إلّا التماثيل العارية

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لن تبالي “بالي” اليوم بزائرها القادم من فجاج البداوة، وستقف رغم كل التاريخ المُضَمَّخ بالمودة في وجه سيارات الدفع الرباعي حاسرة عن نهديها. ولن يضطر “ديوا ماهندرا” للدفاع عن حضارة “السارنغ” التي كشفت عن ساقيها في وجه التاريخ ذات حضارة. حرة “بالي” وإن أكلت بثدييها، لكنها لن تُرضِع طفل الحضارة البائدة من ثقافتها المُعتَّقة على حساب أبنائها البوذيين. حرّ “جوكو ويدودو” رئيس اندونيسيا في تماثيل جاكرتا، لكن “بالي” التي تفتح فخذيها لإستقبال ملايين السائحين كل عام، لن تُغطِّي تماثيلها العارية على شرف الملك سلمان وحاشيته، وإن تجاوز الرهط الألف. “سنترك التماثيل كما هي،” يقول ماهندرا “وليس علينا أن نُغطّي أي شيء منها .. إنها ثقافتنا.” كما تؤكد السلطات في “بالي” أنها لم تتلقّ أي طلب رسمي من الزائر العربي الكبير، فلماذا تُبادر السلطات البالية بإخفاء ما بدا من عورات آلهتها وهي تجذب السائحين إليهم من كل فج عميق؟
ربما كان الملك سلمان يتوقّع لقاءً حاراً كذلك الذي تلقّاه حسن روحاني في العاصمة الإيطالية منذ عام ونيف. لكن رياح “بالي” أتت اليوم بما لم يشتهه موكب خادم الحرمين. ربما كان الثمن الذي أراد الملك السعودي أن يحفظ به ماء وجهه أقل “غواية” من ذلك الذي لوّح به رئيس الجمهورية الإسلامية والوفد المرافق. يومها وقف تمثال “ماركوس أوريليوس” حاسر الرأس، مرتدياً “البوكسر” في إنتظار مرور أعلى سلطة مُنتَخبة شعبياً في جمهورية الملالي، وهو يعض أصابع القرف والإشمئزاز.
يومها تجاهل “ماتيو رينزي” أصوات الغاضبين في شوارع روما، ووضع الخرق والفلين والأشجار العالية أمام الصدور وحول الخصور ليواري سوأة التماثيل المبعثرة في أزقة بلاده حتى لا يخدش عري “التماثيل” حياء الزائر المعمم. ويومها رفض المتحدث باسم رئاسة الوزراء التعليق على الحادث، بينما ردّ رئيس متحف “الكابيتولين” على الصحافيين بإقتضاب، “ما فعلته عن أمري”. أما وكالة أنباء “أنسا” فقد بررت تلك اللفتة “الكريمة” بأنها دلالة على تقدير بلاده للرئيس الإيراني المُعَمَّم. ثم أتت لفتة أخرى أكبر من سابقتها حين خلت مائدة العشاء الرئاسي من الخمر والجعة في تخلّ غير مسبوق عن بروتوكولات الضيافة. لكن أكمّة إيطاليا لم تخفِ ما وراءها طويلاً.
كانت زيارة روحاني أول زيارة لرئيس إيراني بعد رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية، ويومها تم توقيع صفقات تُقدَّر بسبعة عشر مليار يورو بين مئة شخصية مرافقة وشركات إيطالية تعمل في مجال البنية التحتية. ورغم لقاء “حار” جداً وغير مسبوق، جمع بين رئيس جمهورية الملالي والبابا فرانسيس، ودام أربعين دقيقة بالتمام والرفاء، إختتمه الرئيس الإيراني بطلب مدهش من بابا الفاتيكان “أن يدعو له”، إلا أن أصابع المؤمنين هناك، ظلت تشير إلى ما وراء الأكمّة، فأهل إيطاليا دوما أدرى بشعابها.
مُضحِكة أحاديث السياسة حد السخف، وباهظة تكاليف الزيارات الدينية غير الموسمية بين أقطاب ديانات لم تعد لروحانيتها ثمة وجود، في عالم طغت عليه طاولات المفاوضات وما تحت الطاولات. لكن الأشد سخفاً وتفاهة أن تشغل الشعوب رؤوسها الفارغة بتماثيل صار عريها أنبل كثيراً من كل أحاديث ساستها ورموزها الدينية. مُضحِك أن ترى رموزك الدينية تغض أبصارها عن التماثيل العارية لتخلع نعالها عن كل حانة، وتقتل المؤمنين في كل درب بدم بارد، لكنها تغضب حين تؤذي مشاعرها المُرهَفة صدور من حجر وقدود من رخام. أدعو الله أن يتقبل دعوات بابا الفاتيكان ليصبح روحاني أشد روحانية، وأن يرقّق قلوب سلطات بالي لتغطي تماثيلها العارية حتى لا تؤذي مشاعر خادم الحرمين في زيارته المقبلة.

• أديب، كاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى