فوزي القاوقجي ونهاية حلم عربي

صدر عن دار الساقي كتاباً بالإنكليزية بعنوان “القائد: فوزي القاوقجي والكفاح من أجل الإستقلال العربي 1914 – 1948” (The Commander: Fawzi al-Qawuqji and the Fight for Arab Independence,1914–1948) للباحثة البريطانية ليلى بارسونز. هنا مراجعة له.

فوزي القاوقجي: ليس على الجدار الخطأ.

لندن – باسم رحال

عند الحديث عن عظمة الأبطال العرب، نادراً ما يسمع المرء عن فوزي القاوقجي في هذه الأيام. لكن بفضل السيرة الذاتية الرائعة التي كتبتها الباحثة البريطانية ليلى بارسونز، بعنوان: “القائد: فوزي القاوقجي والكفاح من أجل الإستقلال العربي، 1914-1948″، يعود القاوقجي مرة أخرى إلى دائرة الإهتمام. فقصته التي يلفها الغموض والتناقضات والطموحات المتضخمة والآمال الكاذبة، هي، في كثير من الحالات، تمثّل مناسبة جيدة لتوضيح المأزق العربي في النصف الأول من القرن العشرين.
ولد القاوقجي في تشرين (أكتوبر) 1894 في ما هو اليوم مدينة طرابلس في شمال لبنان حيث كانت في ذلك الوقت لا تزال جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. أُرسِل الشاب الصغير للتدرّب في كلية الحرب في إسطنبول. وشارك القاوقجي في الحرب العالمية الأولى في صفوف الجيش العثماني، على الرغم من أنه كان بدأ إعادة إكتشاف هويته العربية قبل ذلك. في العام 1908، عزل الأتراك السلطان عبد الحميد الثاني من السلطة وبدأوا على وجه التحديد في تطوير القومية التركية.
وهذا الجهد، الذي سعى في البداية إلى تعزيز الإمبراطورية، كان له أثر متناقض تمثّل في إضعاف روابطها، إذ أنه زاد من الهوية المستقلة لدى شعوبها. وهذا إنطبق بشكل خاص على النخب العربية في الإمبراطورية. في العام 1912، تم توظيف القاوقجي في الموصل، وساعدته رحلته هناك على تعزيز إعتقاده المتزايد بأن هناك إختلافات كبيرة بين العرب والأتراك. وقد أدّى تطوّر هويته العربية إلى إحتضان القاوقجي للقومية العربية في وقت لاحق ومعارضته للقوى الأوروبية المتمثلة ببريطانيا وفرنسا اللتين كانتا تسيطران على الشرق الأوسط.
قاتل القاوقجي الفرنسيين في سوريا، خصوصاً خلال الإنتفاضة السورية في العام 1925. ومن هناك سافر إلى السعودية والعراق، دائماً للبحث عن بعض المُثُل العربية البعيدة المنال، حيث كان يرى في الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية والملك فيصل في العراق تجسيدين مُحتَمَلين لطموحاته العظيمة للعرب. لكن ما شاهده في كثير من الأحيان كان الإقتتال الداخلي والإنقسامات العربية، وليس الوحدة الواعدة بدولة عربية واحدة.
في الواقع تركت بارسونز ميول القاوقجي غير واضحة إلى حد ما. هل كان عروبياً أم سورياً؟ هل كان في صالح أمة عربية واحدة أم أنه كان يسعى إلى دولة سوريا الكبرى؟ في الصراع الرئيسي التالي الذي شارك فيه القاوقجي، ثورة 1936 في فلسطين، لم يكن هذا واضحاً تماماً، إذ أنه وصف نفسه بأنه “قائد الثورة العربية في جنوب سوريا” وليس في فلسطين.
بالنسبة إلى بارسونز، كان القاوقجي عروبياً وسورياً. ومع ذلك، فإن المفهومين مختلفان جداً – في كثير من الاحيان مضادان لبعضهما. وقد أثار هذا الغموض مشاكل للقاوقجي، وخصوصاً مع مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، الذي كان فلسطينياً قومياً أكثر من كونه عربياً. لم يثق الحسيني بعمق في القاوقجي لإدعائه بأن فلسطين هي جزء من سوريا.
كان هناك توتر مماثل في ما يتعلق ببلد القاوقجي، لبنان، الذي لعب دوراً هامشياً بشكل مثير للدهشة في حياته السياسية. ويبدو أن القومية اللبنانية، التي جاءت لحظة تتويجها في أيلول (سبتمبر) 1920 مع إعلان دولة لبنان الكبير من قبل السلطات الفرنسية، كانت غريبة عن القاوقجي. وقد سمّى إبنته سوريا، وهو تأكيد رمزي على رفضه للإنتدابين البريطاني والفرنسي على معظم دول الشرق الأوسط وخلق دول عربية منفصلة.
لكن بمعنى ما، ربما كانت المزحة على القاوقجي. في كل مكان ذهب إليه، كان يمكن أن يرى منطقة مزدحمة بالإنقسامات الأسرية وقوى الطرد المركزي، التي تعمل ضد مُثله وطموحاته. وكانت صداقاته مع الملك عبد العزيز والملك فيصل رائعة لكونها مع إثنين من أشد منافسيه. ومن شأن هذه الحقائق أن ترسم طريقه السياسي.
الشيء الوحيد الذي سمح للقاوقجي بالتغطية على هذه الإنقسامات، على ما يبدو، كان القتال. كان حمل السلاح ضد القوى الغربية أو اليهود في فلسطين هو الترياق الرئيسي للمنافسات العربية من حوله. كانت حرب التحرير ضد المغتصبين موضوعاً كبيراً مُوحِّداً، ويبدو أن القاوقجي كان على الخطوط الأمامية في كل معركة جديدة – ربما للإنتصار على شكوكه الخاصة.
لقد حارب في فلسطين للمرة الثانية في العام 1948، وخسر مرة أخرى وسط الخلاف العربي وعدم الكفاءة. يمكن للمرء أن يسخر من المسار الكارثي للعروبة، ولكن من الصعب عدم الشعور بالرحمة لرجل كرس حياته لقضية بدا أنها في كثير من الأحيان متجهة نحو الهزيمة. عاش القاوقجي حتى سبعينات القرن الفائت (1977)، بعد أن شهد الإنهيار العربي في حزيران (يونيو) 1967، حيث كان وقتها يعيش في لبنان مرة أخرى.
لديّ صديقٌ زيّن غرفة الطعام في منزله بمجموعتين من الصور. من جهة، صور لأفراد يمثّلون “الحلم العربي”؛ ومن جهة أخرى أولئك الذين يمثلون “الواقع العربي”. وليس من المستغرب أن معظم الحالمين يصعب تحديدهم، في حين أن أولئك الذين يجسّدون الواقع العربي – مجموعة من الديكتاتوريين، أحياء وأموات على حد سواء – ليسوا كذلك. مع كل عيوبه، فإن فوزي القاوقجي على الأقل ليس على الجدار الخطأ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى