تونس: الصعود إلى الهاوية

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

مع الأيام الثقيلة الظل تتوالى التطورات التي لا تُنبئ بأي خير. فالسيولة السخيّة جداً التي يبثّها البنك المركزي التونسي في الإقتصاد في تونس، من دون أي مقاومة لرغبات حكومة فقدت بوصلتها، لا تعني سوى المزيد من الإرتفاع السريع للأسعار والتضخم المالي، بدل الهدف المُعلَن أي تجنب إختناق الإقتصاد. وإذا أضفنا إلى ذلك هذا التراجع السريع والمستمر وغير المنضبط لقيمة الدينار، وأثره الخطير في توازنات البلاد الإقتصادية، وإعتباراً لآثاره المدمّرة في الطاقة الشرائية، فإن للمرء أن يتوقع أسوأ النتائج، إضافة إلى العجز المتفاقم سواء للموازنات المالية أو لميزان المدفوعات.
إن رفع حجم الكتلة النقدية، من دون إنتاج ولا إنتاجية، وإستمرار تهاوي قيمة العملة الوطنية، في غياب أي فائض إنتاجي كفيل برفع حجم الصادرات، مُضافاً إليه عوامل مدمّرة منها بالخصوص، سداد دين ثقيل بجانبيه الأصل والفوائد بدينارات أكثر بكثير، بسبب إنهيار قيمة الدينار التونسي الذي سيشارف في مستقبل منظور 3 دينارات لشراء يورو واحد أو دولار واحد. وهذا يعني إرتفاعاً مستمراً في الأسعار الداخلية، وإرتفاع كلفة السلع والخدمات المنتجة بسبب الإعتماد الكبير أو الصغير على الأسعار العالية المستوردة للخامات أو المواد نصف المُصنّعة التي تحتاجها الصناعة والفلاحة والسياحة التونسية، هذا فضلاً عن الواردات المختلفة سواء للمواد الإستهلاكية أو الخدمات .
إن تونس، برفعها لحجم الكتلة النقدية من دون سند إنتاجي وبترك الدينار يتراجع بسرعة ومن دون حدود، إنما تسير بإتجاه أزمة أو زيادة تأزم أوضاعها الاقتصادية، وبالتالي الإجتماعية، التي هي بصدد مشاهدة تدهور في الطاقة الشرائية للمواطنين، كل المواطنين، وخصوصاً العاطلين من العمل، والعاملين في القطاعات غير المنظمة، والمتقاعدين من القطاع الخاص. وحتى تكون المقارنة واضحة فإن العملية الجراحية عينها مع إقامة 5 أيام في المستشفى والتي كانت تكلف سنة 2008 خمسة آلاف دينار بلغت تكلفتها منذ أيام 12 ألف دينار، هذا فضلاً على أن أتعاب الطبيب إرتفعت في 6 أو 7 سنوات غالباً من 35/40 ديناراً إلى 55 أو 60 ديناراً عن العيادة.
أما الحكومة القائمة فهي مثل سابقاتها لا تريد أن تعترف للشعب بحقيقة الأوضاع الإقتصادية في البلاد، حتى اليوم الذي تصبح فيه في وضع شبيه بوضع اليونان منذ 2008 وحتى الآن، من دون المدد الذي تمتعت به أثينا من قبل الاتحاد الأوروبي بوصفها عضو فيه، فيما أن تونس لا سند لها. حتى صندوق النقد الدولي الذي نكص على أعقابه، لأن الحكومة التونسية الحالية تراجعت عن إلتزاماتها ولم توفِ بها، حيث تواصل تسيير الاقتصاد الوطني بصورة ليس فقط مرتجلة بل أكثر من ذلك من دون الأخذ بعين الإعتبار حقيقة وضعٍ وصل إلى القاع ولا تريد أن تصارح الشعب بحقيقته، وتواصل القيادة بين الرياح العاصفة بنظرة أقل ما يقال فيها أنها عمياء.
وإذ درجت البلاد على ذلك منذ 2012 ، فإن الأمر لم يعد قابلاً للإحتمال، إذ أن البلاد تسير نحو كارثة حُذِّر منها ونُبِّه لها، ولكنها وصلت، وسيشهد المواطن أثرها في حياته.
في الوقت عينه، تشهد الساحة تحركات إجتماعية تبدو مشروعة، بلغت الأوج في ولايتي تطاوين والكاف، ولكنها تهدد غالب الولايات، حيث تتعمق حالة البطالة ولا يوجد أفق أمام الناس. فالكبار الذين كانوا يأملون وضعاً أفضل لأبنائهم صرفوا النظر عن المستقبل المعقول، وبات منهم من يشجع من يستطيع من أبنائهم على الهجرة إلى عوالم أفضل. وتشهد البلاد بذلك نزفاً بين الاطباء والمهندسين في الفروع الفنية والفروع المالية، وفي الإعلامية والمواصلات، وهو ما يهدد القدرة على توفير الكفاءات اللازمة لتسيير الحياة الإجتماعية والإقتصادية ، وقد بات توفير عمل في الخارج أمل الشباب، وما لا يتوفر بالطرق المشروعة، تقع المحاولة لنيله بالمغامرة التي قد تودي بالحياة، والوصول لهذا الحل يبرز مدى اليأس الذي أصاب الشباب.
مع ذلك تواصل الحكومات المتعاقبة بذل الوعود التي هي أول من يعرف أنها ليست قادرة على تحقيقها، كما حصل في الأيام الأخيرة في تطاوين والكاف. وأمام تزايد تعفّن وضع لم يعد تحت السيطرة، تبدو الجهات السياسية، في الحاكم والمعارضة، في وضع من لا حلّ أمامه سوى ترك الحبل على الغارب، في إنتظار أيام أحسن قد تأتي وقد لا تأتي، فيما يزداد الوضع السياسي هو الآخر تعفناً، وعدم إتضاح الصورة والتهديد بعودة الاسلاميين إلى السلطة، ما لم يكن أسوأ بكثير ممن جاؤوا بعدهم، لا يُسهم بخلق الطمأنينة الضرورية لعودة الإستثمار الخاص الوطني قبل الخارجي، ومن دون تحرك إستثماري كبير، فلا أمل لا في نمو ولا زيادة إنتاج ثروة ولا تحريك ماكينة التشغيل.

• كاتب وصحافي تونسي، ورئيس تحرير أسبق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى