أيبقى لبنانُ مُعفَى من الثوراتِ ومَشمولاً بضرائِـبِها

بقلم سجعان قزي*

منذ بدءِ عهدِ الرئيس ميشال عون، والتحدّياتُ تَــتوالى من كلِّ صَوبٍ فيما أصبح لبنانُ دولةً مبعثرةً، ومتعذِّرٌ حكمُها. هناك مَن يَطيبُ لهم إمتحانُ الرئيسِ الميثاقــيِّ والقويّ: “إن كنتَ الرئيسَ القويَّ فَــجِــدْ حلولاً فوريّـــةً لكلِّ مشاكلِ لبنانَ المُزمِنة”. كان التحــدّي الأولُ سياسيّـــاً (نوعيةُ الحكومة وتوازناتُـــها)، وكان الثاني دستوريّـــــاً (قانونُ الإنتخابات)، وكان الثالثُ أمنـــيّــــاً (أحداثُ مخــيَّمِ عين الحلوة)، وكان الرابعُ إجتماعــيّــــاً (سلسلةُ الرتبِ والرواتب والضرائب)، وكان الخامسُ عسكريّــــاً (دعوةُ الأمينِ العامّ للأممِ المــتّــحدة لنزعِ سلاحِ حزبِ الله تطبيقاً للقرارِ 1701). وكان السادس سياديّــــاً (محاولةُ إدخالِ صواريخَ إستراتيجيةٍ إلى لبنان عَبر سوريا)، ولا نَـنسى الإرهابَ، التحدّي الدائم.
مجموعُ هذه التحدّيات قنابلُ موقوتــةٌ زُرِعت على طريقِ العهد. وكل تَحدٍّ مرتبطٌ بصراعٍ كبيرٍ داخليٍّ و/أو خارجيٍّ قابلٍ للإنفجارِ لحظةَ يُــعطى فيها الضوءُ الأخضر. فالأمنُ اللبنانيُّ قرارٌ سياسيٌّ أكثرَ مما هو واقعٌ سلميّ. وسيبقى أمنــاً هشّــاً إلى حين حصولِ التحــوّلاتِ التالية: إتفاقُ اللبنانــيّين على دولةٍ جديدة، الإلتزامُ الجِدّي بالقرارين 1559 و1701، تطبيقُ جميعِ المكــوِّنات الطائفيةِ اللبنانيةِ لمفهومَي: “لبنانُ أولاً” و”لبنانُ وطنٌّ نهائي”، عودةُ النازحين السوريّــين إلى بلادِهم، مراجعةُ بقاءِ نصفِ مليونِ فلسطينيٍّ على أرض لبنان، نهايةُ الحربين في سوريا والعراق تحديداً.
بإنتظارِ ذلك، أي لدى حلولِ آخرِ الزمان، لا بدّ للبنانــيّــين، الضَنينين على الأقل بأمنِ أنفسِهم وعائلاتِــهم وأولادِهم ومصالحِـهم إنْ لم يكن بأمنِ بلادهم، أن يَــتّــــفِقوا على الحياةِ اليوميةِ طالما هم عاجزون عن الإتفاقِ على المصير. وأولُ تدبيرٍ هو تعطيلُ هذه التحدّياتِ ـــ القنابلِ من خلال ما يلي: تسوياتٌ سياسيّـــةٌ مرحلــيّــةٌ لجزءٍ منها وحَــزمٌ أمنيّ تجاهَ الجزءِ الآخَر، إحترامُ منطوقِ النظامِ الديموقراطيّ أيّ الدستورِ والقوانينِ والإستحقاقات، وعدمُ تسجيلِ إنتصاراتٍ وهميّــةٍ وعبثــيّــةٍ ضد بعضِهم البعض. وأساساً ممنوعٌ في هذه المرحلةِ على أيِّ طرفٍ لبنانيٍّ أن يَحتكِمَ إلى السلاحِ ضد طرفٍ لبنانيٍّ آخر. إختلالُ التوازنِ بين القوى يَـــتِمُّ بالسياسة.
خطرُ هذه التسوياتِ أنها تَـــفتقِد الخِياراتِ الوطنيةَ النهائيةَ، وتبقى بالتالي عاجزةً عن تأمينِ ديمومةِ الوِحدةِ الوطنية بكلِّ ما تعني هذه العبارة، لكنها تَــنـــقُل الخلافاتِ إلى داخلِ الحكوماتِ وتديرُها بنجاحٍ أحياناً وبفشلٍ أحياناً أخرى. إن التسوياتِ المرحليةَ تَسقط ما لم تُسعَــف بعد وقتٍ بحلٍّ عميقٍ للشراكةِ الوطنية، ومعها يَسقط العيشُ المشتَرك. والحالُ، أننا نعيشُ في ظلِّ حالةِ طوارئَ دستوريّـــةٍ من دونِ أن ندري، إذ إن كلَّ طرفٍ لبنانيٍّ يَنتظر مصيرَ حليفِه الإقليميّ لــــيُحدِّدَ سقفَ مطالِبه النهائية في لبنانَ الجديد. كم إنخَفضت طموحاتُـــنا وأحلامُــــنا…. الأرزةُ صارت شجرةَ بُــــنْــــدُق.
لكنْ لا يستطيع اللبنانيون البقاءَ طويلاً بعدُ في المنطقةِ الرمادية: وهي العيشُ معاً من دونِ حربٍ من جهة، ومن دون إتفاقٍ من جهة أخرى. هذه الوضعيةُ تُــحوّل لبنانَ من دولةِ الخِيارِ الوطني إلى دولةِ الأمر الواقع. والتخـــبُّـــطُ الحاصلُ اليومَ بين الشعبِ والمجلسِ النيابيِّ والحكومةِ يَجدُ عمقَـــه الحقيقيَّ في هذا الواقعِ الأليم.
إذا كان السببُ المباشَرُ لهذا الواقع هو إحتدامُ الصراعاتِ في المِنطقة، فالسببُ الحقيقيّ هو عدمُ وجودِ إرادةٍ وطنية كافيةٍ لبناءِ حياةٍ وطنيةٍ مُشتركَةٍ في إطارِ مجتمعٍ متعدِّدٍ وفي ظلِّ دولةٍ ديموقراطية، قويّـــةٍ، مستقلةٍ، وعصريّــــةٍ تسودها الحضارةُ والمساواةُ ووِحدةُ القرار. الوطنُ هو وِحدةُ الأرضِ والتاريخِ واللغة، لكنَّ الوطنيةَ هي القدرةُ على إنتاجِ دولٍ ودستورٍ ونمطِ حياةٍ متشابِــهٍ ومتكامِل.
في ظـــنّي، والخطأُ جائزٌ، لو لم يكن لبنانُ وطناً قائماً بعدُ، لما كان للّبنانــيّـــين، مسيحيّين ومسلمين، وبخاصةٍ المسيحيون منهم، أن يؤسِّسوه من جديدٍ بشكلِه الحالي، ولما كان المجتمعُ الدوليُّ ليثِـــقَ باللبنانـــيّــين مرّةً أخرى ويساعدَهم على بناءِ وطنٍ ودولةٍ كما فعلَ مَطلعَ القرنِ الماضي بسببِ ما إقـــتَــرفوا من ذُنوبٍ طَوال مئةِ عام. إن تصرّفاتِ اللبنانـيّين كانت “مِثالـــيّــةً” للقضاءِ على صيغةِ وطنٍ نموذجيٍّ وعلى دولةٍ بَـــنَــوها معاً بقناعةٍ متفاوتَـــةٍ وهَدموها بمسؤوليةٍ متفاوتَـــة. وتَـتحوّل المسؤوليةُ جريمةً حين يكتشفُ العالمُ أن اللبنانيين يَـــدْرون ما يَـــقترِفون، وأن الطبقةَ السياسيّــةَ، بكلِّ ألوانِــها وأجيالِـــها، لا تَـرْتدِعُ ولا تَندمُ ولا تَخجَل.
إن الخِــفَّــةَ والأنانـــيّــةَ واللامُبالاةَ والأحقادَ والمَنفعةَ الماديّـــةَ وقِـــلَّـــةَ المسؤوليةِ التي، طوالَ سنواتٍ، تَمـــيَّزت بها مواقفُ أكثريةِ المسؤولين السياسيّين في معالجةِ الشؤونِ العامّــة أضعَفت مناعةَ لبنانَ للصمودِ أمامَ إرتداداتِ أحداثِ المِنطقةِ والمتغيراتِ العالمية.
لذا حَــريٌّ باللبنانــيّين، شعباً ومسؤولين، أن يَستعيدوا الوعيَ والمسؤوليةَ والمبادرةَ، فيتحاشوا التطــرّفَ في المرحلةِ الحاليةِ المفتوحةِ على أخطارٍ غيرِ قابلةٍ للسيطرةِ في حالِ بلوغِها ديارَنا. ولنا في ما جرى في تونس وليبيا ومِصر وسوريا واليمن والعراق العِبرةُ الكافية. نحن اليومَ على خطِّ الـتّماسِ بين الدولِ المُعفاةِ من الثوراتِ والدولِ المشمولةِ بالثورات. ومقابلَ قِوى تَستبِــقُ العاصفةَ وتسعى لإنقاذ لبنان، هناك أُخرى تجاهِد لإضافتِه على منظومةِ الفوضى والدمار، علماً أنّنا أخذْنا حِصّـــتَنا منهما على مدى ثلاثةِ عقودٍ ونيف.
رغمَ تَــــورّطِ أفرقاءَ لبنانــيّـــين في حروبِ المِنطقة، ولاسيما في سوريا، بقي لبنانُ مُــعفى من عدوى الثوراتِ (لا مِن إرتداداتِها) نتيجةَ قرارٍ داخلي ورعايةٍ دولية. أما اليومَ، فالبعضُ يعتقد بأنه مع خروجِ “حزبِ الله” من سوريا، ستَــدخُل حربُ سوريا إلى لبنان، مع أنه لا يوجد في لبنانَ أيُّ طرفٍ سياسيٍّ أو طائفيٍّ وازنٍ يريد قتالَ أيِّ طرفٍ لبنانيٍّ آخر. لذا، لا خوفَ من حربٍ أهليةٍ جديدة، إنما الخوفُ من ثلاثةِ أمور: إعتداءٌ إسرائيليّ، أعمالٌ إرهابيةٌ تكفيرية، وشَـــغَب اللاجئين والنازحين. والثلاثة تُرى بالعينِ المجرَّدة.

• وزير العمل اللبناني السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى