أحاول جاهداً أن لا أفعل

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

تقدّم المحامي الشاب من المنصة بعدما وضع المعطف والقبعة مكانه. وتظاهر بتعديل هيأته كي يتجنّب النظر في عيني القاضي. وإلتفت يُمنةً ويُسرةً، لكنه لم يرَ مما حوله شيئاً. حاول أن يجمع أي مفردات ذات معنى على لسانه الذرب، فلم يجد. وفجأة باغته القاضي بسؤال ضاعف إرتباكه وحيرته: “هذه أول مرة تقف فيها أمام هذه المنصة، أليس كذلك؟” عندها أسقط في يدي صاحبنا، فتمتم بصوت كالفحيح: “نعم سيدي القاضي .. ولكن كيف عرفت؟” فرد القاضي مُتهكِّما: “لأنك وضعت معطفك بعيداً من ناظريك.”
لم يتعلّم المحامي الشاب في كُتب القانون التي حفظها عن ظهر وعي أن دار العدالة أفضل مكان للسرقة، وأن كفّتيّ الميزان ليستا صارمتين كما يجب، وأن الأحكام لا تيمم رأسها دوماً نحو الحق أو الحقيقة، وأن قسطاً لا يُستهان به من المواد والأحكام تظل حبيسة الرفوف والأدراج والعقول، وأن الواقع أكثر خبرة من قاعات الدرس، وقبحاً من ياقات أساتذة الحقوق البيضاء.
لا تكذب القوانين ولا تجامل، لكنها تظل طيّعة وقابلة للتشكيل والتحريف والتأويل. وهو ما يدفع بعض السذّج الطيبين كأمثال “لورد مانسفيلد” إلى رفع أياديهم وعقائرهم أحياناً في ساحة القضاء، إعتراضاً على أحكام رجال من أمثال القاضي “داننغ”: “لو كان هذا هو القانون سيدي، فسأذهب من فوري لأحرق كل الكتب التي أضعها فوق رفوف خزانتي”. لم يعرف مانسفيلد الطيب أنه حفظ متن الكتب ولم يقرأ التأويل الذي منه تخرج كل شياطين الأحكام جيداً، ولم يدرك الرجل أن الواقع القضائي فضفاض إلى حدٍّ تختلط فيه الألوان والنسب والمعطيات. وهو ما جعل “داننغ” يرد عليه بكل تبجّح: “لا تحرقها، ولكن عُدّ إلى بيتك وإقرأها مرة أخرى.”
يقرأ القاضي القانون فيفهمه كيفما يشاء، ويقرأه المحامي، فيفهمه كما يريد. ويأتي المحلفون ورؤساء النيابة، ليمارسوا دورهم غير المتناسق في المطّ والليّ والتحريف، فينزل النص في غير موضعه، فيُساق الطيبون إلى غياهب السجون سوقاً، ويخرج المنحرفون والمجرمون وقطاع الطرق من أرحام السجون ليمارسوا أدوارهم الشيطانية في إفساد الحياة بعد إصلاحها، فإذا رفعت عقيرتك مُندِّداً بحكم تراه ويراه الناس جائراً، أتاك صوت “داننغ” من أعماق نيويورك “عد إلى بيتك وإقرأ كتب القانون أولاً.”
كذبت كتب القانون ولو صدقت أيها المتشبّثون بالحواشي والمتون، وكذبت تخرصات تأتي بشمس الحقائق من مغاربها لتعرضها في بلاط العدل شاحبة باهتة حتى لا يتعرف عليها أصحابها. لا أعترض هنا بالطبع على أحكام القضاء، ولكنني أطالب بتحكيم القضاء ليأمن الناس على مصالحهم وذراريهم. أطالب هنا بتأميم المحاكم التي خصخصتها المطامع والمصالح والشهوات حتى تقف كفتا الميزان في مستوى واحد بين يدي قضاة لا يخشون في الحق لومة حاكم.
أطالب بإخراج دور العدالة من معادلات الأحزاب والفرق والجماعات ليخلع الناس عندها أحذيتهم ومعاطفهم وقبعاتهم دون خوف من سرقة أو تأويل أو تحريف. وإلا عمد الناس إلى كتب القانون فأحرقوها، وإلى الدساتير فإزدروها، وإلى دور العدالة فسرقوها. يُحكي أن “ستيفنز” إستشاط غضباً ذات يوم من حكم جائر أصدره قاض في إحدى محاكم بنسلفانيا، فألقى كتبه، وإلتقط قبعته، وظل يلتفت يُمنةً ويُسرة وهو يصب اللعنات على الدساتير والأحكام، فإستوقفه القاضي قائلاً: “تريد أن تعبّر عن إزدرائك لهيئة المحكمة الموقّرة؟ ” فما كان من “ستيفنز” إلا أن ردّ قائلاً: “لا يا سيدي، أحاول جاهداً أن لا أفعل”.

• أديب وكاتب وإعلامي مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى