قد تكون عدوّته أيضاً.

• روبن رايت هي صحافية أميركية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط، وكاتبة مساهمة في newyorker.com، وتكتب لمجلة “نيويوركر” منذ العام 1988. وهي مؤلفة “هزّ القصبة: الغضب والتمرد عبر العالم الإسلامي”.
• هذا الموضوع كُتِب بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى