معاناة سيناء: كيف تحوّلت شبه الجزيرة أرضاً خصبة للإرهاب

عرفت شبه جزيرة سيناء سلسلة من العمليات الإرهابية عقب أحداث ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 في مصر في ظل حالة غياب أمني تام فيها، كما أسهمت تداعيات ثورة 17 شباط (فبراير) من العام نفسه في ليبيا، وسقوط مخازن الأسلحة التي كان يقتنيها نظام القذافي في أيدي الثوار، في توفير كميات منوعة لا حصر لها من الأسلحة المتطورة مختلفة الأشكال والأنواع، تم تهريبها إلى سيناء عبر الطرق والدروب الصحراوية والطرق الموازية للبحر المتوسط من أقصى الحدود الغربية المصرية، مروراً بالطرق المتاخمة لسواحل المدن الشمالية المصرية. وقد تم تخزين كميات من هذه الأسلحة داخل مخازن ضخمة أقيمت في محيط مدينة رفح.
قُوبِلت تلك العمليات بردٍ قاسٍ من القوات المسلحة المصرية في فترة المجلس العسكري منذ منتصف العام 2011 تمثّل في العملية المعروفة بإسم “عملية النسر”. ومع ذلك، إستمرت الهجمات ضد الجيش والشرطة والمرافق الخارجية في المنطقة في العام 2012، مما أدى إلى حملة ضخمة جديدة من قبل قوات الجيش والشرطة أطلق عليها إسم “عملية سيناء”. في أيار (مايو) 2013، في أعقاب إختطاف ضباط مصريين، تصاعد العنف في سيناء مرة أخرى. وبعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي شهدت سيناء “مواجهات غير مسبوقَة” ما زالت تزداد يوماً بعد يوم.

مدينة العريش: نجت إلى حين من حرب الجيش المصري وداعش ولكن…

القاهرة – ماجد عاطف*

بعد عقود من الهدوء النسبي، أصبحت مدينة العريش المصرية، عاصمة إقليم شمال سيناء، أرضاً خصبة لتجنيد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). في التاسع من كانون الثاني (يناير) الفائت، أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن الهجمات على حاجزين في المدينة والتي أسفرت عن مقتل ثمانية من أفراد الشرطة. وبعد أربعة أيام، أصدرت وزارة الداخلية المصرية بياناً حول مقتل عشرة رجال وصفتهم بالإرهابيين. وفي عملية بثها التلفزيون المصري الرسمي، فقد قُتِل هؤلاء عندما إقتحمت قوات الأمن مخبأهم إنتقاماً لهجمات “داعش”.
أثارت الصور عائلات بدوية بارزة عدة في شمال سيناء، والتي تَعرَّف أفرادها على ستة من الرجال كانوا من السكان المحليين الذين إعتُقِلوا وأُخِذوا من منازلهم قبل نحو شهرين. وتعتقد هذه العائلات بأن الشرطة أخذت أبناءها من زنزانات السجن ووضعتهم في شقة وقتلتهم بدم بارد لإقناع المصريين بأن قوات الأمن في البلاد تقاتل الإرهاب بفعالية.
في إجتماع لهذه العائلات في اليوم التالي، قرّر ممثلوها رفض حضور لقاء كان تمّ ترتيبه مع وزير الداخلية مجدي عبد الغفار، الذي وصفته الأسر بالخصم. وتضمنت قائمة لاحقة من مطالب الإجتماع الإفراج الفوري عن جميع السجناء من شمال سيناء الذين كانوا مُحتَجَزين في إنتظار التحقيقات والذين لم يتلقوا بعد أحكاماً قضائية. وقد تعهد مجلس العائلات، الذي لم يعد يثق بأمن أي سجين في أيدي قوات الأمن المصرية، بالبدء في حملة من العصيان المدني إذا لم يتم الإفراج عن السجناء.
وبما أن هذه المنطقة هي قبلية، فإن الأسر البدوية الكبيرة تمثّل الجزء الأكبر من الأعمال التجارية والثروة والمقيمين. وإذا قرر زعماء الأسر وقف التعاون مع الشرطة والجيش، على سبيل المثال، فإن الأجهزة الأمنية ستكون في وضع صعب وحرج. وهذا هو السبب في حرص مسؤولي الأمن على إقامة علاقات جيدة مع هذه العائلات.
وسكان العريش هم على حق في أن يكونوا قلقين. بعد الإطاحة بالرئيس المصري السابق حسني مبارك في العام 2011، عاد مئات من الإسلاميين المصريين من أفغانستان، وأُطلِق سراح مئات آخرين من السجن. وإعتقد هؤلاء الإسلاميون أنها بداية عهد جديد. وقد إختار كثيرون منهم التجمع في شمال سيناء. وبعدما تمّ تنحية الرئيس المصري السابق محمد مرسي عن السلطة في العام 2013، بدأ الإسلاميون عمليات ضد الأمن في المنطقة. وأكد اللواء أحمد وصفي، قائد الجيش المصري الثاني الميداني، للمصريين، أن العمليات العسكرية في سيناء كانت ناجحة للغاية وسوف تنتهي قريباً. وستكون سيناء منطقة خالية من الإرهابيين.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات، لا تزال الهجمات الإرهابية على أفراد الأمن ونقاط التفتيش قائمة. وقد تم إجلاء المناطق بالقوة، وتشرّد السكان داخلياً، وفقد الجيش المصري الكثير من دعمه الشعبي فيما “داعش” إستقر في سيناء.
في منزل بسيط في “العريش”، إستقبلني الشيخ علي الديب الذي كان إبنه عبد العاطي واحداً من الشبان الذين أُعلِن عن مقتلهم على أيدي قوات الأمن. وقال الرجل العجوز وهو يصارع دموعه: “لقد قُتِل إبني بشكل غير عادل”. موضّحاً: “في 8 تشرين الأول (أكتوبر)، جاءني إبن أخي وهو يصرخ بأن إبني قد إعتُقل. وقال إنهم كانوا في الشارع يقطرون ويسحبون سيارة كانت تعطلت عندما ألقى رجال الأمن القبض على إبني وشاحنته”. وعندما ذهب الديب إلى مركز الشرطة ليسأل عن إبنه “نفوا أي صلة لهم بالقبض عليه وقالوا إنه يمكن أن يكون تنظيم “الدولة الإسلامية” قد قام بذلك. ثم عثرنا على شاحنته داخل مركز شرطة “العريش”. وعدنا أدراجنا نتساءل كيف يمكنهم أن ينفوا إلقاء القبض على ابني وفي حوزتهم شاحنته!”. وقال الديب بعد أن تأكد من مكان وجود ولده: “شكرتُ الله على أنه كان في أيدي رجال الأمن. على الأقل كنت أعرف أين هو. لم أتخيل أبداً أن حياة إبني ستنتهي على أيديهم”.
كما إلتقيتُ أشرف حفني، المتحدث بإسم اللجنة الشعبية للعريش، الذي قال: “أُلقي القبض على عدد من شبابنا من دون تحقيق مُسبق، وإختفى آخرون بالقوة. ولكن أن تقوم الدولة بقتل ستة شبان إعتُقِلوا فعلياً وتدعوهم إرهابيين عندما تعرف المدينة كلها أنهم كانوا في حيازتها — فهذا أمر غير مسبوق”. وأضاف: “نريد فقط ان نكون جزءاً من مصر، والدولة تحاول فصلنا عنها”.

تهميش وإهمال

منذ أن أُعيدت سيناء إلى سيطرة مصر بعد حرب الأيام الستة مع إسرائيل، كانت السلطات المصرية تنظر إلى سكانها بنوع من الشك بسبب المخاوف من أن ولاءهم لا يزال للإسرائيليين بدلاً من المصريين. ويُحَظّر على سكان سيناء تبوؤ أي وظيفة عليا في الولاية. ولا يستطيعون الإنضمام والعمل في الجيش أو الشرطة أو القضاء أو في الديبلوماسية. وفي الوقت عينه، لم يُنفَّذ أي مشروع إنمائي في شمال سيناء خلال الأربعين سنة الماضية. ولا يوجد في مدينتي رفح والشيخ زويد مدارس أو مستشفيات ولا نظام حديثاً لتلقي المياه الصالحة للشرب. وهما تعتمدان على مياه الأمطار والآبار، كما لو كانتا في العصور الوسطى.
أما المدن الثلاث الرئيسية في شمال سيناء (رفح والشيخ زويد والعريش) فقد عُزلت عن مصر لدرجة أنه لا يُسمح لأي مواطن مصري بالدخول إلى شمال سيناء إلا إذا كان مقيماً حيث يتم التحقق منه بواسطة بطاقة هوية وطنية. وأصبحت نقاط التفتيش عبئاً كبيراً؛ يمكن للمرء أن يقضي ثلاث ساعات في الإنتظار للدخول، مع عدم وجود تفسير أو توضيح. وقد أغلق الجيش العديد من شوارع العريش، كما تعرّضت مئات الفدادين من بساتين الزيتون للإزالة القسرية. وإدّعت الدولة أن البساتين كانت مخبأ للإرهابيين. وبالإضافة إلى ذلك، قطعت أجهزة الأمن الإتصالات عبر الإنترنت عن المدينة بأكملها لمدة 12 ساعة على التوالي يومياً خلال الأسبوع الذي قضيته هناك. وتتراكم القمامة في شوارع المدينة أكواماً. بعد هجوم قام فيه “داعش” وأشعل أفراده خلاله شاحنات لجمع القمامة، قررت الدولة معاقبة المواطنين بعدم إرسال بدائل.
حتى وقت قريب، نجت العريش نسبياً من الإشتباكات المسلحة بين الدولة و”داعش”. لكن كثيرين من سكان الشيخ زويد ورفح فروا هاربين إلى العريش نتيجة العمليات العسكرية المستمرة في تلك المناطق. ولكن الآن، بات من الطبيعي أن نسمع صوت إطلاق النار طوال المساء. إن الجيش كان يقصف بشدة المدينة، والهدف، حسب الناطق الرسمي بإسم الجيش، كان لتصفية المعاقل الإرهابية.

دينامية مأسوية

على مر السنين، حاولت الدولة المصرية شراء ولاء القبائل البدوية في سيناء من خلال تحويل دور زعيم القبائل إلى منصب حكومي رسمي. ولكن بدلاً من السماح للقبيلة أو القرية بتعيين زعيمها، فإن الدولة تفعل ذلك. وفي المقابل، لم يعد الزعيم الرسمي هو الشخص الرائد الحقيقي للأسرة أو مصدراً للثقة. “رجلٌ أعمى يقود رجلاً أعمى”، هذا ما وصف به حسين جيلبانا، الشخصية البارزة من عائلة جيلبانا في العريش، الوضع. “إن زعماء الأسر المُعَيَّنين يُخبرون الدولة بما تريد سماعه، وقد يعودون بتعليمات من الأمن إلى الشعب، ولكن هل هم حقاً قادرون على إحتواء أي مشكلة؟ أشك في ذلك”، على حد قوله.
من دون وجود قادة أقوياء، فإن سكان سيناء عالقون بين صخرة ومكان صعب: الجيش و”داعش”. وعلى الرغم من أنهم مُتَدَيّنون، فإنهم یرفضون عموماً خطاب “داعش” ویحمّلون المجموعة المتطرفة المسؤولية عن زیادة البؤس. من ناحية أخرى، تتراجع ثقة السكان في الجيش يوماً بعد يوم لأنه يقطع الإتصالات والخدمات ويحاصر المدينة ويقصف القرى ويهجّر السكان. عندما يتحوّل السكان إلى إرهابيين بالنسبة إلى الجيش، فإن “داعش” يذبحهم من دون رحمة. وإذا ظلوا صامتين، فقد تقوم المخابرات العسكرية بإعتقالهم وهدم منازلهم، وأحياناً عندما يكونوا لا يزالون في داخلها.
ومثالٌ على هذه الديناميكية المُحزِنة وقع في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت. في منتصف النهار، توقفت سيارتان في ساحة وسط مدينة العريش. قفز منهما خمسة رجال مسلحين. وأخرجوا من السيارة رجلاً في الأربعينات من عمره وألقوه أرضاً فيما كانت يداه مربوطتين خلف ظهره. تهامسوا في ما بينهم كلاماً لم يتمكن المارة من سماع تفاصيله. ثم أطلقوا النار على الرجل في الرأس وتركوا وهم يهتفون “الله أكبر!” و “المجد للإسلام!”. وإقترب المارة من جسد الرجل للإكتشاف بأنه تاجر معروف من “العريش”.
وبصعوبة، تمكّنا من التحدث مع أحد أقرباء هذا الرجل، وهو شاب وافق على الكلام بشرط عدم الكشف عن هويته. وقال ان الضحية “كان مالكا لشركة أثاث، وأنه زوّد الأثاث المكتبي لوحدات الجيش في العريش”. مضيفاً: “لم يقُد الجيش إلى أعضاء من “داعش”. كان يتاجر فقط مع الجيش، ولكن العقاب كان بقتله في الشارع في وضح النهار. ولم يرفع الجيش إصبعاً أو حتى وعد بالعثور على الجناة”.
وتوجه الشاب الغاضب إلى مسؤولي الدولة. قال: “إنكم تحتجزوننا وتدعوننا خونة وتقصفوا منازلنا، ولكن لا تزعجوا أنفسكم بالعثور على من يقتلنا اذا تعاونّا او تعاملنا معكم”. “هذا القمع والظلم اللذان تمارسونهما على شعب سيناء لن يؤدي إلّا إلى خلق بيئة خصبة لتجنيد أعضاء لتنظيم “داعش”. لقد تحوّلت سيناء إلى حاضنة للإرهاب. فليس لديكم سوى لوم أنفسكم”.

• ماجد عاطف صحافي مصري مقيم في القاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى