يريدون رئيساً “حَضَر فتَرأّس”

بقلم سجعان قزي*

الخِطابُ الذي ألقاه الرئيسُ اللبناني ميشال عون في قِـــمَّـــةِ عَـمَّــان ودعا فيه العربَ إلى وقفِ الإقتتالِ العسكريِّ، صالِحٌ لِأَن يُــوجِّهَه إلى الأطرافِ اللبنانـــيّين ويَدعوهُم إلى وقفِ الإقتتالِ السياسيِّ. “زادوها”. كلُّ مشروعٍ يَـتعلّق بإنبثاقِ سلطةٍ يَستدعي حَصرَ إرثِ الجمهوريّــةِ، أما كلُّ مشروعٍ يَـتعلّق بإنبثاقِ ثروةٍ فـــيَـــمرُّ كالبرْقِ بالبريدِ السريع.
رغمَ أنَّ العهدَ بادئٌ، حانَ الوقتُ أنْ نقولَ: “اِرفعوا أثقالَـكم عنه”. أكثرُ من وديعة وُطِّــــنَـت لدى الرئيس فـضَـخَّمت حِصّـــتَــه دون أن تُـــعزِّزَ دورَه. أُعطـــيَ قروضاً لم يَــطلُــــبْــها وبفائدةٍ مرتفِعة. ذا يريدُ العهدَ عهدَ “عاصفةِ الحزْم” وذانَ يريده عهدَ “إنتصارِ حلب” وذاكَ يريده عهدَ “بيتِ الوسط” وذانَـــكَ يريده عهدَ “ضاحيةِ بعبدا” وذلك يريده عهدَ المصالحةِ المسيحية. بكلمةٍ يريدونه “عهدَ الآخَرين”، لا عهدَ نفسِه.
إنَّ التأخيرَ المتعَــمَّــد في إقرارِ قانونٍ جديدٍ للإنتخابات، المشروعِ الأمِّ للحكومةِ، هو محاولــةُ إنقلابٍ على نظريّـــةِ الرئيسِ القويِّ القادرِ على تصحيحِ آلـــيّـــةِ الحكمِ المــــتَّــــبَـــعةِ والتوازناتِ المُختلَّةِ منذ “الطائفِ” و”الدوحة”. وكأن قِوى التأخيرِ تُــــبَـــلِّــغُ المعنــيِّـين أربعَ رسائل: 1) بعدَ “الطائف” لا رئيسَ جمهوريةٍ قــــويٌ أكان ذا صفةٍ تمثيلـــيّـــةٍ وميثاقـــيّــةٍ أم زعيماً في بيئتِــه. 2) القــــوّة أقوى من الرئيسِ القوي. 3) واقعُ الأرضِ أقوى من واقع الدستور. 4) والأولويّـــةُ لمعادلاتِ المِنطقةِ لا للتحالفاتِ اللبنانــيّــة.
هكذا، كــــلّما كان الرئيسُ قويّـــــاً مسيحيّــــاً زادت محاولاتُ إضعافِه، بحيث يَـتحوَّلُ عهدُه من حُـــكْم إلى محاكمةٍ (قبلَ الطائفِ وبعدَه). بعضُهم يَـــستَــلْطِـفونه رئيساً من دونِ صلاحيات، وآخرون يَسْـتَـــظْرِفونه من دون هَــيبَـــة. عرِفنا رؤساءَ كانت قـــوّتُـــهم في ضعفِــهم، وعرِفنا رؤساءَ كان ضعــفُــهم في قـــوّتِـــهم، خصوصاً حين يكون حلفاءُ الرئيس القوي أقوى منه. ويَـــتّـــضِح تدريجــاً أن الذين دعموا طويلاً ميشال عون للرئاسةِ أيّـــدوه ليكونَ مرشّحاً قويّــــاً لا رئيساً قويّـــاً. هم إستقْــــوَوا به مرشَّــحاً لإطالةِ الشغورِ الرئاسي، واليومَ، وهو رئيس، يأمَـــلون أن يَستقويَ بهم ليكونوا وصاةً على الرئاسة، كأنهم لا يُـــدركون حساسيّــةَ الرئيسِ على كلِّ الأوصياء.
هؤلاء يَــتصرّفون كأنَّ لا فرقَ بين رئيسٍ وصَفوه ـــ هُــمّ ــ بالقويِّ إســمُـــه ميشال عون وبين أيِّ مرشحٍ ضعيف. لا بل، إنَّ نجاحَ عهدِ رئيسٍ ضعيفٍ، وديعٍ، هزيلٍ، لطيفٍ، سميعٍ، ومجيبٍ مضمونٌ أكثرَ من نجاحِ عهدِ رئيسٍ قوي. الرئيسُ القويّ، بنظرهِم، هو القويُّ بوِكالتِه عنهم وبمدى قَبولِــه شروطَهم لا بمدى ممارستِه صلاحيّــاتِه وإحترامِه لموقِعه. لِــمثلِ هذا الرئيس يَــفرشون الوردَ والرياحين. أما الرئيسُ القويّ فسيكون أمامَ ثلاثةِ خِيارات: إما التخلّي عن قـــوّتِــه والتصرّفُ كأنه رئيسٌ ضعيفٌ لتسهيلِ أموره (وهو ما لا يُــجيدُه ميشال عون)، وإما الصمودُ وممارسةُ ما بقي له من صلاحياتٍ، وحينئذ، تبدو صلاحـــيّـــاتُــه قـــوّةَ نَــهْــيٍّ لا فعلَ مشاركةٍ (وهو ما يحاول أن يقوم به إضطِراراً)، وإما تجميدُ إعادةِ إحياءِ المؤسساتِ الدستوريةِ والدعوةُ إلى لبنانَ آخر (وهو ما سيحصُل لاحقاً بالدعوةِ إلى هيئةِ حوار).
أجل، ما يَجري اليومَ هو محاولةُ تحجيمِ الرئيسِ عون ومَن يُــمثِّــل وإظهارِه رئيساً عاجزاً عن خلقِ ديناميكــيَّــةٍ جديدةٍ وإجراءِ إصلاحاتٍ موعودة. إنهم يمارسون لعبةَ تفريغِ العهدِ بعد لعبةِ الشغور الرئاسي، والأولى لا تَــقِلّ خطورةً عن الأخرى. والحالُ أنَّ البلادَ لم تَشعر بعدُ بالصدمةِ الإيجابية، لا بل نلمُس سعياً حثيثاً لتصويرِ العهدِ الجديدِ بأنه عهدٌ إنتقاليٌّ وأنَّ إنجازاتِــه شائبةٌ (النفطُ والتعييناتُ والموازنةُ والكهرباء). لذا، لا بدّ للرئيسِ عون ـــ وهو المتمرِّسُ بالغضبِ الوطني ـــ من أن يرفعَ الصوتَ عالياً: “عهدي عهدُ التغييرِ يُــدعى فلا تجعلوه ضحــيّــةَ مصالحِكم وعَراضاتِكم”.
إن الذين يُــعيقون إنطلاقَ العهدِ الجديد ويُشوِّهون صورتَــه يَـــرومون ثلاثةَ أهداف: الأول، تحويلُ الرئيسِ المسيحيّ، أيِّ رئيسٍ، “ذِمِّــــــيّــــاً دستورياً” يَــبصُم دونَ نَظر، يوافقُ دون نقاش ويُـــنفِّـــذ دون إعتراض. الثاني، الحؤولُ دونَ عودةِ رئيسِ الجمهوريةِ إلى أعرافِ وميثاقيةِ ما قبلَ “الطائف” أي أنهم يريدون رئيساً “حضر فترأّس”. والثالثُ: إجتثاثُ مفهومِ الرئيسِ القويّ والميثاقيّ من معادلةِ الإنتخاباتِ الرئاسية فلا يعود المسيحيّون يطرَحونها في أيِّ إستحقاقٍ رئاسيٍّ مُــقبِل ويَـــكتفون بما يُرمى لهم من أسماءٍ فُــــتات. وكأن معركةَ الانتخاباتِ الرئاسيةِ المقبِلة (بعد عون) بدأت منذ اليوم ومعها بدأت تصفيةُ أسماءٍ وإزالةُ أخرى.
وما يَــزيد الوضعَ تعقيداً هو إنفراطُ عقدِ عُـــرّابي العهد. فالذين إنتخبوا الجنرال عون رئيساً يتصرّفون، بغالِبـــيَّــــتِــهم، كأنهم أدَّوا قِسطَهم أو أوفَوا ديْـــنَهم أو حقّقوا مُبتَـــغاهُم، والباقي على الجنرال. وأساساً ما ظننتُ لحظةً أنَّ تَـــجَـــمُّعَ القوى الذي أنتجَ الرئاسةَ العونيةَ سيبقى متَّــحِداً رُغم أنَّ المعادلةَ السياسيةَ ــ العسكرية باقيةٌ على ما هي عليه حتى إشعار “مُـــعِـــين”.
الحقيقةُ، هناك صعوبةٌ في التمييزِ بين بعضِ حلفاءِ العهدِ ومعارضيه؛ كأنَّ تأييدَ عون المرشَّحِ لم يشمل عونَ الرئيس. فالرئيس عون الذي إعتَبر عهدَه يَنطلق من دعمٍ رُباعيّ (مسيحيّ، سنيّ، شيعيّ، ودرزيّ)، يَــطيرُ اليومَ بأجنحةٍ مُتكَسِّرة. تُــصيبُــه كلُّ السهامِ حتى تلكَ المـــوجَّهةِ نحو غيرِه، كأنه مَـــمَـــرُّ السِهامِ لا مَـــمَـــرُّ الوئام.
إنَّ الرئيس ميشال عون يفضِّل الإنطلاقَ مُستنِداً إلى التغييرِ الداخليّ الذي جَمع الأضدادَ فإنتخبوه، لكنَّ غالِبيةَ الذين إنتخبوه يَـربطون العهدَ بديناميكــيّـــةِ التغييرِ الشرقِ أوسطي. ولقد تضاعَف هذا المَنحى الإرتباطيُّ بعد التحوّلاتِ العسكريةِ في سوريا وبعدَ تَهافُتِ الموفدينَ العربِ والأجانبِ إلى لبنان لحجزِ مقاعِدِهم بعدما فاجأَتْـــهم الإنتخاباتُ الرئاسيةُ نياماً. كلٌّ يريدُ شدَّ العهدِ صوبَــه، فيما التجاربُ أثبتَت أن العمادَ عون، وإنْ انحازَ، فلا يَتبع.
إنها المعضِلةُ التاريخيةُ التي واجهت كلَّ العهودِ في لبنان: فريقٌ يناضل لفكِّ إرتباطِ لبنانَ بحروبِ المِنطقة لا بقضاياها، وفريقٌ يحارِب لربطِ لبنانِ بحروبِ المِنطقة على حسابِ القضيةِ اللبنانية. هناك رؤساءُ ضَحَّـــوا بمصيرِ لبنان من أجل عهودهِم فعــــمَّروا، وهناك رؤساءُ ضَحَّـــوا بمصيرِ عهودِهم من أجل لبنان فإستُشهِدوا. هناك رؤساءُ أتَـــوا أقوياءَ وراحوا ضعفاءَ، وهناك رؤساءُ وصلوا ضعفاءَ وإنتهوا أقوياء. حـــبّـــذا أنْ يبقى الرئيسُ عون قويّــــاً من البدايةِ إلى النهاية.

* وزير العمل اللبناني السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى