السودان إلى أين؟

في 13 كانون الثاني (يناير) الفائت أصدر الرئيس باراك أوباما أمراً تنفيذياً، قبل مغادرته البيت الأبيض، للبدء بإعادة تأهيل الدولة المنبوذة، السودان، وبعد أسبوعين على ذلك عاد الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وأغلق الباب عليها مرة أخرى بأمر تنفيذي آخر بحظّر السفر على مواطنيها إلى الولايات المتحدة.

العملة السودانية: التضخم أكل قيمتها

الخرطوم – نسرين مالك*

بدا الرئيس السوداني عمر البشير، الذي إشتهر بخطاباته النارية ضد الولايات المتحدة، أخيراً مسؤولاً يتحدّث بلهجة هادئة أكثر تصالحية. فعندما أطلق الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، في كانون الثاني (يناير) الفائت، أمراً تنفيذياً رئاسياً يحظّر فيه سفر ودخول مواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة، بما فيها السودان، إلى أميركا، فإن دويّ أصوات سكان نيويورك االمُحتجّين في مطار جون كينيدي الدولي كان أعلى وأشدّ تأثيراً من صوت الحكومة السودانية وبيانها. لقد إنخفض مستوى الرد الرسمي للإعتراض على هذا القرار إلى عبد الغني النعيم، وكيل وزارة الخارجية السودانية – ولكن لم يكن بالشدة المطلوبة، حيث أكّد في النهاية على حرص السودان على “مواصلة الحوار والتعاون مع الجانب الأميركي على كافة المستويات”.
كانت هناك رسالة واضحة أُرسِلت من خلال هذا الرد الخفيف الملَطّف: بينما تعتبر الخرطوم حظر السفر على مواطنيها أمراً مُزعِجاً، فهي لا تريد تعريض التقدم الأخير الذي أحرزته نحو تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة للخطر. بعد أكثر من عقدين في البرد القارس، فإن الحكومة السودانية عازمة على إزالة عزلتها – لذا إضطر الطلاب وأصحاب البطاقة الخضراء من السودانيين الذين تقطعت بهم السبل في المطارات الأميركية إلى الإستنجاد بالإتحاد الأميركي للحريات المدنية للحصول على المساعدة المطلوبة. إن الخرطوم ليست على إستعداد لإثارة ضجة نيابة عنهم.
قبل قرار حظر السفر الذي أعلنه ترامب، كانت الامور تسير على ما يرام بالنسبة إلى البشير، الذي إتهمته المحكمة الجنائية الدولية بإرتكاب الإبادة الجماعية في العام 2009. ففي الساعات الأخيرة من رئاسته، وقّع باراك أوباما أمراً تنفيذياً رفع جزئياً العقوبات الإقتصادية عن الخرطوم التي كانت سارية منذ العام 1997، عندما إصطدم السودان مع الولايات المتحدة بسبب إستضافة أسامة بن لادن وغيره من الإرهابيين.
لقد أدّى أمر أوباما التنفيذي إلى رفع القيود المفروضة على صناعة النفط والغاز في السودان، وإلغاء تجميد بعض الأصول السودانية في أميركا، والسماح بإستيراد وتصدير بعض السلع والخدمات المعتمدة. لكن هذا القرار جاء لفترة إختبار مدتها ستة أشهر حيث ينبغي على السودان خلالها تحسين تسهيل وصول جماعات الإغاثة، والتوقف عن قصف المناطق التي يسيطر عليها المتمردّون في دارفور وجبال النوبة، ووقف دعم المتمردين في جنوب السودان المجاور، والتعاون مع وكالات الإستخبارات الأميركية.
بعبارة أخرى، فإن إدارة ترامب لديها القدرة على وضع السودان مرة أخرى في منطقة الجزاء إذا لم تكن راضية عن سلوك الحكومة في أيٍّ من هذه المجالات.
الواقع أن رفع العقوبات يُشكّل بالتأكيد خبراً ساراً لإقتصاد مُتعثّر وفي محنة شديدة. في كانون الثاني (يناير) الفائت، ذكر المكتب المركزي للإحصاء في السودان أن التضخم إرتفع للشهر الثامن على التوالي إلى 32.86 في المئة. وكان إقتصاد البلاد تعثّر منذ إنفصال نصفها الجنوبي في العام 2011، الذي أخذ معه حصة الأسد من إحتياطات النفط. وبعد ذلك تضاءلت الإيرادات الحكومية والدخل من النقد الأجنبي بشكل كبير وغير مُتَوقَّع، إذ أن إتفاقات تقاسم العائدات مع جنوب السودان إنهارت وسط إضطرابات سياسية. وقد أدّى هذا الأمر، بالإضافة إلى عدم الوصول إلى النظام المالي الدولي، إلى نقص شديد في العملة الصعبة، الذي حاولت الحكومة التخفيف منه بواسطة حظر بعض الواردات، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على أخرى. في النهاية، كل ما فعلته هو زيادة التضخم.
حتى في العاصمة الثرية نسبياً، فإن المستهلكين يشترون السلع يومياً في أكياس من أجل إطعام أسرهم في قياسات حجم الوجبة إلى أن تنفد أموالهم. ومن جهتهم يشعر التجار في أسواق شوارع المدينة بالقلق والخوف من أن بضائعهم سوف تتعفّن قبل أن يتم بيعها. وبصرف النظر عن زمرة صغيرة من النخب السياسية والتجارية الوثيقة مع النظام، فإن الجميع يتألم ويعاني.
من الصعب القول كم من هذا الوضع سببه العقوبات الأميركية وكم منه جاء نتيجة لسوء إدارة الحكومة – فكلاهما كان له تأثير سلبي في الإقتصاد السوداني. ولكن من المتوقع أن يؤدي الأمر التنفيذي الذي أصدره أوباما في 13 كانون الثاني (يناير) الفائت إلى تحسين المنظر العام لقطاعاتٍ مثل الصناعة، والزراعة، والرعاية الصحية، التي كانت محرومة من المعدّات والتكنولوجيا والإستثمار.
وكان تأثير العقوبات مدمراً على الإقتصاد. وحسب المستشار المالي والإقتصادي أمين سيد أحمد، الذي كتب كثيراً عن نظام العقوبات فإن “البنوك ترفض التعامل مع المواطنين السودانيين والشركات الخاصة المقيمة لأنها لا تستطيع حتى إجراء تحويلات دولية”. ويتساءل: “كيف يمكنك شراء المدخلات الزراعية الأساسية على سبيل المثال؟ وكيف تستطيع شراء أدوية منقذة للحياة؟ لقد عانى الناس العاديون، الذين لا إنتماء سياسياً لهم، أكثر من غيرهم”.
هذا هو السبب في أن طبقة رجال الأعمال قد رحبت بالأمر التنفيذي الذي أصدره أوباما قبل تركه البيت الأبيض، حتى لو كان السودانيون العاديون إستقبلوه بعدم المبالاة، ذلك أنه منذ فترة طويلة ضجروا ويئسوا من وعود الحكومة التي من شأنها أن تُحسّن الآفاق الاقتصادية. لكن تخفيف العقوبات لم يكن مثيراً ودراماتيكياً كما كان يأمل البعض.
“حتى منذ رفع العقوبات جزئياً، كانت البنوك بطيئة في تغيير أنظمتها” قال محمد عبد الرحمن، المدير العام لمجموعة الإستشارات التقنية ” Newtech Consulting Group”، وهي شركة هندسية مقرها في الخرطوم ولديها مشاريع في 16 دولة افريقية وشرق أوسطية.
إن عقوبة ال8.9 مليارات دولار التي فرضت على مصرف “بي.أن.بي باريبا” لإنتهاكه نظام العقوبات المفروض على السودان وكوبا وإيران لا يزال ماثلاً في الصناعة المالية. لذا يفضّل بعض البنوك تجنب خطر التعامل والعمل في السودان، حتى لو كان الأمر التنفيذي لأوباما يجعل ممارسة الأعمال التجارية من الناحية التقنية قانونياً.
“تخاف البنوك من الغرامات وبالتالي تُفرط في الإمتثال، حيث ترفض التعامل مع الشركات السودانية حتى عندما تكون لديها حسابات مصرفية في الخارج”، يقول عبد الرحمن.
إن حظر السفر الذي أمر به ترامب – وهو نسخة مُعدَّلة أعاد فرضها مرة أخرى في 6 آذار (مارس) الجاري بعد أن منع قاض إتحادي الإدارة الأميركية الجديدة من تنفيذ النسخة الأصلية – لا يوقف أو يعكس أمر تخفيف العقوبات الذي أصدره أوباما. ولكنه يعيق قدرة السودانيين على القيام بأعمال تجارية في الولايات المتحدة.
“ان مزاولة الأعمال التجارية المشروعة التي يُسمَح بها بموجب أمر [أوباما] التنفيذي الصادر في 13 كانون الثاني (يناير) تواجه صعوبة، ذلك أن حاملي التأشيرات السارية المفعول الصادرة عن الإدارة الأميركية لا يمكنهم دخول الولايات المتحدة لمزاولة الأعمال التي يُسمَح بها”، قال جي بيتر فام مدير مركز أفريقيا في المجلس الأطلسي (Atlantic Council)، مضيفاً بأن تأثير تخفيف العقوبات سوف يعتمد في جزء منه على كيفية فرض حظر السفر الذي أمر به ترامب.
ومن جهته، يقول عبد الرحمن بأن الحظر قد يُعيق قدرة شركته “NEWTECH” للإشتراك في عطاءات ومزايدات على المشاريع التي يتم تمويلها من قبل مؤسسات تمويل التنمية ومقرها في الولايات المتحدة، إذ أن موظفيه لن يكونوا قادرين على حضور إجتماعات هناك. وهو يتوقع صداعاً مماثلاً للشركات السودانية الأخرى، التي ستتلقى تنافسيتها ضربة قوية.
“مرة أخرى، إن المواطنين هم الذين يعانون؛ ذلك أن الحكومة السودانية ذات سيادة، ولذا يمكنها أن تجد وسائل لنقل الأموال والناس”، يضيف.
ليس الإقتصاد وحده الذي يعاني في ظل نظام العقوبات. إن الشباب غاضبون في ظل العزلة الإقتصادية والديبلوماسية والثقافية المفروضة على السودان. أولئك الذين يُمكنهم السفر قد غادروا البلاد، وساهموا في الهجرة الكبيرة للأدمغة والضعف العام للمجتمع المدني.
لقد إرتفع ببطء عدد التأشيرات لغير المهاجرين الصادرة للمواطنين السودانيين للعمل والسياحة والدراسة في الولايات المتحدة منذ فرض العقوبات: صدرت 5,080 تأشيرة في العام 2015، مقارنة مع 3,362 في العام 1997.
ويهدد حظر السفر بتخفيض هذا العدد إلى الصفر. ولكن بدلاً من أن يُعالِج هذا القرار مشكلة هجرة العقول فمن المرجح أن يولّد السخط في أوساط النخبة. وعلى الرغم من حرص الخرطوم على عدم السماح له بعرقلة رفع العقوبات، فإن حظر السفر يعزز الفكرة بأن السودان دولة مارقة ويعرقل التطبيع الكامل للعلاقات مع واشنطن.
كما يخدم هذا الحظر أيضاً بمثابة تذكير بأن السودان ما زال على قائمة وزارة الخارجية الأميركية ل”الدول الراعية للإرهاب”، على الرغم من أن معظم صناع السياسة الأميركية يتفق على أنه لم يعد يستحق أن يكون فيها. وكانت هذه القائمة، التي لا يمكن تغييرها إلا بموافقة الكونغرس، الأساس لإصدار قرار حظر السفر، الذي إستهدف سبعة بلدان معينة إما “راعية” أو “ملاذات آمنة” للإرهاب. (حظر السفر المعدّل يستثني العراق). وطالما بقي السودان على قائمة “الدول الراعية” للإرهاب، فسوف يظل دولة منبوذة في نظر المجتمع الدولي.
في هذه الأثناء، تستمر الحياة كالمعتاد في السودان، مع إستمرار السكان في تحمل آثار وأعباء الثغرات التي نتجت من سوء الممارسة الحكومية والعزلة الدولية المُشِلة. هناك كثيرون من الناس لا يستطيعون حتى تذكّر ما كانت عليه الحياة قبل العقوبات؛ لقد نضج وكبر جيل كامل خلال فترة الحصار.
“لقد طوّرنا الكثير من آليات للصمود والبقاء على قيد الحياة”، تقول هبة محمد، الطبيبة الشابة العاطلة من العمل. و”من الصعب أن نتصور كيف يمكن للأمور أن تكون مختلفة”.

• صحافية سودانية مقيمة في الخرطوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى