مصباح بحجم العتمة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

حين يذهب زيد ويأتي عمرو، يسأل الناس عن سر الإطاحة بالأول، لكنهم لا يسألون أبدا عن سبب قدوم الأخير … ربما لأنهم جرّبوا زيداً ولم يروا على يديه إلا الفقر والبؤس والحاجة، وربما لأنهم يفهمون بالسليقة أن الإختيار كان عشوائياً بإمتياز، فلا يكاد يميّز أي عمرو إلّا يدين متّسختين ولسان يكيل المديح لكل من علت رتبته وسمت منزلته. لكننا نظلم الوطن حين نخصّه بالفساد، فقد سبقتنا إلى سبل الرذيلة السياسية شعوب كثيرة، وما الإغريقيون القدماء منّا بقريب.
فذات زيارة إلى مأوى الحكيم الساخر ديوجين، والذي كان بيته نصف برميل لا يكاد يقيه حرارة الصيف ولا برد الشتاء، رأى الحكيم أرستيبوس صديق طفولته البائسة يجلس القرفصاء فوق أرض خشنة أمام طبق من العدس البارد وفي يديه كسرات خبز يابسة. عندها رق قلب الحكيم لحال صديقه، ومال على رأسه اليابسة يقبله ويقول بصوت متهدّج: “لو تعلمت مديح الملوك يا صديقي، لما إضطررت إلى تناول العدس”.
وهنا فقط، رفع ديوجين رأسه، ليرى أثر النعمة بادياً على وجه صديقه القديم ومنحنى كرشه المتهدّل. إزدرد ديوجين المضغة التي ظل يلوكها في شدقيه دونما شهية، وقال لأرستيبوس في هدوء وثقة: “ولو تعلمت تناول العدس يا صديقي، لما إضطررت إلى مديح الملوك”.
الداءُ عضالٌ إذن، والرذيلة متوارثة، وما نحن إلى دروب الفساد بسابقين. كان ديوجين غريب الأطوار حد الفجاجة حين خرج على قومه من البرميل في وضح النهار وهو يحمل في يمناه مصباحاً لا يكاد يضيء بحثاً عن رجل. وكان شجاعاً حدّ التهوّر حين زاره الإسكندر الأكبر ذات ظهيرة في مأواه الحقير وهو نصف عار يستمتع بحمام شمس ليسأله عن حاجته. في ذلك الوقت كان الإسكندر يحكم نصف ما أشرقت عليه الشمس من أوطان، وكان بإستطاعة ديوجين أن يلقي قصيدة عصماء في إمتداح شارب الحاكم أو حاجبيه، ليحظى بنومة مريحة فوق أسرة من زغب. كان بإستطاعته أن يمتدح زي الحاكم أو أن يثني على فتوحاته العظيمة لينال عشرين فداناً في الساحل الشمالي أو وديعة في حسابه الخاص ببنك “كريدي سويس”، لكن البائس التعس لم يفعل. وحين سأله الإسكندر: “هل لك من حاجة” قال في صلافة غر: “نعم .. أريدك أن تبتعد قليلا لأنك تحجب الشمس عني”.
فلنعتد إذن مضغ الخبز اليابس والنوم في براميل الوطن، فهو أشرف وأنبل من رقص القرود عند أقدام الولاة على أية حال. وعلى من يملك كفين نظيفين وقلباً نقياً في مجتمع يزداد فساداً كل نانو ثانية أن يحمد الله، وأن يرفع رأسه كديوجين ليقول لكل من يحجب ضوء الشمس: “إليك عني”.
لا نريد من وطن يزداد قتامة سياسية كل يوم إلا حمام شمس دافئ، ولا نطمع في إقتسام الثروات مع المطبّلين للولاة أو الراقصين فوق كل بلاط. لا نريد أن نحمل حقائب وزارية ولا نحب أن نكون من المحافظين. فقط نريد من وطن يزداد ضيقاً كل مطلع فجر بيوتاً من صفيح تقينا قيظ الهجير وزمهرير الشتاء. دون أن يحجب أحدهم عنا ضوء الشمس التي توارثناها جيلاً بعد جيل. لكننا كنا نتمنى أن يخرج المسؤولون عن وطن يتلمس مصيره في محيط معتم وفي أياديهم مصابيح من وعي للبحث في براميل الوطن المتهالك عن رجال يقدّرون حجم المسؤولية ويأكلون العدس ولا يأكلون الحرام.

• أديب وكاتب وصحافي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى