التطرف في ظل نظام السيسي: سياساته القمعية فاقمت المشكلة

يبدو أن القمع الذي يمارسه النظام المصري حالياً ضد معارضيه هو الشيء الذي تبحث عنه الجماعات الإسلامية المتطرفة لجذب وتجنيد أفرادها، الأمر الذي أدى في النهاية إلى ولادة دزينة من هذه المجموعات الراديكالية التي باتت تهدد الأمن والنظام.

8cf82eba9c5a93f890957d2c49a23740

بقلم خليل العناني*

أي شخص يبحث عن دليل على زحف التطرف الإسلامي إلى مصر في ظل النظام القمعي للرئيس عبد الفتاح السيسي لا يحتاج النظر إلى أبعد من تفجير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في القاهرة في 10 كانون الأول (ديسمبر) الفائت. إن الهجوم، الذي أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) مسؤوليته عنه، أسفر عن مقتل 25 وجرح حوالي 50 شخصاً. وكانت قوات الأمن المصرية ألقت القبض على الإنتحاري المُشتَبَه به، محمود شفيق محمد مصطفى (22 عاماً)، في العام 2014 عندما كان مارّاً برفقة أحد زملائه بالقرب من مظاهرة إحتجاج للمعارضة. وقضى سنة في السجن، تعرَّض خلالها للتعذيب، من دون أن تُوجَّه إليه تُهمة بإرتكاب أي جريمة حقيقية، وفقاً لأحد محاميه. إن مسار مصطفى إلى التطرف يكشف عن السهولة التي يستفيد منها المتطرفون من سياسات نظام السيسي القمعية والتي يستغلّونها لجذب دعم المصريين الشباب.
على الرغم من أن الخبراء السياسيين والإجتماعيين ناقشوا على نطاق واسع السببية والعلاقة بين قمع الدولة والتطرف، فإن هناك أدلة وافرة على أن الإثنين يرتبطان في حالات الجزائر والشيشان ومصر وليبيا. وفي بعض الحالات، مثل الصين وكازاخستان والعراق في عهد صدام حسين، فقد وجد الخبراء أن القمع الشديد يُمكنه أن يُقلّل من الفتن والتمرّد. وفي حالات أخرى، مثل مصر، فقد وجدوا بأنه يثير ويؤجج السلوك المتطرف والعنيف.
لدى مصر تاريخ طويل مع الإرهاب والعنف السياسي، الذي بدأ في أوائل سبعينات القرن الفائت وإستمرّ حتى نهاية تسعينات القرن العشرين. ومع ذلك، فقد بلغ الآن مستوى لم يُرَ في أكثر من عقدين من الزمن. منذ تولي السيسي منصب الرئاسة في العام 2014، أقدم الإرهابيون على تفجير مبانٍ أمنية، وإغتيال بعض كبار المسؤولين والعسكريين، وتدمير آليات عسكرية، وإختطاف وإعدام عدد من الجنود والمدنيين. ووفقاً لتقارير موثّقة مختلفة، فقد إرتفع عدد الضحايا والهجمات في العامين الماضيين. كما يشير مؤشر الإرهاب العالمي إلى أن الإرهاب في مصر بلغ أعلى مستوى له منذ العام 2000. “في العام 2015 كانت هناك 662 حالة وفاة، أي بزيادة قدرها 260 في المئة عن العام 2014. وفي المقابل، من 2000 إلى 2012، فإن أعلى عدد من الوفيات المُسجَّلة في سنة واحدة كان 92، والذي كان في العام 2005”.
أدّى قمع السيسي غير المسبوق للمعارضة السلمية وغير العنيفة إلى خلق بيئة خصبة للمتطرفين والإيديولوجيات المتطرفة. وقد قامت بغالبية الهجمات منذ تولي السيسي السلطة “ولاية سيناء”، الفرع المصري لتنظيم “الدولة الإسلامية”. وقبل إنقلاب تموز (يوليو) 2013، ركّزت هذه الجماعة ( إسمها الأصلي “أنصار بيت المقدس”) عملياتها في سيناء وكانت تستهدف أساساً إسرائيل. ولكن، بعد الإنقلاب، قررت توسيع نطاق عملياتها إلى داخل الأراضي المصرية، وإستهدفت مسؤولي النظام وقوات الأمن، حيث أدّت هجماتها إلى إستنزاف موارد إدارة السيسي وأضرت بصورتها العامة كنظام قوي ومستقر.
وقد شكّل أيضاً إسلاميون آخرون مجموعاتهم وشبكاتهم المسلحة الخاصة التي تستهدف المسؤولين الحكوميين ومؤسسات النظام ومؤيديه. وعلى مدى السنوات الثلاث الفائتة، أُنشِئت ونمت دزينة من الجماعات والشبكات المتطرفة والعنيفة، من بينها “أجناد مصر”، وحركة “مولوتوف”، وحركة “لواء الثورة”. وتستخدم هذه المجموعات تكتيكات مختلفة مثل إعادة التجميع وتغيير أسمائها وأسماء أفرادها لتجنب قمع النظام ومواجهة القمع، وقد أثبتت دهاء كبيراً ومُكلفاً لنظام السيسي.
على عكس “ولاية سيناء”، التي لديها إيديولوجية متطرفة يرفضها ويدينها كثير من الإسلاميين في مصر، فإن شبكات التمرّد الجديدة المحدودة القدرة تتحرك في المقام الأول بسبب المظالم السياسية. إن أنصارها في أوساط الإسلاميين يعتبرونها طلائع ضد النظام، وكثير من الشباب الإسلاميين يهتف ويصفق لعملياتها ضد قوات الأمن الحكومية. وتميل هذه المجموعات إلى جذب الدعم وتجنيد أعضاء جدد من أولئك الذين قمعهم نظام السيسي، وأولئك الذين قد فقدوا بعض أقاربهم وأفراد عائلتهم في أعقاب الإنقلاب، خصوصاً بعد مجزرة “رابعة”، حيث ما يصل إلى 800 شخص قُتلوا في 14 آب (أغسطس) 2013. ومنهم من يرفع علامة “رابعة” (أربعة أصابع) في بياناتهم لإضفاء الشرعية على هجماتهم.
على الرغم من عدم وجود أرقام رسمية عن عدد الأشخاص الذين تحوّلوا الى التطرف أو إنضموا إلى هذه الحركات الجديدة، فإن الوتيرة الثابتة من الهجمات المتطورة — التي وصلت إلى 100 في الشهر وفقاً لبعض التقارير– تشير إلى أن المشكلة سوف تستمر لتقض مضجع النظام. وعلاوة على ذلك، على عكس المجموعات التقليدية المتطرفة في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، مثل “الجماعة الإسلامية” وجماعة الجهاد الإسلامي المصرية، التي كانت لديها تنظيمات هرمية، وهياكل منضبطة، وسلسلة صارمة من القيادة والزعامة، فإن غالبية هذه المنظمات الجديدة هي مُبهمة وذكية، وهو أمر ضروري للمناورة على النظام.

إستراتيجية تولّد الإرهاب

لم تُثبت إستراتيجية السيسي لمكافحة التطرف بأنها غير مُجدية فحسب، بل هي تؤدّي إلى نتائج عكسية. تشير تقارير عدة إلى أن سبب زيادة التشدّد بين الإسلاميين الشباب تعود إلى تكتيكات النظام. وقد أكّد إثنان من الإسلاميين السابقين اللذين قابلتهما واقعاً كئيباً. يصف أحدهما، الذي أمضى 11 شهرا في السجن المحلي من دون محاكمة، الظروف الحالية بأنها “مثالية لجذب وتجنيد الشباب الإسلاميين وتلقينهم التطرف”. ويروي الآخر قصة شاب يبلغ من العمر 18 عاماً تمّ تجنيده من قبل المتطرفين بينما كان في السجن بسبب إحتجاجه بطريقة غير مشروعة ضد النظام، حيث إنتهى به المطاف إلى الرفض والتوقّف عن لقاء والديه خلال زيارات السجون، ووصفهما بأنهما من “الكفار”. وهناك حكايات وإستنتاجات مماثلة عرضتها وسائل الإعلام المصرية والأجنبية.
وفقاً لتقرير نشرته في نيسان (إبريل) الفائت صحيفة “الشروق” المملوكة للقطاع الخاص، فإن السجون المصرية سيئة السمعة في تورا أصبحت “مركزاً حكومياً لتجنيد الإسلاميين في “داعش””. إن قوات الأمن وإدارة السجن تدركان المشكلة ولكنهما أيضاً تقومان بتسهيل ذلك من طريق السماح للمتطرفين بالإختلاط بالسجناء الجدد والتفاعل معهم. ووفقاً لأحد الذين قابلتهم، فإن هذا التكتيك يساعد النظام على تصوير جميع السجناء بأنهم “إرهابيون” وتبرير سجنهم.
وبالتالي، فإن معركة السيسي ضد الإرهاب تؤجّج المزيد من الإرهاب في حين تساعد سرد خصومه المتطرفين الذي يقول بأن النظام يشجّع التطرف من أجل تبرير سياساته القمعية. ومع وجود الآلاف من الإسلاميين في السجون الآن، فإن المتطرفين سيكونوا بالتأكيد قادرين على إستقطاب وتجنيد مئات آخرين.
للتأكيد، إن مصر تعاني من مشكلة أمنية كبيرة، وحكومة السيسي يجب أن تفعل شيئاً لمعالجتها ومحاربتها. لكن وضع السيسي كان يمكنه أن يكون أفضل توازناً في حربه على الإرهاب ضد الجماعات الإيديولوجية المتصلبة مثل “داعش” مع إصلاحات سياسية وإقتصادية ومؤسسية التي يمكنها إستمالة الفئات الأكثر تفكيراً سياسياً مثل حركة “6 إبريل”، الإسلاميون السلميون، واليساريون. على سبيل المثال، بدلاً من إضاعة مليارات الدولارات على مشاريع عملاقة مشكوك فيها، كان يمكن للسيسي تحسين الظروف الإجتماعية والإقتصادية للملايين من المصريين الذين يكافحون من أجل تلبية إحتياجاتهم الأساسية. وبدلاً من إنفاق ملايين الدولارات على بناء سجون جديدة، كان بوسعه أن يخلق الآلاف من فرص العمل للشباب المصريين الذين يشعرون بالإغتراب والإهمال على نحو متزايد. وعلاوة على ذلك، بدلاً من تعزيز الإمبراطورية الإقتصادية للجيش، كان بإمكانه أن يشجع المستثمرين المصريين، ورجال الأعمال الشباب والكبار، على الظهور والإزدهار.
الغالبية العظمى من المصريين الشباب الذين أطاحوا الرئيس حسني مبارك في العام 2011 تريد حرية التعبير وتوفير فرص العمل. تريد حياة أفضل. لقد أصبح معظمها يشعر بالمرارة والتهميش في ظل حكم السيسي، الأمر الذي يصب في النهاية في مصلحة المتطرفين والمتشددين.
إن أثر سياسات السيسي الإستبدادية تتجاوز حدود مصر وتنطوي على مخاطر إقليمية وعالمية. في خريف العام 2016، أسقطت “ولاية سيناء” طائرة روسية فوق صحراء سيناء في مصر، مما أسفر عن مقتل 224 شخصاً كانوا على متنها. كما أعلنت مسؤوليتها عن تفجير القنصلية الإيطالية في مصر في تموز (يوليو) 2011، مما أسفر عن مقتل شخص واحد على الأقل. وفي الآونة الأخيرة، أشارت السلطات المصرية إلى أنه تم العثور على آثار متفجرات على جثث ركاب الرحلة 804 التابعة ل”مصر للطيران” التي تحطمت في البحر الأبيض المتوسط في 19 أيار (مايو) 2015، مما أسفر عن مقتل 66 شخصاً كانوا على متنها. ولم تُعلِن أي جماعة إرهابية مسؤوليتها عن الحادث، لكن ليس من المستبعد أن يكون الإرهابيون متورطين. فمن المستحيل أن ننكر أن التطرف أصبح مشكلة أكبر في مصر منذ إنقلاب العام 2013، وسيكون من السذاجة أن نتوقع أن تذهب المشكلة بعيداً وتنتهي من دون معالجة دور نظام السيسي في ذلك. وبصراحة، كلما طالت فترة إحتفاظ الحكومة المصرية بسياساتها القمعية، كلما أصبح الإسلاميون أكثر تطرفاً وعنفاً.

• خليل العناني أستاذ مشارك في العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر. وهو مؤلف كتاب “داخل جماعة الإخوان المسلمين: الدين،الهوية والسياسة” (مطبعة جامعة أكسفورد، 2016).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى