مدرج غير روماني

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يكن بوسع المتصارعين بإسم الحمق في روما إلا أن يحملوا أسلحتهم، وأن يقتتلوا حتى النزع الأخير. ولم يكن بمقدورهم أن يديروا ظهورهم لرفاق الفجيعة أبداً، لأن قوانين روما لا تقر الإنسحاب من بلاط المدرج إلا للجثث الهامدة. وكان على العبيد أن يقضوا جلّ وقتهم في التدرّب على كافة أنواع الأسلحة ليسرقوا بعض الأنفاس من حياة يعلمون يقيناً أنهم لن تدوم طويلاً.
لم تكن الإقامة في سجون الإمبراطور أمراً يستحق العناء، ولم تكن معاملة الحرّاس غلاظ الأكباد دافعاً للبقاء، ولم يكن في الطعام ولا الفراش ولا الرفقة ما يغري، لكن المتصارعين على الحياة – أي حياة – كانوا يتقرّبون إلى آلهة روما بالدماء. ويدفعون فاتورة البقاء تحت أقدام الإمبراطور أرتالاً من اللحم الذي يتطاير من أجساد الرفاق حتى السكون الأخير. وكان الجمهور الروماني يتحلّق حول المأسوف على حمقهم يُصفّق لهذا ويُهلّل لذاك، ويقف مع كل طعنة ويُمسك أنفاسه عند كل شهقة، فإذا قضي الأمر، إنصرف إلى بيوته، وكأن شيئاً لم يكن.
لم أتخيّل أبداً حياة أولئك المتصارعين الذين حُكِم عليهم بالموت أو السجن حتى الموت، وكنت أظن أن حامل مدواة التاريخ قد بالغ كثيراً في تصوير بشاعة أهل روما وإمبراطورها، لكنني اليوم أقسم أن الرجل قد نسي تفاصيل كثيرة، وأنه كان لطيفاً أكثر مما يلزم حين إكتفى بتصوير المدرج الروماني، ولم يعرج على أسواق روما، وأزقة روما وحاراتها الضيقة.
لم يقف حامل التاريخ عند أكياس الرمل التي تملأ شوارع روما، ولا زناة التاريخ الذين جاؤوا من خلف كل محيط ليمارسوا دعارتهم القذرة في المخادع والطرقات. ولم يصور بريشته الرطبة جماجم الأطفال تحت الإسمنت والقرميد، ولا الجثث المُتفحّمة قرب براميل البارود. ولم يتحدث عن حاملي المباخر وكهنة البلاط من إخوة كرامازوف الذين مولوا حفلات القصف الصاخبة حتى الفجر، ووقفوا يتباكون كإخوة يوسف عند بئر الغدر والخديعة.
اليوم، يكتب التاريخ فصلاً أخيراً من رواية يقف كل أبطالها خلف أكياس الرمل في إنتظار رصاصة من هنا أو شظية من هناك، فوق بلاط لا يشبه المدرج الروماني إلا في اليأس والفجيعة. أما المُتحلِّقون حول وليمة القتل، فيقفون على أطراف أصابعهم، في إنتظار نهاية لا تجيء. الفارق أنهم ليسوا من أبناء روما، ولا ينحدرون من أصلاب الأباطرة، بل هم أولياء الدم المسفوح عند كل ناصية، لكنك تَراهم يهلّلون ويُكبّرون ويحوقلون عند كل قصف، وكأنهم خشب مسندة، أو جماجم إنتزع اليأس محاجرها.
أيها الواقفون حول ولائم ليست لهم، لا تنتظروا منا ولا سلوى من أي طائرة تعبر حدودكم المفتوحة على مصاريعها، فالطائرات المُقبِلة من خلف كل محيط لا تحمل في مناقيرها إلا عناقيد الغضب ولا تفرّق بين المتقاتلين بإسم الحمق وإن إختلفت بزّاتهم وشاراتهم وبيارقهم. لا تنتظروا أيها القادمون من كل فجّ بليد أن يهز رعاة البقر جذوع النخل لتساقط عليكم رطباً جنياً، ولا تأملوا أن يكف الروس أياديهم عنكم ولا أن يخرج الفرس من دياركم إلا بعد إنتهاء وليمة الدماء التي تشاركون فيها بكل غباء وبكل سخاء. أنتم القاتل وأنتم القتيل، ولستم من أهل روما، فلماذا تصفّقون حين تتطاير الجماجم وتسيل أنهار الدماء في أوديتكم غير المقدسة؟ ولماذا تدفعون فواتير التدريب وثمن الأسلحة، وتفتحون حدودكم للمتصارعين حتى الموت تحت أقدام الأباطرة والأكاسرة؟ ولماذا تتطوعون بالفتيا التي تجيز جز الرؤوس ومحو الخرائط؟ لماذا تمارسون زنا المحارم بعد كل صلاة وخلف كل مسجد، وتدعون أنكم أبناء الله وأصفياؤه؟ ألا سحقاً للعبيد وتبّاً لهم.

• أديب، كاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى